غضُ البصرِ طهارةٌ للقلب وزكاةٌ للبدن - للشيخ د.زيد بن عبدالعزيز الشثري
حامد الشثري
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فإن أحسنَ الحديث كتابُ الله وأحسنَ الهدى هدىُ محمد ﷺ وشرَ الأمور محدثاتُها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المسلمون
أمر اللهُ بغضِ البصرِ عبادَه المؤمنين، فقال جل وعلا: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...} [النور: 30-31].
أخرج ابنُ جريرٍ ¬ عن ابنِ زيدٍ¬، في قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} قال: "يغضّ من بصره، ... ولا يستطيع أحدٌ أن يغضّ بصرِه كلِه، إنما قال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}".
وأمر اللهُ بغضِ البصرِ المؤمنين والمؤمنات وبين أنه أزكى لهم ثم بيَّن أنه خبيرٌ بما يصنعون وما يعملون وإلى أيِ شيءٍ ينظرون.
وقد عفا الشارعُ عن نظرِ الفجأة، وهو النظرُ الفجائيُ العابرُ دون قصدٍ للنظر إلى الحرام.
أخرج مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ¢، قَالَ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي)).
ورخصَ الشارعُ في النظرة الأولى التي جاءت من غير قصدٍ دون إتباعٍ للنظر وتلذذٍ بالحرام.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن بُرَيْدَةَ بن الحصيبِ¢، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ ¢: ((يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ¢ أن رسول الله ﷺ قال: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ)).
أيها المسلمون:
النظرُ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس، كما جاء في الحديث، فكم ترتبَ على إطلاقِ العينِ في النظرِ الحرامِ من مفاسد، وأعقبها من مآسٍ ومهالِك، وقد قيل: نَظرَةٌ فَابتِسامَةٌ فَسَلامٌ** فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ.
النظرُ بريدُ الزنا وطريقه، وإذا أطلق المرء نظره في الحرام أصبح بالُه مشغولاً ونفسُه مرهقةٌ متعبةٌ مع ارتكاب الحرام ومعيةِ ربِ العالمين.
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ** لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ
رَأَيْتَ الذي لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ** عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ
ومن أطلق لحظاتِه دامت حسراتُه.
فإذا كنتَ جالساً في طريقِ الناسِ أو في مكانٍ عامٍ، فإياك وإطلاقَ بصرِك في الغادي والرائح، أخرج مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ¢، عَنِ النَّبِيِّ ﷺقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)) قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟، قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)).
واللهُ يقول: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} {طه:131}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ¬:"يتناول النظرَ إلى الأموالِ واللباسِ والصورِ وغيرِ ذلك من متاعِ الدنيا...وذلك أنَّ اللهَ تعالى يمتعُ بالصورِ كما يمتعُ بالأموال، وكلاهما من زهرةِ الحياةِ الدنيا، وكلاهما يفتنُ أهلَه وأصحابَه، وربما أفضى به إلى الهلاكِ دنياً وأخرى ...".اهـ
أيها المسلمون:
لغض البصر فوائدُ ذكرها ابنُ القيمِ ¬ قال: "إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده...
الفائدة الثانية في غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة. قال أبو شجاع الكرمانى: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".
الفائدة الثالثة: قوةُ القلبِ وثباتُه وشجاعتُه، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه...".
أيها المسلمون
لا تتبعوا نظراتِكم بالنظرِ إلى الحرامِ، فكم أورثت من مهالِك، ومن ترك شيئاً لله عوضه اللهُ خيراً منه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق تقواه واعملوا بطاعته واطلبوا رضاه.
أيها المسلمون:
إنَّ إطلاقَ البصرِ في المحرماتِ، كما هو مشاهدٌ عبر التطبيقاتِ وأجهزةِ الجوالات، ومواقعِ الإنترنت، يورث ذل النفسِ ومقتَها من الله، ومن ذلك النظرُ في صور النساء متبرجات متجملات، وفي الحديث عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ ƒ عن النبي ﷺ قال: ((ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ على الرِّجَالِ من النِّسَاءِ)) متفق عليه.
فاتق الله يا من أطلقت بصرَك في المحرمات، وظننتَ أن اللهَ لا يراك بل وجعلتَ اللهَ أهونَ الناظرين إليك، فكيف بك إذا وقفتَ بين يدي الله، وسألك عن نظرِ الحرام، وأنَّك أطلقتَ بصرَك فيما حرم اللهُ وفيما لا يحل لك، والإنسانُ يبدأ شيئاً فشيئاً، ثم يتساهلُ بذلك حتى يقومَ بإرسالِ صورِ النساءِ متبرجاتٍ متجملاتٍ إلى الآخرين، فيزيدُ إثمُه ويعظمُ سُوؤه، فليتقِ اللهَ من يقومُ يإرسالِ صورِ النساءِ، فإنَّ كلَّ من رأى تلك الصورَ المرسِلَ الأول والمرسلينَ بعد ذلك يبوؤون بإثمِ المطلعينَ عليها، وواقعُ جوالاتِ الناسِ اليوم يطلعون فيها على المحرماتِ من صورِ النساءِ وغيرِها، فليتقِ اللهَ مَن معه هذا الجوال، وليراقبِ اللهَ فيه فإنه مسؤول عنه أمام الله.
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ *** والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحِ من نظرِ الإلهِ وقل لها *** إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يرانِي
ثم صلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية...
المرفقات
1675339137_نسخة خطبة_بعنوان_غضُ_البصرِ_عن_المحرماتِ_طهارةٌ_للقلب_وزكاةٌ_للبدن.docx
1675339137_خطبة_بعنوان_غضُ_البصرِ_عن_المحرماتِ_طهارةٌ_للقلب_وزكاةٌ_للبدن.pdf