غلبة الدًين

ناصر بن علي القطامي
1437/05/17 - 2016/02/26 02:17AM
غلبة الدًين
(الخطبة الأولى)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، لا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه، إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عُمِل أثاب، لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، خيرتُه من خلقِه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين... أمّا بعد:
زرت السجن يوما لإلقاء محاضرة .. مررت بين دهاليزه وفي تصوري أن غالب من سأقابلهم هم من أرباب السوابق، أو القتلة والمجرمون .. إلا أن الواقع كان خلاف ذلك .. فعدد كبير ممن جلس أمامي في ذلك الجناح المثالي"كما يطلقون عليه" ليسوا بالحال التي ظننتهم عليها !
إذ أن ثمة عدد ليس بالقليل بدت عليهم سمات الخلق، ومظاهر النعمة ..
أكملت حديثي حتى فرغت .. فلحقني أحدهم حتى أدركني، وقال هامسا في أذني: أرجوك: أدع لنا ! فهذا ليس مكاننا ! قلت: إذن ماللذي جاء بك إلى هنا ؟ فقال بنبرة حزينة : الديون! نعم إنها الديون ! ..كم أذلت من شريف، وكم أهانت من عزيز ..

عباد الله:
إن الدَّين من الأمور الواقعية التي يحتاج الناس إليها في حياتهم اليومية وفي معاملاتهم المالية، فلا يخلو أي إنسان من أن تدعوه الضرورة يوما إلى أن يكون مدينا أو دائنا، والنبي صلى الله عليه وسلم استدان وأدان، وقد ثبتت مشروعية الدَّين بالكتاب والسنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}[البقرة:282].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي  قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله))[رواه البخاري].
ولقد حث الإسلام الحنيف على القرض الحسن، كباب من أبواب التكافل والتراحم والتحابب بين أفراد المجتمع، ولمساعدة الناس في قضاء حوائجهم، وذلك كله تحقيقًا للمصلحة الكلية الشرعية التي اعتنى بها الشرع الإسلامي.

وقد جاءت الأحاديث النبوية بالتحذير من الدين، والاستعاذة بالله منه، والترغيب في القناعة والرضا باليسير، فقد روى النسائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ))[رواه البيهقي في سننه].
وعَنْ ثَوْبَانَ  قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وكثير من الناس يتهاون بأمر الديْن، فيستدين لأمور كمالية لا حاجة له بها، بل قد يستدين لأمور محرمة تلحقه بالمسرفين، وهذا غلط: سفه في العقل وضلال في الدين؛ فإن النبي  لم يرشد الرجل الذي طلب منه أن يزوجه ولا مهر لديه فقال: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) فقال: لا أجد، لم يقل له: استقرض من الناس، وإنما قال له: ((هل معك شيء من القرآن؟)) قال: نعم، قال: ((زوجتك بما معك من القرآن))[رواه البخاري]، هذا مع أن الزواج أمر ضروري وأمر مشروع، فهو ضروري من حيث الفطرة، مشروع من حيث السنة، ومع ذلك لم يرشده النبي  إلى أن يستقرض". أ.هـ

والنبي  حذر من الاقتراض لغير ضرورة وبين عاقبة ذلك، فقد روى ثوبان أن النبي  قال من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شيئا في وجهه يوم القيامة[رواه الإمام أحمد في مسنده].
فالواجب على المسلم عدم الاستدانة إلا لضرورة؛ لأن الدًين مذلة ، فقد روي عن أنس بن مالك في شعب الإيمان أن النبي  قال: ((إيّاكم والدَّيْن فإنّه همٌّ بالليل، ومذلّة بالنهار)).
يقول القرطبي – رحمه الله – في تفسيره "وإنما كان الدَّين شيناً ومذلة لما فيه من شُغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل مِنَّته بالتأخير إلى حيث أوانه .

وقد توعد النبي  من أخذ أموال الناس ناوياً المماطلة وعدم الوفاء بأن يتلفه الله عز وجل فقال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»[صحيح البخاري].

أيها المسلمون:
لانتشار الديون في مجتمعاتنا أسباب عدة منها:
أولا: ثقافة التساهل في الاقتراض التي سوقت لها كثير من البنوك وشركات التقسيط، حتى أضحى العقل الباطن لدى فئات كثيرة مستسلما ومنقادا لها . فالتقسيط بداية المزلة والانزلاق في أتون الديون.
إن بعض المستهلكين يفرح بشراء الجديد بالتقسيط وينسى أنه سيدفع ثمن هذه الفرحة باهظاً إذا لم يستطع السداد، ولن يشفع له إغراءات الإعلانات وتشويق بريق الدعايات.

وثانيا من أسباب انتشار الديون في مجتمعاتنا: عدم الاقتصاد في المصروفات، والتوسع في توفير الكماليات، ولا يعني ذلك عدم ورود الحاجة إلى الاقتراض شريطة أن يكون في حدود ضيقة .
فقد روى البخاري – رحمه الله – عن عائشة – رضي الله عنها – "أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد"، لأن من فوائد الرّهن أن يبادر المستدين إلى أن يكون جاداً في سداد ديونه.
وثالثا من أسباب انتشار الديون في مجتمعاتنا: الوقوع في فخ البطاقات الائتمانية، فقد تبين أن مَنْ يستعملها يقع في محذورين:
أحدهما : الإسراف في المصاريف والاستغراق في الديون.
وثانيهما: الوقوع في دائرة الرِّبا، إن لم يستطع السداد في المدة المتفق عليها.

أيها المسلمون:
إن الدّين ليس هم السداد فحسب ، وإنما أمره أعظم من ذلك ، فمن المخاطر التي تلحق بالدائن:
أن الدين يمنع من مغفرة الذنوب:
فعن أبي قتادة: أن رسول الله  قام فيهم فذكرهم: "إن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال"، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله : ((نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر))، ثم قال رسول الله : ((كيف قلت؟)) قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدّين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذاك))[صحيح مسلم].

ومن العواقب التي تلحق صاحب الدين: عدم الصلاة على صاحبه ميتا (عند بعض الفقهاء): فقد كان النبي  في بادئ الأمر لا يصلي على من مات وعليه دين ولم يترك وفاءً لدينه، ويأمر أصحابه بالصلاة عليه، فإن ترك وفاءً لدينه أو قضى عنه أحد صلى عليه النبي ، ثم إنه لمَّا فتح الله عليه تحمل الديون عن أصحابها فكان يصلي على الموتى ولو كان عليهم ديون.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة  قال: "أن رسول الله  كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدَّين، فيسأل: هل ترك لدَيْنِهِ من قضاء؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً صلى عليه وإلا فلا، قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[الأحزاب:6]. فمن تُوفِّي وعليه دين - وفي رواية: ولم يترك وفاء - فعلىَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته"[أخرجه البخاري].

بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الرحمن، جزيل العطايا والإحسان، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الغر الكرام، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان.
أما بعد:
فهذه وصايا نبوية لقضاء الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الدّين، وكان يقول: ((وأعوذ بك من غلبة الدين)):
الوصية الأولى - الاقتصاد في النفقة:
فمن الواجب على المسلم الاقتصاد في النفقة، وعدم الإسراف والاقتصاد وحسن التدبير إذ أكثر الديون تصرف في الكماليات، وذلك يستلزم ضبط المصاريف وحسن تقسيمها. استنادا للتوجيه القرآني من رب العالمين {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:29]،
وذلك لأن الدين من أعظم الذنوب، كما جاء في الحديث: ((إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاءً))[رواه أبو داود].
الوصية الثانية - الصدق في نية الوفاء والعزم عليه:
فبهذه النية يسلم المرء من مغبة الدين وخطره، يقول النبي – : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)).
وروى النسائي أن النبي  قال: ((ما من أحد يدان ديناً يعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أدى الله عنه في الدنيا)) .

الوصية الثالثة- حسن الظن بالله والاستعانة به:
فالله عند ظن عبده به، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له: "يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي"، فقال له: "يا أبت من مولاك؟ "فقال: "الله"، قال عبد الله: "فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه"[صحيح البخاري].
الوصية الرابعة لقضاء الدين - الاستغفار والذكر والدعاء :
فقد أخبر النبي : بقوله: ((من لزم الاستغفار جعل الله من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب))[أخرجه أبو داود].
ومنها قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فقد قال مكحول: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه كشف الله عنه سبعين باباً من الضر أدناهن الفقر".
وهناك أدعية خاصة بقضاء الدين، ومنها:
ما روى أبو داود أن النبي –  – دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟))، فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟))، قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني.

وعن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يدعو في صلاته قائلاً: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم" (أي الدَّين). فقال رجل : يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!!. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل إذا غرم كذب، ووعد فأخلف".
ويؤخذ من هذا أن الاستعاذة من الدًّين والاستدانة أمر مطلوب، لأنه ذريعة إلى الكذب في الحديث، والخُلف في الوعد، مع ما قد يلحق صاحب الدَّين من المذلة والمهانة .

فاللهم أعذنا من المأثم والمغرم، ونعوذ بك من الهم والحزن ونعوذ بك من العجز والكسل ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال .

ثم صلوا ...
[/b]
المشاهدات 1249 | التعليقات 0