غَضُّ البَصَرِ خطبة

عبدالرحمن سليمان المصري
1445/12/21 - 2024/06/27 17:29PM

غَضُّ البَصَرِ

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الوَدودُ الغَفُورُ ، يَعلمُ خَائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصُّدُورُ ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وإليهِ النُّشورُ ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :

أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عبادَ اللهِ: أَنعمَ اللهُ عَليْنا بِنِعَمٍ كَثِيرةٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى ، ومِنْ هَذهِ النِّعَمِ ؛ نِعمةُ البَصَرِ .

والعينُ مِنْ أَسْرارِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فهِيَ معْ صِغَرِ حَجْمِها ؛ فَإنَّها تتَّسِعُ لِرؤُيةِ هذا الكَونِ الوَاسعِ ، وقدْ سَمَّاها اللهُ تعالى حَبيبةَ الإِنسانِ وكَرِيمتهُ ، قال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ

عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ" رواه البخاري ،  وعند الترمذي " ‌إِذَا ‌أَخَذْتُ ‌كَرِيمَتَيْ ‌عَبْدِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزَاءٌ عِنْدِي إِلَّا الجَنَّةَ"

واللهُ حِينَ امتنَّ على عِبادهِ بِنعمَةِ الإِبصَارِ ، طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾النحل:78. وشُكرُ الخَالقِ يكونُ بالقلبِ واللِّسانِ على هذهِ

النِّعمةِ ، وأنْ يَستعمِلَها العبدُ فيما يُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ .

عبادَ اللهِ : والبَصرُ هوَ البابُ الأكبرُ إلى القلبِ ، وأقصرُ الطُّرقِ المُوصِلةِ إليهِ ، ولذا أَمرَ اللهُ تعالى بِغضِّ البَصرِ قبلَ حفظِ الفرجِ ، فالنَّظرُ بريدُ الزِّنا ، والعينُ تزنِي وزِنَاهَا النَّظرُ ، قال تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا

فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾الآية ، النور.

قالَ ابنُ كثيرٍ: هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ ‌أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَنْظُرُوا إِلَّا إِلَى مَا أَبَاحَ لَهُمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ .أ. هـ.

عبادَ اللهِ: إنَّ إِطلاقَ البَصرِ في المُحرماتِ يَنبغِي عدمُ الاستخفافَ بهِ أو التَّهاونَ فيهِ ، فهوَ سِلاحُ الشيطانِ لإِغواءِ ابنِ آدمَ ، وهيَ بِذرةُ الشَّهوةِ في القلبِ ، تُسقَى بالأَمانِي ، ثُمَّ لا يَزالُ الشيطانُ يَعدُهمْ ويُمنِّيهمْ ويُقوِّي عَزائِمهمْ ؛ حتى يَقَعُوا

في حَبَائِلهِ ، قال صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ ‌النَّظْرَةَ ‌سَهْمٌ ‌مِنْ ‌سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ" رواه أحمد .

وقال صلى الله عليه وسلم : " ‌مَا ‌تَرَكْتُ ‌بَعْدِي ‌فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" رواه البخاري.

فمنْ أطلقَ لِبصرهِ العِنانَ وأَرخَى لهُ الزِّمامَ ، وتَركَهُ يَنظرُ إلى الحرامِ ؛ أَضرَّ بِقلبهِ أَشدَّ الضَّررِ :

كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ

وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ ... فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ

يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ

عبادَ اللهِ:  إِنَّ كَثيراً منَ النَّاسِ يَشكونَ قَسوةً في قُلوبهمْ ، وذَهابَ الخُشوعِ في صَلاتِهمْ ، وفُقدانَ حَلاوةِ مُناجاةِ رَبِّهمْ ،  بِسببِ إِدمانِ النَّظرِ إلى المُحرماتِ ، فَتَعْلقَ بِأذهَانِهمْ ، ويَنْزلَ أَثرُهَا على قُلوبِهمْ ، فَتَصدأَ القُلوبُ منْ كَثرةِ ما يَهْبِطُ عليها

، مِنْ أَقْذَارِ البَصَرِ التي يُشَاهِدُونهَا.

وقدْ جاءتِ السُّنةُ النَّبويةُ آمرةً بِغضِّ البَصرِ ، فهوَ أحدُ حُقوقِ الطَّريقِ ، والاسْتئذانُ إِنَّما شُرعَ منْ أَجلِ البَصرِ ، وقالَ صلى الله عليه وسلم : لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" يَا عَلِيُّ ، ‌لَا ‌تُتْبِعِ ‌النَّظْرَةَ ‌النَّظْرَةَ ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ "

رواه أبوداود وحسنه الألباني.

وعنْ جَريرِ بنِ عبداللهِ البَجَليِّ رضي الله عنه قالَ : سَألتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرفَ بَصَرِي "رواه مسلم .

والمَعنَى أَنَّ النَّظرَ إِلى الأَجْنبيَّةِ ، إِذَا حَصلَ دُونَ قَصدٍ فَلا إِثمَ عَليهِ ، ويَجبُ أنْ يَصرفَ بَصرَهُ في الحَالِ ، لكنَّ تِكرارَ النَّظرِ أوْ اسْتدَامَتهُ إِثمٌ وخَطِيئةٌ .

قالَ تَعالَى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ غافر:19.

يُخبرُ اللهُ تَعالَى عَنْ عِلمهِ التَّامِّ الْمُحيطِ بِجميعِ الأشياءِ ، لِيحذرَ النَّاسُ عِلمَهُ فِيهمْ ، فَيسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحيَاءِ ، ويُرَاقِبُوهُ في الجَهرِ والخَفاءِ ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم ا: هُوَ الرَّجلُ يكونُ في القَومِ فتَمُرُّ بِهمُ المرْأَةُ الْحَسْنَاءُ ، فَيُريهمْ

أنَّهُ يَغُضُّ بَصَرهُ عَنْها ، فإِذا غَفَلُوا نَظَرَ إِلَيهَا .أ. هـ.

قال تعالى : ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فصلت:22.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً  ،       أمَّا بعدُ :

عبادَ اللهِ: إِنَّ لِغضِّ البَصرِ عَنِ الحَرامِ فَوائِدٌ وثَمراتٌ يَجنِيهَا العَبدُ في الدُّنيا والآخِرةِ ، مِنهَا : تَخْليصُ القَلبِ مِنْ أَلمِ الحَسرةِ ، ويُورثُ صِحَّةَ الفِرَاسةِ ، وقُوَّةَ القَلبِ وثَبَاتهِ وشَجَاعتهِ ضِدَّ الشَّيطانِ وَوَسَاوِسهِ ، ويُورِثُ القَلبَ سُرُوراً وانْشِراحاً

، أَعْظمَ منَ اللَّذةِ والسُّرورَ الحَاصلِ بِالنَّظرِ ؛ وذلكَ لِقهرهِ عَدُوهِ بِمُخالفَتهِ ومُخالفةِ نِفسهِ وهَواهُ ، كَما أَنَّ غَضَّ البَصرِ يُورثُ القَلبَ نُوراً وإِشْراقاً يَظهرُ في الوَجهِ والجَوارحِ ، وقَدْ ذَكرَ اللهُ سُبحانَهُ آيةَ النُّورِ في قَولهِ تَعَالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضِ ﴾ بَعدَ آياتِ الأَمرِ بِغضِّ البَصرِ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ وَجاءَ الحَديثُ مُطابقاً لهِذَا ، " إِنَّ ‌النَّظْرَةَ ‌سَهْمٌ ‌مِنْ   

‌سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ" رواه أحمد .

عبادَ اللهِ : ومِنَ الوَسائلِ المُعينةِ على غَضِّ البَصرِ ، اسْتِحضارُ مُراقبةِ اللهِ واطِلاعهِ عَليكَ ،﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ ، ومِنْها اللُجوءُ إلى اللهِ تعالى بِالدُّعاءِ ، ومِنَ الوَسائلِ المُعينةِ على غَضِّ البَصرِ الزَّواجُ ، وكَذَا مُجاهدةُ النَّفسِ وتَعوِيدِهَا

على غَضِّ البَصرِ والصَّبرِ على ذَلكَ ، وكَذا إِقامةُ الصَّلاةِ والمُحافظةُ عَليهَا معَ إِدراكِ تَكبيرةِ الإِحرامِ ، ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ ، والإِكثارُ منْ نَوافلِ العِباداتِ ومِنهَا الصَّوم ، والبُعدُ عنْ فُضولِ النَّظرِ ، وصُحبةِ الأَخيارِ ،

والخَوفُ منْ سُوءِ الخَاتمةِ .

عبادَ اللهِ : لَقدْ اسْتهانَ كثيرٌ مِنَ المُسلمينَ في النَّظرِ إلى النِّساءِ ، في الأَسْواقِ ، والمُسْتشفياتِ ، والمُتَنزهَاتِ ، وعَبرَ الشَّاشاتِ والجَوالاتِ ، وحتَّى في أَشرفِ الأَمَاكنِ عندَ الكَعبةِ المُشرَّفةِ في الحجِّ والعُمرةِ ، وقدْ يكونُ بينَ الأقاربِ

اجتماعاتٌ واختلاطٌ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ؛ فَلابُدَّ منْ غَضِّ البَصرِ ، قال صلى الله عليه وسلم :  

" ‌إِنَّ ‌الدُّنْيَا ‌حُلْوَةٌ ‌خَضِرَةٌ، ‌وَإِنَّ ‌اللهَ ‌مُسْتَخْلِفُكُمْ ‌فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ " رواه مسلم .

عبادَ اللهِ: إِنَّ غَضَّ البَصرِ عنِ المُحرماتِ ؛ عِبادةٌ تُوجِبُ رِضَا اللهِ تَعَالى ، وتَرْفعُ سَخَطَهُ وعَذَابَهُ يَومَ القِيامَةِ ، قالَ صلى الله عليه وسلم:  "‌ثلاثَةٌ ‌لا ‌تَرى ‌أعينُهم ‌النارَ: ‌عينٌ حرسَتْ في سبيلِ الله، وعينٌ بكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله ، وعينٌ كَفَّتْ عن

محارِمِ الله" رواه الطبراني وحسنه الألباني.

اللَّهمَ إِنَّا نَسأَلُكَ فِعلَ الخَيراتِ وتَركَ المُنكراتِ وحُبَّ المَساكينِ ، وأَنْ تَغفرَ لنَا وتَرْحَمنَا ، وإِذَا أَرَدتَ بِعبادِكَ فِتنةً ، فَاقْبِضَنا إِليكَ غَيرَ مَفْتُونِينَ .

هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.

اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .

 

المرفقات

1719498425_غض البصر خطبة جمعة.pdf

1719512777_غض البصر خطبة جمعة.docx

المشاهدات 706 | التعليقات 0