فاستطعموني أطعمكم/ أ. د. صالح دعكيك

شادي باجبير
1446/04/22 - 2024/10/25 21:29PM

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة: فاستطعموني أطعمكم/ أ. د. صالح دعكيك، مسجد آل ياسر، حضرموت، المكلاَّ، 25/10/2024م

*الحمد لله رب العالمين.

     منذ أن خلق الله تعالى الإنسان، وهو لم يزل جنينا في بطن أمه، قدَّر له رزقه المحتوم، الذي كتب له في هذه الحياة، لن يزيد مثقال ذرة، ولن ينقص منه مثقال ذرة، كما في حديث ابن مسعود، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد». رواه البخاري (3208) ومسلم (2643).

    إن قضية الرزق قضية كبرى فرغ القدر منها، وهي عند الانسان لا زالت إحدى أكبر أسباب القلق والاضطراب، يتنافس الناس فيها، ومن أجلها تباغضوا، وتقاطعوا، وتدابروا، بل ربما تقاتلوا لأجلها! مع أنها قضية محسومة مقدرة، بشكل دقيق جدا، فكل دابة تدب في الأرض، وكل مخلوق يعيش، قد قُدِّر له رزقه في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق الله الدنيا ومَنْ عليها، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). هود(6).

   والله قسم الأرزاق بعدل ورحمة وحكمة، وهو أعلم بشأن خلقه وما يصلحهم، قال تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ). النحل (71) قال تعالى: (َلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ).  الشورى:(27)، أي: هو جل وعلا خبير بعباده بصير، يعلم ما ينفعهم.

الحمد لله ليس الرِّزق بالطَّلب*** ولا العطايا لذي عقلٍ ولا أدب

إن قدّر الله شيئاً أنت طالبه*** يوماً وجدت إليه أقرب السبب

وإن أبى الله ما تهوى فلا طلبٌ*** يجدي عليك ولو حاولت من كثب

    وقد دعانا ربنا جل وعلا إلى طلب الرزق منه، والتوجه إليه وحده، قال تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). العنكبوت (17).

    هل تعلم أخي الكريم أن الله تعالى في علاه، يدعونا لكي نستطعمه ونستكسيه، وندعوه بطلب حاجاتنا وإن قلَّت؟

    تعالوا نستمع لهذا الحديث القدسي العجيب، والذي يقول ربنا فيه: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عبادي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».  رواه الإمام مسلم (2577).

     إنه نداء من ربنا الكريم الرحيم، أن ندعوه ونستعينه في أمورنا كلها، وأن نطلبه في أخص حاجاتنا، نطلب منه أن يطعمنا، وأن يسقينا، وأن يكسينا، وأن يمنحنا ما عنده، يقول ياعبادي : استطعموني أطعمكم .. ياعبادي : استكسوني أكسكم .. ما هذه الرحمة، ما هذا القرب، ما هذا الاستلطاف، (فاستطعموني أطعمكم )، اطلبوا الرزق مني وحدي، فمن طلب الرزق من الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، فقد كُفِيَ مؤونة الرزق، وكان مع ذلك ذا عزةٍ وتعففٍ وترفعٍ، بعيدا من التذلل بين يدي البشر، قصيَّا عن الأسباب المخلوقة المنقطعة عن الله تبارك وتعالى.

  وهو جل في علاه ما طلب منا إلا ليعطينا، وما نادنا إلا ليحبونا، وما دعانا إلا ليتحفنا من نواله وعطاياه، بما لا يخطر لنا على بال، سبحانه سبحانه!!

فالزم يديك بحبل الله معتصما ***  فإنه الركن إن خانتك أركان

من استجار بغير الله في فزع ***  فإن ناصره عجز وخذلان

   هَذَا الحَدِيث القُدْسِيُّ العَظِيم يعطي المؤمن رفعة وعزة، ويرقى به في عزة واستعلاء عن الخلق، بحيث لا ينحني أمام أحد من الناس، ولا يذل للأمراء ولا للأغنياء، يستعطفهم ليعطوه، أو يسترزقهم بشي من لعاعات الدنيا، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وربنا قال في محكم تنزيله : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ). البقرة (186).

   وانظر إلى شعور النفس من داخلها وهي تسمع ربها يقول: (فإني قريب)، فما بالك تذهب لتستعطف البعيد، والقريب يناديك؟!

لا تسألن من ابن آدم حاجة *** وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسئل يغضب

    إننا معاشر الأحبة يجب أن نوقن تمام اليقين أن الرزق ما كتبه الرزاق، وأن خزائن الله ملأى، وأن المجاديف بأيدينا وبابه مفتوح، وفي الحديث: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده». رواه البخاري (7411) ومسلم (993).

عبادالله : لا طريق إلى حصول المؤمن للمطلوب من الخيرات كبيرها وصغيرها، ومن دفع البلايا عظيمها وحقيرها، إلا بالتطفل على موائد أكَرَمِ الأكرمين، ومَنْ بيده خزائن الأرض والسماء، ومَنْ عطاؤه لا ينفد ، وكرمه لا ينقطع.

     استطعم ربك واطلبه في كبير حاجاتك كبيرها وصغيرها، لا تترد البتة، فإنه يسمعك، ويبصرك، ويعلم مكانك وحاجتك، ويحب العبد الملحاح في الدعاء، هكذا يرشدنا نبينا عليه الصلاة والسلام فيقول: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع). رواه الترمذي (3973) والضياء في المختارة (1610) وقال : رجال موثقون والصواب أنه مرسل.

  زاد الترمذي في رواية عن ثابت البُنَاني مرسلاً: «حتى يسأَلَه المِلْحَ، وحتى يسأله شِسْعَهُ إذا انْقَطَعَ» .

   نعم .. يمكنك أن تذكر حاجاتك لله، ولو صغرت، أو ربما ترى أنها لا تليق بسؤال الله، فلا تتردد أبدا، فقد كان سلفك الصالح يسألون ربهم أدق المطالب.

    قال عروة بن الزبير: "إني أسأل الله في صلاتي ، حتى أسأله الملح إلى أهلي "، وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته!!

  فلك أخي المسلم أن تدعوا الله بما تجده في نفسك، وتدعوا بأي حاجة لك، وإن كانت هينة وسهلة، فإن السلف كانوا يدعون بتيسير الملح وعلف الدواب وغيرها، فمدْ يديك إلى ربك، واسأله تيسير ولو دقائق الأمور، فالدعاء عبادة، سواء لأمور الدنيا أو الآخرة. 

   إن ففضل الله سبحانه وتعالى واسع، وكرمه عميم، وأنه سبحانه لا يتعاظمه شيء يعطيه، ولو أعطى كل واحد مسألته ما نقص من ملكه شيء.

جاء في الحديث: ( إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُم فَلْيُكثِر ، فَإِنَّمَا يَسأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ). رواه ابن حبان (889) صحيح الجامع (437).

    لا تمل من سوال الله ابدا، ولا تكل من رفع يديك إلى السماء، واعلم أن يحب أن يسأل، ويحب الالحاح في الدعاء.

   أخرج الترمذي (2137) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال: قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «سَلُوا اللهَ من فَضْلِهِ، فإن الله يُحِبُّ أَن يُسأَلَ، وَأَفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرجِ». قال الأرناؤوط: وهو حديث حسن.

   وقد نادانا الله تعالى بدعوة مفتوحة، أن لا نكل ولا نمل من سؤاله من فضله ورزقه، قال جل في علاه: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). النساء (32).

     بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم.

     أقول ما تسمعون ........

((الخطبة الثانية))

عبادالله:

    إن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء، فالغنى ابتلاء، والفقر ابتلاء، كل مبتلى في دنياه بما قدر الله له، وقد أكَّد الله ذلك في كتابه؛ فقال: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾. الفجر: (15 – 17)، وقال: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾. الأنبياء: (35) ، وقال سيدنا سليمان لما أعطاه الله ما أعطاه من الملك والغِنى: ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40].

فإذا ابتلاك الله فضيَّق عليك، فاصبر وارضَ بما قسم الله لك، واسأله من فضله، وإذا أنعم الله عليك فاشكر وأدِّ حقَّ الله عليك في مالك لدينك ولإخوانك.

   ثم أيها الأخ المبارك: إياك والحرامَ، إياك أن يحملك استبطاء الرزق، أو قِلَّتُه، على أن تطلبه من غير حله.

   أخرج ابن حبان في صحيحه (3239) وابن ماجة ( 2144) من حديث عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (إن الروح الأمين نفث في روعي، أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها -وفي رواية: لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغه آخر رزق هو له،  فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته، فخذوا ما حل ودعوا ما حرم). صحيح الجامع: (7323).

   واعلم أخي الحبيب أن الكسب الحرام يُورِث غضب الجبار، ويُدخِل صاحبه النار، فهو مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: « يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به». رواه الترمذي (614) والحاكم (8302) وصححه ووافقه الذهبي.

   أسأل الله العظيم بفضله وجوده أن يجود علينا من واسع فضله، وأن يلهمنا سؤاله من فضله، وأن يكانا إلى أنسنا ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين.

      والحمد لله رب العالمين .

 

المشاهدات 270 | التعليقات 0