غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام
شايع بن محمد الغبيشي
غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام
الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ))
إخوة الإيمان ما أرحم الله وألطفه بنا {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}([1]) إنه ربنا الرحمن الرحيم، الغفور الرحيم، التواب الرحيم، الغفار الغفور الودود، البر الكريم البر الرحيم، ها هو سبحانه في نهاية العام وفي شهر شعبان الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم "َهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، عَزَّ وَجَلَّ، "([2]) قال القاري: "وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَعْبَانَ آخِرَ السَّنَةِ وَأَنَّ أَوَّلَهَا رَمَضَانُ"، هذا ربنا سبحانه قبل أن ترفع صحائف أعمال عباده يفيض عليهم من غفرانه، ما أعظم الفوز! غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام! تأملوا هذا الحديث، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَاّ لِمُشْرِكٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ" رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني. ولنا عباد الله مع هذا الحديث وقفات منها:
أولاً: عظيم رحمة الله بعبادة وعنايته سبحانه وبره بهم وتفضله وأنعامه عليهم، وجوده وإحسانه إليهم ومحبته للغفران فهو الغفار وهو الغفور وهو الغافر وهو الرحمن الرحيم، ومن لطفه وعنايته واهتمامه بعباده أن يطلع عليهم ليلة النصف من شعبان، ومن رحمته سبحانه أنه يريد أن ترفع صحائف أعمال عباده نقية من الذنوب، عام كامل يختم الله فيه أعمال عباده بفيضٍ من الغفران، فلا يختم العام إلا والصحائف نقية من كل ذنب، ما أعظم الفوز غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام! فما أرحم الله وألطفه بنا وما أحوجنا عباد الله أن نتعرض لرحمته وأسباب مغفرته لنكون ممن يفيض عليه الرحمة والغفران.
ثانياً: محبة الله جل وعلا وتعلق القلوب به والإقبال على طاعته والحرص على الفوز برضوانه، هذا الرب الذي يطلع علينا في نهاية عامٍ اقترفنا فيه ما اقترفنا فيختم لنا بفيض غفرانه، أليس الأولى بنا عباد الله أن تمتلأ قلوبنا بمحبته وتعظيمه وإجلاله والشوق إليه، ربنا الذي يرى إسرافنا على أنفسنا بالخطايا والموبقات، ثم ينادينا بقوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ([3]) يا أيها المسرف على نفسه لا تقنط، فربك هو الغفور الرحيم الذي يغفر الذنوب جمعياً، يا أيها المسرف على نفسه لا تيأس من روحه، بل اطمع في فضله وبره ورحمته ومغفرته فربك يقول: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ([4]) هذا هو ربنا فلنفر إليه سبحانه ولنبادر بالتوبة والرجوع إليه ولنحبه من كل قلوبنا" اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عملٍ يقربنا إلى حبك، وَنسْأَلُكَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله ومن الوقفات مع الحديث:
ثالثاً: الحرص على توحيد الله وإفراده بالعبادة فأنه طوق النجاة وسر الغفران والفوز بالجنان {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ([5]) والحذر كل الحذر من الشرك فإنه ماحق الحسنات يجعلها هباءً منثوراً، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ([6]) والشرك يا عباد الله يتسلل إلى قلوب العباد من حيث لا يشعرون وخاصة الرياء فهو أخفى من دبيب النملة، من منا رأى دبيب النملة وأثر خطوها؟ فالشرك أخفى وأدق منه، عن معقل بن يسار قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ ". قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ" رواه البخاري في الأدب وصححه الألباني
رابعاً: الحرص سلامة القلب وطهارته فالنجاة كل النجاة في سلامته وطهارته {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ([7]) وهذا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسأل: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُوم الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَان"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
عباد الله دونكم فرصة الغفران طهروا قلوبكم من الغل والبغضاء والشحناء اصفحوا ليصفح الله عنكم اغفروا ليغفر الله لكم، اعفوا ليعفو الله عنكم {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ([8]) قَالَ حَكِيمُ بْنُ كَيْسَانَ: يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَمَنْ طَهَّرَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ زَكَّاهُ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلُ. ([9]) عبد الله ربك مطلع على قلبك فالآن طهره بالعفو والصفح والتجاوز عمن أساء إليك وقل صفحت عنه وعفوت عنه لأفوز بمغفر الله ولأختم صحيفة عامي بالغفران
طهر فؤادك نقه فنجاته في طُـهره
اسْلُلْ سخيمة غله تُنجيه ساعة حشره
شعبان جاء مبشراً فأغنم تنصف شهره
عفـوٌ لـكل مسامحٍ فيضُ الإله بخيره
اصفح وكن متغافلاً لتنال عاجل بره
خامساً: أن ليلة النصف من شعبان لا تٌخص بعبادةٍ معينةٍ فلا تخص بقيام ليلها ولا بدعاء معين بل هي كغيرها من سائر ليالي العام، وكل ما أحدثه الناس فيها فهو من البدع المحدثة التي لا تزيد العبد إلا بعداً من الله جل وعلا. اللهم طهر قلوبنا من الشرك والرياء والشحناء والبغضاء واجعلنا ممن ختم عامه بالغفران يا حي يا قيوم.
([1]) [الشورى: 19]
([2]) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ
([3]) [الزمر: 53]
([4]) [طه: 82]
([5]) [الزمر: 2، 3]
([6]) [الزمر: 65، 66]
([7]) [الشعراء: 88، 89]
([8]) [النور: 22]
([9]) التبصرة لابن الجوزي (2/ 58)
المرفقات
1708584662_غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام.pdf
1708584668_غفرانٌ عَامٌ في نهاية العام.docx