غضب الأحبة
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ نَشرَ في الكَونِ آياتِ قُدرتِه، وأَفاضَ على عِبادِه من خَيراتِه ونعمتِه، أَحمدُه سبحانَه أَكرمَ عبادَه المؤمنينَ الصالحينَ بمحبتِه، ووَعدَهم برضوانِه وجَنتِه، وتَوعَّدَ الكافرينَ بالعَذابِ الشَّديدِ ونقمتِه، وأَشكرُه سبحانَه شُكراً عَظيماً يَليقُ بعظمتِه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له شَهادةً أَرجو بها نَيلَ رَحمتِه، وأَشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه بَلغَ رسالتَه وأَدى أَمانتَه ونَصح لأمتِه، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصَحابتِه، أَما بعدُ:
فيَا أَيها الأحبةُ، أوصيكم ونَفسي بتقوى اللهِ فهو سبيلُ مَحبتِه: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
تعالوا معي لندخلَ أعظمَ جامعةٍ عرفَها التَّاريخُ على الإطلاقِ، وأحضروا معَكُم الأقلامَ والأوراقَ، واستمعوا لدرسٍ من دروسِ الحبِّ والأخلاقِ .. الجامعةُ: هي المسجدُ النَّبويُّ الشَّريفٌ، والقاعةُ: هي حُجرةُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها.
جلسَ خَيرُ النَّاسِ لأهلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مع زوجتِه عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، فقالَ لها: (إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)، قَالَتْ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟، قَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ)، قَالَتْ: أَجَلْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ)، فيا عَجباً على عِتابِهِ النَّاعمِ اللَّطيفِ، وما أجملَ تَبريرَ الحبيبِ الغاضبِ الرَّهيفِ.
هكذا هي قوةُ ملاحظةِ الأحبَّةِ، فها هو صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ينتبِهُ إلى اختلافِ قَسَمِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها في حِينِ رِضاها وغَضبِها، لأنَّ الحبيبَ الحقيقيَّ هو الذي يعلمُ مشاعرَ حبيبِه ولو حاولَ إخفائها، وكأنَّ لسانَ حالِه:
حديثُ الروحْ للأرواحِ يَسْرِي *** وتدركهُ القلوبُ بِلا عناءِ
وهكذا هو عجيبُ غضبِ الأحبَّةِ، ولذلكَ استطاعتْ أن تتحكَّمَ في مشاعرِها، فلم يختلفْ في غضبِها لونُ وجهِها، ولا نبرةُ صوتِها، ولا أسلوبُ كلامِها، ولكن .. هكذا هو غضبُ الأحبَّةِ فقد لا يُعرفُ أحياناً إلا بالعيونِ:
وإذا العُيونُ تَحدّثتْ بلُغاتِـها *** قالتْ مَقالًا لم يَقُلْهُ خَطيـبُ
أيُّها الأحبَّةُ .. كيفَ نحنُ إذا غَضبنا من أحبابِنا؟، هل نتحكَّمُ في أعصابِنا؟، هل نهجرُ الاسمَ فقط؟، أم نهجرُ الاسمَ والحبَّ والكلامَ الحكيمَ، ونهجرُ العِشرةَ والإحسانَ والفضلَ القديمَ، بل قد نهجرُ حتى المكانِ. .. لماذا إذا غَضِبَ البعضُ من أحبابِه تحوَّلَ إلى عدوٍّ لدودٍ؟، فأتى بالعِتابِ الأولِ والآخرِ، وأتى بالخطأِ الماضي والحاضرِ، حتى إذا ذهبَ غضبُه، وإذا قد فعلَ فِعلَ ريحِ عادٍ، قد دمَّرتْ كلَّ حُبٍّ ووِدادٍ، وأعظمُ دمارٍ هو ما أصابَ هذا القلبَ الجريحَ، الذي طارتْ محبتُه في مهبِّ الرِّيحِ .. هل يُعقلُ أن تُهدمَ عَلاقاتِ السِّنينَ، بينَ الأزواجِ أو الأصدقاءِ أو المُحبينَ، بسببِ لحظةِ غضبٍ؟، فأينَ الحبُّ؟.
بل دعوني أخبرُكم أنَّ المُحبَّ الحقيقيَّ لا يمكنُ أن يغضبَ على حبيبِه، وإن غَضِبَ فإنما هو طائفٌ من عِتابٍ، لا يقفُ على الأبوابِ، وإنما ينطلقُ سريعاً كالسَّحابِ، ويقولُ وهو بعيدٌ كالسَّرابِ:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ *** جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيعِ
عندما نسمعُ وصيةَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عندما قالَ: (لا تغضبْ)، نعلمُ أنَّ تركَ الغضبِ ليسَ مُستحيلاً، بل أخبرَ أنَّ القويَّ والشَّديدَ هو الذي يملكُ نفسَه عندَ الغضبِ، ولذلكَ ينبغي أن نعلمَ أنَّ أولى النَّاسِ بعدمِ الغضبِ هم الأحبَّةُ، فكنْ أنتَ المُبادرُ والمُعتذرُ ولو أغضبَكَ أحبابُكَ، فإذا أغضبَكَ أبوكَ، فقبِّلْ يدَه وقلْ له: أنا آسفٌ، وإذا أغضبتْكَ أمُّكَ، فقبِّلْ رأسَها وقلْ لها: أبشري، وإذا أغضبتْكَ زوجتُكَ، فامسكْ يدَها وقلْ لها: أنا الغلطانُ، وإذا أغضبَكَ صديقُكَ، فاخفضْ رأسَكَ وقلْ له: صَدقتْ، فإنما هي صبرُ لحظةٍ، وشجاعةُ موقفٍ، ثُمَّ تخمدُ فوهةُ البركانِ، وترسو السَّفينةُ على برِّ الأمانِ، وتصفو سماءُ المحبةِ من الغُبارِ والدُّخانِ، وتبقى المحبَّةُ والودُّ والأُلفةُ والحنانُ.
ولم أرَ في الأعداءِ حِينَ خَبرتُهمْ *** عدوَّاً لعَقلِ المَرءِ أَعدَى من الغضبْ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أَقولُ ما تَسمعونَ، وأسألُ اللهَ لي ولكم السَّدَّادَ والعَونَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، نحمدُه، ونَستعينُه، ونَستغفرُه، ونَتوبُ إليهِ، ونَعوذُ باللهِ من شُرورِ أَنفسِنا وسَيئاتِ أَعمالِنا، من يَهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هَاديَ له، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن محمدًا عبدُه ورَسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصَحبِه وسَلمَ تَسليمًا كثيرًا، أَما بعدُ:
فالقاعدةُ التي ينبغي أن نعلمها عِلمَ يقينٍ، أنَّه لا كمالَ إلا لربِّ العالمينَ، وأنَّكَ متى اخترتَ حبيباً يستحقُّ محبتَكَ وتضحيتَكَ، فيهِ ما يُرضى من صِفاتِ الأدبِ الجمالِ، فإيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أن تُفرِّطَ فيه:
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها *** كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
نعلمُ أنَّ فينا من العيوبِ ما فينا، وأحياناً قد لا نكونُ راضينَ حتى عن أنفسِنا، فكيفَ بنا نطلبُ الكمالَ في غيرِنا، ولذلكَ فإنَّ طُولَ العِشرةِ مع الزَّوجةِ، وطُولَ المُرافقةِ مع الصَّديقِ، أولى منكَ بالتَّشبثِّ بِهم وعدمِ الغضبِ منهم، أتعلمُ لماذا؟: لأنَّهم قد بانتْ لهم عيوبُكَ كلُّها، ولا زالوا متمسكينَ بكَ زوجاً صفيِّاً، وصديقاً وفيِّاً.
أيَّها الأحبَّةُ .. إذا كانتْ الجنَّةُ تزدادُ جمالاً بوجودِ الزَّوجةِ الصَّالحةِ، كما قالَ تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)، وتحلو الأوقاتُ فيها بوجودِ الأصدقاءِ الصَّالحينَ، كما قالَ سُبحانَه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)، فمن رُزقَ في الدُّنيا زوجةٌ مُباركةٌ، ورُفقاءُ صادقونَ، فهو يعيشُ اليومَ في شيءٍ من نعيمِ الجنَّةِ.
حافظوا على أحبابِكم وزوجاتِكم، واقضوا معَهم أجملَ أوقاتِكم، فإنكم لا تدرونَ متى الفِراقُ، فاحذرْ أن يموتَ لكَ أبٌّ أو أمٌّ أو زوجةٌ أو صديقٌ وبينَكما غضبٌ، فالغَبنُ الحقيقيُّ عندما يذهبُ ولم يسمعْ كلماتِ الأسفِ والعَتبِ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، اللَّهُمَّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِـنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِـنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِـنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عُقُوقِ الأَبْنَاءِ، وَمِنْ قَطِيعَةِ الأَقْرِبَاءِ، وَمِنْ جَفْوَةِ الأَحْيَاءِ، وَمِنْ تَغَيُّرِ الأَصْدِقَاءِ، وَمِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا مِنْ جُوعٍ، وَآمِنَّا مِنْ خَوْفٍ، وَقَوِّنَا مِنْ ضَعْفٍ، وَعَلِّمْنَا مِنْ جَهَالَةٍ، وَأَنْقِذْنَا مِنْ ضَلاَلَةٍ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
1628062996_غضب الأحبة.docx
1628063008_غضب الأحبة.pdf
منصور بن هادي
نفع الله بكم وسدد خطاكم
تعديل التعليق