غزوة تبوك
وائل عبدالله باجروان
1437/11/01 - 2016/08/04 19:12PM
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلى الله وأن محمد عبده ورسوله.
} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {} يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثرا ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا {} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما {.
أيها الإخوة المؤمنون،،،
في السنة التاسعة من الهجرة أمر رسول الله r الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان ذلك في زمن عسرة من الناس وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم، ورغبهم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله.
فتسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، وكان عثمان بن عفان t قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره r فكان رسول الله r يقلبها ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ثم تصدق وتصدق، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله وهكذا كل أتى بما يستطيع لتجهيز الجيش حتى النساء بعثن ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرطم وخواتيم، ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون )الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم( وهكذا ظهرت علامات المنافقين من التثبيط للنفقة والخروج فكانوا يقولون لا تنفروا في الحر قالوها زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا برسول الله r فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: )وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون(
ويجيء نفر من الصحابة الفقراء أصحاب الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله r يريدون الخروج معه لقتال الروم فإذا قال لهم: )لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون( .
ثم استتب برسول الله r سفره وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله r حتى تخلفوا منهم كعب بن مالك، ومرارة بن ربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
ثم إن أبا خيثمة رجع، بعد أن سار رسول الله r أياما، إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله r في الضح -أي الشمس- والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف –أي الإنصاف- ثم قال: والله لا دخل عريش واحد منكما حتى ألحق برسول الله r ، فهيئا لي زاد، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله. ثم خرج في طلب رسول الله r حتى أدركه حين نزل تبوك، حتى إذا دنا من رسول الله r وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله r ((كن أبا خيثمة)) فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله r فقال له رسول الله r ((أولى لك يا أبا خيثمة)). ثم أخبر رسول الله r الخبر، فقال له: خيرا ودعا له بخير.
وأقام جيش المسلمين في تبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة ولم يحصل قتال، ولما دخل رسول الله r المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس فأما المنافقون فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله.
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فاختاروا الصدق، ولنسمع قصة كعب وتخلفه عن المعركة وهو يرويها بنفسه، يقول كعب بن مالك t: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله r في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله r يريد عزوة إلى ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله r في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عددا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فَقَل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله r تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعَر -أي أميل- فتجهز رسول الله r والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله r غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو –أي فات وسبق- فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، وفي هذا يعطينا كعب t فائدة عظيمة في عدم التسويف في الطاعات وتأجيل عمل الصالحات لأنها ربما تفوت على العبد فيحرم خيرا كثيرا وأجرا عظيما فينبغي للإنسان أن يبادر بالطاعات كلما سنحت له فرصة ولا يأجل ويسوف حتى تفوت عليه، قال كعب: فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله r يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلى رجلا مغموصا في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله r حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ((ما فعل كعب بن مالك؟)) فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل t : بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله r . وهكذا ينبغي للمؤمن أن يصنع صنيع معاذ t بأن يحسن الظن بأخيه ويدافع عنه إذا لمزه أحد في غيابه. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله r قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله r قد أظل قادما، زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله r قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعا وثمانين رجلا، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: ((تعال))، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ((ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك)) قال قلت: يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حيت تخلفت عنك. قال: فقال رسول الله r: ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)). وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله r بم اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله r لك. قال: فما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله r فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله r عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس –وهذه بداية الابتلاء ليرى الله صدقهم- أو قال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فاشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله r فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله r ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. –وهذا من حرص أبي قتادة على امتثال أمر رسول الله في هجرهم وكان الصحابة لا تأخذهم في دين الله لومة لائم ولا يحابون أحدا في دين الله ولو كان أحب الناس إليهم- قال كعب: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلى حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها، - وتأمل يا عبد الله موقف كعب t على رغم من هجر الرسول r وأصحابه له لمدة طويلة لا يكلمونه ولا يسلمون عليه ومع ذلك لم يتولد لديه زعزعة لانتمائه لهذا الدين بل صبر وصابر، لأنه يعلم أنه على الدين الحق، وتأمل ما فعل بتلك الرسالة سجرها التنور وأحرقها حتى يقطع على نفسه أن تفكر في الذهاب إلى ملك غسان، وهكذا المؤمن في حياته إذا من الله عليك بالتوبة من ذنب فتخلص من كل ما يذكرك بتلك المعصية، تخلص منها حتى تكتمل توبتك وتصدق مع الله وحتى لا يكون لك سبيل إلى العودة إلى تلك المعصية فيكون خلاصك منها معينا لك على الثبات وصدق التوبة- يقول كعب: حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله r يأتيني، فقال: إن رسول الله r يأمرك أن تعتزل أمرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا، بل اعتزلها فلا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله r فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربنك)) فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله r في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله r ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله r إذا استأذنته وأنا رجل شاب. فلبث بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا. فتأمل يا عبد الله كيف حال هؤلاء الثلاثة مع شدة ابتلائهم وهجر الناس لهم يمتثلون أمر رسول الله r ويطيعونه كما أمر عليه الصلاة والسلام ولا يعصونه،.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، أما بعد.
يقول كعب t:ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخا أوفى على سلع –وهو جبل بالمدينة- يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج. فآذن رسول الله r الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا. فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلى رجل فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرها يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، -وفي هذا دليل على مشروعية أن تهدي من بشرك هدية، وينبغي للإنسان إن حصل لأخيه خير أو علم خبرا يسره ويفرحه أن يبشره ويبادر بإدخال السرور عليه لما في إدخال السرور على قلب المؤمن من الأجر العظيم، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ينبغي مكافأة من بشرك بهدية تكون مناسبة للحال لأن كعب بن مالك أعطى الذي بشره ثوبيه، وقال الشيخ فأقل الأحوال أن تدعوا له بالبشارة أو تهدي له ما تيسر وكل إنسان بقدر حاله- قال كعب: وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله r جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله t يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، -فكأن كعب لا ينساها لطلحة- قال كعب: فلما سلمت على رسول الله r قال وهو يبرق وجه من السرور: ((ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)) فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله عز وجل)) وكان رسول الله r إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله r : ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعلى إنما أنجاني بالصدق، وإنه من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله r أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله r إلى يومي هذا، وإني لأرجوا أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، قال: فأنزل الله تعالى: ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ( حتى بلغ: ) إنه بهم رؤوف رحيم ، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت( حتى بلغ: ) اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( قال كعب: والله ما أنعم الله على نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله r أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال الله تعالى: ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لتروضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى على القوم الفاسقين ( قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله r حين خلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله r أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى ) وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
عباد الله،،، هذه قصة غزوة تبوك وقصة كعب t وما حصل له من البلاء العظيم الذي صبر فيه وصدق مع الله في توبته حتى أعانه وثبته فنجاه الله، فاصدقوا مع الله في حياتكم، والتزموا الصدق في جميع أموركم، في أعمالكم، في أقوالكم، في توبتكم، تفلحوا.
ألا وصلوا على الحبيب المختار كما أمرنا الله عز وجل فقال) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ( اللهم صل وسلم وأنعم وبارك على عبدك ورسولك محمد ،،،
} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {} يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثرا ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا {} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما {.
أيها الإخوة المؤمنون،،،
في السنة التاسعة من الهجرة أمر رسول الله r الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان ذلك في زمن عسرة من الناس وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم، ورغبهم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله.
فتسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، وكان عثمان بن عفان t قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره r فكان رسول الله r يقلبها ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ثم تصدق وتصدق، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله وهكذا كل أتى بما يستطيع لتجهيز الجيش حتى النساء بعثن ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرطم وخواتيم، ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون )الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم( وهكذا ظهرت علامات المنافقين من التثبيط للنفقة والخروج فكانوا يقولون لا تنفروا في الحر قالوها زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا برسول الله r فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: )وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون(
ويجيء نفر من الصحابة الفقراء أصحاب الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله r يريدون الخروج معه لقتال الروم فإذا قال لهم: )لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون( .
ثم استتب برسول الله r سفره وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله r حتى تخلفوا منهم كعب بن مالك، ومرارة بن ربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
ثم إن أبا خيثمة رجع، بعد أن سار رسول الله r أياما، إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله r في الضح -أي الشمس- والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف –أي الإنصاف- ثم قال: والله لا دخل عريش واحد منكما حتى ألحق برسول الله r ، فهيئا لي زاد، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله. ثم خرج في طلب رسول الله r حتى أدركه حين نزل تبوك، حتى إذا دنا من رسول الله r وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله r ((كن أبا خيثمة)) فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله r فقال له رسول الله r ((أولى لك يا أبا خيثمة)). ثم أخبر رسول الله r الخبر، فقال له: خيرا ودعا له بخير.
وأقام جيش المسلمين في تبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة ولم يحصل قتال، ولما دخل رسول الله r المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس فأما المنافقون فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله.
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فاختاروا الصدق، ولنسمع قصة كعب وتخلفه عن المعركة وهو يرويها بنفسه، يقول كعب بن مالك t: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله r في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله r يريد عزوة إلى ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله r في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عددا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فَقَل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله r تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعَر -أي أميل- فتجهز رسول الله r والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله r غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو –أي فات وسبق- فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، وفي هذا يعطينا كعب t فائدة عظيمة في عدم التسويف في الطاعات وتأجيل عمل الصالحات لأنها ربما تفوت على العبد فيحرم خيرا كثيرا وأجرا عظيما فينبغي للإنسان أن يبادر بالطاعات كلما سنحت له فرصة ولا يأجل ويسوف حتى تفوت عليه، قال كعب: فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله r يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلى رجلا مغموصا في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله r حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ((ما فعل كعب بن مالك؟)) فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل t : بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله r . وهكذا ينبغي للمؤمن أن يصنع صنيع معاذ t بأن يحسن الظن بأخيه ويدافع عنه إذا لمزه أحد في غيابه. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله r قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله r قد أظل قادما، زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله r قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعا وثمانين رجلا، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: ((تعال))، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ((ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك)) قال قلت: يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حيت تخلفت عنك. قال: فقال رسول الله r: ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)). وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله r بم اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله r لك. قال: فما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله r فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله r عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس –وهذه بداية الابتلاء ليرى الله صدقهم- أو قال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فاشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله r فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله r ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. –وهذا من حرص أبي قتادة على امتثال أمر رسول الله في هجرهم وكان الصحابة لا تأخذهم في دين الله لومة لائم ولا يحابون أحدا في دين الله ولو كان أحب الناس إليهم- قال كعب: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلى حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها، - وتأمل يا عبد الله موقف كعب t على رغم من هجر الرسول r وأصحابه له لمدة طويلة لا يكلمونه ولا يسلمون عليه ومع ذلك لم يتولد لديه زعزعة لانتمائه لهذا الدين بل صبر وصابر، لأنه يعلم أنه على الدين الحق، وتأمل ما فعل بتلك الرسالة سجرها التنور وأحرقها حتى يقطع على نفسه أن تفكر في الذهاب إلى ملك غسان، وهكذا المؤمن في حياته إذا من الله عليك بالتوبة من ذنب فتخلص من كل ما يذكرك بتلك المعصية، تخلص منها حتى تكتمل توبتك وتصدق مع الله وحتى لا يكون لك سبيل إلى العودة إلى تلك المعصية فيكون خلاصك منها معينا لك على الثبات وصدق التوبة- يقول كعب: حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله r يأتيني، فقال: إن رسول الله r يأمرك أن تعتزل أمرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا، بل اعتزلها فلا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله r فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربنك)) فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله r في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله r ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله r إذا استأذنته وأنا رجل شاب. فلبث بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا. فتأمل يا عبد الله كيف حال هؤلاء الثلاثة مع شدة ابتلائهم وهجر الناس لهم يمتثلون أمر رسول الله r ويطيعونه كما أمر عليه الصلاة والسلام ولا يعصونه،.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
يقول كعب t:ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخا أوفى على سلع –وهو جبل بالمدينة- يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج. فآذن رسول الله r الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا. فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلى رجل فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرها يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، -وفي هذا دليل على مشروعية أن تهدي من بشرك هدية، وينبغي للإنسان إن حصل لأخيه خير أو علم خبرا يسره ويفرحه أن يبشره ويبادر بإدخال السرور عليه لما في إدخال السرور على قلب المؤمن من الأجر العظيم، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ينبغي مكافأة من بشرك بهدية تكون مناسبة للحال لأن كعب بن مالك أعطى الذي بشره ثوبيه، وقال الشيخ فأقل الأحوال أن تدعوا له بالبشارة أو تهدي له ما تيسر وكل إنسان بقدر حاله- قال كعب: وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله r جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله t يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، -فكأن كعب لا ينساها لطلحة- قال كعب: فلما سلمت على رسول الله r قال وهو يبرق وجه من السرور: ((ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)) فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله عز وجل)) وكان رسول الله r إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله r : ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعلى إنما أنجاني بالصدق، وإنه من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله r أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله r إلى يومي هذا، وإني لأرجوا أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، قال: فأنزل الله تعالى: ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ( حتى بلغ: ) إنه بهم رؤوف رحيم ، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت( حتى بلغ: ) اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( قال كعب: والله ما أنعم الله على نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله r أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال الله تعالى: ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لتروضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى على القوم الفاسقين ( قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله r حين خلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله r أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى ) وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
عباد الله،،، هذه قصة غزوة تبوك وقصة كعب t وما حصل له من البلاء العظيم الذي صبر فيه وصدق مع الله في توبته حتى أعانه وثبته فنجاه الله، فاصدقوا مع الله في حياتكم، والتزموا الصدق في جميع أموركم، في أعمالكم، في أقوالكم، في توبتكم، تفلحوا.
ألا وصلوا على الحبيب المختار كما أمرنا الله عز وجل فقال) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ( اللهم صل وسلم وأنعم وبارك على عبدك ورسولك محمد ،،،
المرفقات
غزوة تبوك - خطبة.doc
غزوة تبوك - خطبة.doc