غسل الجنابة أحكام وآداب للدكتور صالح بن مبارك دعكيك

شادي باجبير
1445/02/25 - 2023/09/10 14:39PM

خطبة جمعة بعنوان: غسل الجنابة أحكام وآداب
للدكتور صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت في مسجد آل ياسر، المكلا، ٢٠٢٣/٩/٨م

                      الخطبة الأولى

      نحمد الله -تعالى- أن أكرمنا بهذا الدين الحنيف، الذي جاءت أحكامه مفصلة لكل أمور ديننا صغيرها وكبيرها؛ لنكون على دراية بما نأخذ وما ندع، كما قال -تعالى-: ﴿...ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ ...﴾ [الأنعام: ٣٨]. وقد تركنا -عليه الصلاة والسلام- على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

      ومن الأحكام المهمة التي نحتاجها جميعا، أحكام الغسل من الجنابة، ذلكم الغسل الذي أمرنا به الشرع، ونحن نؤديه كعبادة نتقرب بها إلى الله، طاعة لله ورسوله، وهناك أمم اليوم يعدون بالمليارات لا يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون من جماع ولا غيره، فلله الحمد على دين الإسلام، دين الطهارة والنظافة.

      أيها الأحبة، في شريعتنا أغسال واجبة على المكلف، لا بد منها إذا وجد سبب من أسبابها، وهي ما تعرف فقهياً بموجبات الغسل، وهي أربعة: الجنابة،والحيض، والنفاس، والموت.

 وحديثنا اليوم سيقتصر على غسل الجنابة وأحكامه.

الجنب: هو الشخص غير الطاهر الذي يجب عليه الاغتسال. وتسمى[الجنابة] الحدث الأكبر، وهناك حدث أصغر وهو من ليس على وضوء، فإذا أراد الصلاة ونحوها وجب عليه الوضوء.

ومتى يصير الإنسان جنباً يتوجب عليه الاغتسال؟

والجواب أن نقول: هناك ثلاثة أسباب على وجه التفصيل، إذا حصل واحد منها وجب الغسل على صاحبها.

▪السبب الأول: الجماع، وهو غشيان المرأة، أي اللقاء الجنسي، فإذا وقع الجماع وجب الغسل على كل من الرجل والمرأة، قال -تعالى-: {وإن كنتم جنباً فاطَّهروا} [المائدة:6/5].

وجاء في البخاري (287)، ومسلم (348) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع ثم جَهَدَهَا، فقد وجب الغسل".

▪السبب الثاني: الإيلاج، وهو دخول رأس الذكر إلى الفرج، وإن لم يتجاوز كله الفرج، ويقال عنه التقاء الختانين، سواء نزل المني أو لم ينزل، لأن هذا يسمى جماعاً وإن لم يكن تاما، وقد جاء في صحيح مسلم (348) [باب :وجوب الغسل بالتقاء الختانين] من حديث أبي هريرة أن النبي -ﷺ- قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل ، وإن لم ينزل».

      وروى الإمام مسلم (349) أيضا من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قَالَ : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ، أَوْ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : بَلْ إِذَا خَالَطَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى : فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُمْتُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأُذِنَ لِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ. فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ . قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".

والمراد بقوله: (مس الختان الختان) تحاذي موضع الختانين من الرجل والمرأة، وهو كناية عن الجماع، بدخول الحشفة في الفرج، وليس مجرد اللمس ووضع الذكر على ختان المرأة جماعا، بل لابد من الإيلاج، وقد جاء ذلك مصرحاً به، كما رواه ابن ماجه(611) بلفظ: ( إذا التقى الختانان وغابت الحشفة، فقد وجب الغسل، أنزل أم لم ينزل.) وحسنه الألباني في الصحيحة (1261).

       وفي صحيح مسلم (346) عن عائشة قالت: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ، ثُمَّ يُكْسِلُ، هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؟ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ ".

      ومن الأحاديث المذكورة نعلم أن كل من أولج ذكره في كل ما يسمى فرجا، قبلا أو دبرا، من آدمي صغير أو كبير، ولو حيوانا، يجب الغسل من الجميع المولِج والمولج فيه.

   وأيضا مما يستفاد من الأحاديث، أن مجرد ولوج الذكر كافي في الحكم بوجوب الاغتسال على الطرفين، ولا يشترط إنزال المني.

  قال النووي -رحمه الله- : "اعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال وعلى وجوبه بالإنزال". شرح مسلم (4/ 36)

▪السبب الثالث من أسباب الجنابة: نزول المني من الرجل أو المرأة، بأي سبب من الأسباب: سواء كان نزوله بسبب ملاعبة، أو فكر، أو استمناء، أو بأي طريقة كانت، وسواء في اليقظة أو في المنام، كل ذلك يوجب الاغتسال؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}.

    وفي حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله -ﷺ-، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله -ﷺ- : " نعم إذا رأت الماء " (رواه البخاري: 278، ومسلم 313).

وهنا نحتاج للتنبيه على عدة مسائل:

▪المسألة الأولى: الخارج من فرج الإنسان ثلاثة سوائل لزجة:المني، والمذي، والودي.

 المني: وهو سائل أبيض غليظ، يتدفق حال خروجه، ويعقب خروجه فتور.

والمذي: سائل أبيض رقيق لزج، يخرج عند الشهوة.

والودي: سائل أبيض ثخين كدر، يخرج بعد البول أو عند حمل شيء ثقيل. 

والذي يجب بخروجه الغسل هو المني، وعلاماته ثلاثة:

• التلذذ بخروجه فإنه يخرج بشهوة.
• ويخرج متدفقاًعلى دفعات.
• ورائحته إن كان رطباً كرائحة العجين، وإن كان جافاً كرائحة بياض البيض.

▪المسألة الثانية: لا يجب بخروج المذي والودي الغسل، ولكنهما نجسان كالبول، وينقضان الوضوء، جاء في حديث علي -رضي الله عنه- قال: "كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: «يغسل ذكره ويتوضأ». رواه البخاري (269)، مسلم (303).

▪المسألة الثالثة: إذا استيقظ فوجد بللًا، فيُنظر: 

- إن تيقن أنه منيٌّ، فالحكم هنا وجوب الغسل؛ لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه.

- وإن تيقن أنه ليس بمني، فالحكم عدم وجوب الغسل، لكن يجب غسل ما أصابه؛ لأن حكمه حكم البول.

-وإن شك هل هو مني أم لا؟ فعند الشافعي أنه يتخير فإن شاء جعله منياً واغتسل، أو جعله مذيا فيغسل مكانه ويتوضأ، والأفضل أن يغتسل احتياطا.

▪المسألة الرابعة: إن وجد في ثوبه منيا، ولا يعلم وقت حصوله، وكان قد صلى، يلزمه إعادة الصلاة من آخر نومة له، إلا أن يرى ما يدل على أنه قبلها، فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها.

▪المسألة الخامسة: إذا احتلم ولم يجد منيا فلا غسل عليه، قال ابن المنذر: "أجمع على هذا كل من أحفط عنه من أهل العلم". وجاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا، قَالَ: " يَغْتَسِلُ ". وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ الْبَلَلَ، قَالَ: " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ". فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ؛ أَعَلَيْهَا غُسْلٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ". أي نظائرهم في الخلق والطبع، فكأنهن شققن من الرجال. رواه أبو داود (236)، والترمذي (113) [ينظر الصحيحة: 2863].

▪المسألة السادسة: أحس بانتقال المني عند الشهوة، فأمسك ذكره فلم يخرج، فلا غسل عليه، لما تقدم من أن النبي -ﷺ- علق الاغتسال على رؤية الماء، فلا يثبت الحكم بدونه، لكن إن مشى فخرج منه المني فعليه الغسل.

▪المسألة السابعة: إن اغتسل من الجنابة، ثم خرج منه مني بعد ذلك فيجب عليه إعادة الغسل؛ لأن الغسل معلق على خروج المني وقد خرج.

▪المسألة الثامنة: إذا خرج المني بسبب المرض، أو البرد، أو غيرهما من دون شهوة، فهل يجب عليه الغسل؟

ذهب الشافعي إلى وجوب الغسل بخروج المني مطلقًا، سواء وجدت الشهوة أم لم توجد، فالعبرة بخروج المني، وجماهير العلماء أنه لا يجب الغسل إلا بخروجه مع الشهوة، فإن لم توجد فلا غسل عليه.

نسأل الله أن يفقهنا في الدين، ويصلح شأننا كله!

أقول ما تسمعون ...

                      الخطبة الثانية

     أحب هنا أن أشير هنا لبعض مسائل الغسل من الجنابة ونكتفي بمسألتين لضيق الوقت:

▪المسألة الأولى: أنه يجوز أن يغتسل غسلاً واحداً بنيتين، عن جماع وعن جمعة مثلا، وهكذا أيضاً المرأة لها ان تغتسل غسلا واحداعن جماع وحيض ونحو ذلك.

▪المسألة الثانية: أن لغسل الجنابة كيفيتين:

• الأولى: الكيفية الواجبة: وتسمى بفرائض الغسل، ولها ركنان:

- الأول: النية عند البدء بغسل الجسم، وهذا الركن الأول، وكيفيتها: أن ينوي بقلبه أداء فرض الغسل، أو رفع الجنابة.

-الثاني: غسل جميع ظاهر الجسم بالماء، بشرة وشعراً، مع إيصال الماء إلى باطن الشعر وأصوله.

روى البخاري (253)، عن جابر -رضي الله عنه -، وقد سئل عن الغسل، فقال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده).

• الثانية: الكيفية المسنونة، وهي الكاملة، فهي على النحو الآتي:

يسن للمغتسل مراعاة فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غسله، فيبدأ:

(1) بغسل يديه ثلاثا.

(2) ثم يغسل فرجه، وهنا ينوي رفع الجنابة باعتبار أنه أول جزء من بدنه، ثم لن يعود لمسه بعد ذلك.

(3) ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً كالوضوء للصلاة، وله تأخير غسل رجليه إلى أن يتم غسله، إذا كان يغتسل في طست ونحوه.

(4) ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثا مع تخليل الشعر؛ ليصل الماء إلى أصوله.

(5) ثم يفيض الماء على سائر البدن بادئاً بالشق الأيمن،ثم الايسر مع تعاهد الإبطين، وداخل الأذنين، والسرة، وأصابع الرجلين، وذلك ما يمكن دلكه من البدن.

وأصل ذلك كله ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ  حفن على رأسه ثلاث حثيات، ثم أفاض على سائر جسده). رواه البخاري ومسلم.

     وغسل المرأة كغسل الرجل، إلا أن المرأة لا يجب عليها أن تنقض ضفيرتها، إن وصل الماء إلى أصل الشعر، لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: (إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء، ثم تفضي على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت). رواه ومسلم (330).

      إن ديننا هو دين النظافة والتطهر، والله -تعالى- يقول: ﴿...إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]. فبالتنظف والطهارة نزداد قربا من الله،  ونتحصل على محبته ومرضاته جل في علاه.

فهذه مجمل الأحكام والمسائل، التي تخص الغسل من الجنابة.

وصلوا وسلموا على النبي الأمي الهادي، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين..

المشاهدات 295 | التعليقات 0