فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أظهر العجائب في مصنوعاته، ودل على عظمته بمخلوقاته، فأمر بالتدبر والنظر في أرضه وسماواته، أحمده سبحانه وأشكره، نعمه تترى، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق عباد الله شكراً، وأعظمهم لربه ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأصفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فاتقوا الله -عباد الله- فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مُسْتَمْسَكُ الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.

إخوة الإيمان والعقيدة ... إن في تقلُّب الليالي والأيام، وفصول السنة والأعوام، وفي تناوب الضياء والظلام، وتبدّل الحرارة والبرودة، وطلوع الشمس وأفولها، وولادة القمر واحتضاره، وغيرها من المظاهر الكونية، والتغيرات المناخية والجوية (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَار).

ويا تُرى من أين يأتي الحر في الصيف؟ وما مصدره؟ فقد أخبرنا الصادقُ المصدوقُ فقال (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)

فالصيف موعظة، وأي موعظة! فإذا كان هذا حَرُّ الصيف نَفَسَاً لجهنم، فكيف بجهنم نفسَها؟ (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيرٌ) وقال سبحانه (إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وقال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ) قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ (فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا) أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وجميع المسلمين منها.

فإذا كنا نفر الآن من هذا الحر الدنيوي، أفلا يكون الفرار من الحر الأكبر!!

في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، خرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

فحقٌّ على العاقِلِ أنْ يَسْأَلَ نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟ يا مَن لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف به إذا دنت الشمس من رؤوس الخلائق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تُدنى الشمس يوم القيامة من الخَلْق حتى تكون منهم كمقدار مِيل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرَق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا) وأشار رسول الله بيده إلى فيه.

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون- ياعباد الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

أيها المؤمنون ... إن من أعظم ما يُدفع به العذاب، وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات، والبُعْد من السيئات، فذاك هو الزاد، والتقوى خير زاد، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلَّى الله على المبعوث رحمة للعالمين.

معاشر المؤمنين ... فاتقوا الله حق التقوى، وطهروا قلوبكم فإن الله يطلع على القلوب والضمائر، وأكثروا من الأعمال الصالحة فاليوم عمَل، وغداً حساب ولا عمل، فاعمل ولا تمل، واستبقوا الخيرات، وأحسنوا.

عباد الله... لا ننس فضل الصدقة، فظلها الوارف لأصحابها في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حتى يفصل بين الناس)

وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) فإن هناك فقراء ومساكين يسكنون تحت أسقفٍ حارقة، أو في بيوت غير مكيفة؛ فهل تفقَّدْنا ونحن في شهر لهيب الصيف أحوال الجيران والقريبين، وذوي الحاجات والضعفاء والمساكين؟ ففي البيوت أسرار لا يعلم بحالها إلا الواحد القهار، ففي بيت لا يملك ما يشتري به جهاز التكييف، وبيت لا تجد فيه ثلاجة تبرد شربة ماء، وهذا فقير يئن تحت وطأة الفواتير والإيجار ... وهكذا أحوال الناس، وإنما نُرزق وننصَر ونُحفَظ بضعفائنا.

أطفئوا حر الصيف بالمواساة والصدقة، وتواصوا بالبر والمعروف، فالدال على الخير كفاعله، وارحموا العمالة الكادحة مِن حَرِّ الظهيرة، فهم بشَر يشعرون، وعن لقمة العيش يبحثون، فلا تكلفوهم ما لا يطيقون، وارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن

وصلى الله على نبينا محمد

المشاهدات 2609 | التعليقات 0