غاية الصيام العظمى
عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن بلوغ شهر رمضان والتوفيق لصيامه لمنة من أعظم المنن ونعمة من أجل النعم؛ وحتى يتحقق لمن أدرك هذه المحطة الإيمانية والمدرسة التربوية الآثار الجليلة والمنافع الكبيرة؛ وجب عليه أن يعرف الغاية من فرضية عبودية الصيام وما الذي يجنيه الأنام إذا قاموا بها على أكمل وجه.
ولسائل أن يسأل عن غاية هذه العبادة العظيمة؟
والجواب: أن عبودية صيام شهر رمضان المبارك لها غايات كثيرة وحِكَم عظيمة؛ لكننا في هذا المقام سنتوقف عند غايتها العظمى وحِكَمها الكبرى التي ذكرها الله -تعالى- في ختام آية الصيام؛ حيث قال ربنا -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:183]؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أمر الله بالصيام لأجل التقوى"، وقال السعدي -رحمه الله-: "فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه".
وفي الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه" فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك"؛ ولا شك أن هذا المعنى هو حقيقة التقوى.
وقد جاءت شريعة الإسلام ببيان حقيقة التقوى، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- فقال: "وحقيقة التقوى العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده".
ولم يجعل دين الإسلام تقوى الله غاية الصيام؛ إلا لعظيم مكانة التقوى ومنزلتها، ومن ذلك أن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تسمى كلمة التقوى، قال -تعالى-: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)[الفتح:26]؛ كما أن الله -تعالى- أمر بها عباده عامة وأمر بها المؤمنين خاصة، فقال -تعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52].
وهي كذلك وصية الأنبياء والرسل لأقوامهم؛ قال الله -تعالى- عن نوح -عليه الصلاة والسلام-: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ)[الشعراء:106]، وقال عن خليله إبراهيم -عليه الصلاة وأتم التسليم-: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[العنكبوت:16]، وما من نبي إلا ووصى أمته بتقوى الله -تعالى- وحثهم عليها.
عباد الله: تلك منزلة غاية الصيام وتلك مكانة التقوى؛ والعاقل من يحرص على تحقيق تقوى ربه ويملأ بها قلبه وجوارحه ويسلك الأسباب والسبل التي تعينه في طلبها وتحقيقها حتى يصبح من المتقين لرب العالمين الذين ذكر الله صفاتهم في كتابه العزيز؛ فمن صفاتهم: أنهم يؤمنون بالغيب ويصدقون بجميع ما جاء من عند الله على نبيه ومن قبله من الأنبياء والرسل -عليهم الصلام والسلام-، قال -تعالى- عنهم: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة: 3]، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة: 4].
ومن صفات المتقين -أيها الصائمون- أنهم أصحاب هداية، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة: 5].
ومن صفاتهم: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة التي أمر الله بها وجعلهما من أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ فقال: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)[البقرة: 3]، وقال: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[البقرة: 3]، والمراد بالإنفاق هنا النفقة الواجبة وهي الزكاة.
وإذا بـحثت عن التقي وجدته *** رجـلاً يـصدق قـوله بفعال
وإذا اتـقى الله امـرؤ وأطاعه *** فـيداه بـين مـكارم وفـعال
وعلى التقي إذا تراسخ في التقى *** تـاجان: تـاج سكينة وجمال
وإذا تـناسبت الرجال فما أرى *** نـسباً يـكون كصالح الأعمال
أيها الصائمون: صوموا لربكم واجتهدوا في تحقيق تقواه فتلك غاية عبودية الصيام وحِكمة فرضها على الأنام.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
معشر الصائمين: بعد أن عرفنا وإياكم غاية الصيام والحكمة الربانية من مشروعية الصيام؛ تعالوا لنتأمل في منافع تحقيق الصائم لتقوى الله -عز وجل- والثمار التي ينالها في العاجلة والآجلة؛ فمن ثمارها في العاجلة:
معية الله للمتقين؛ فمن كان الله معه فلن يضر شيء سواه، قال -تعالى-: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة:194].
ومن ثمار ومنافع تحقيق تقوى الله -سبحانه-: حصول البصيرة، والتيسير والسهولة في كل أمر؛ كما ذكر ربنا -سبحانه-؛ فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال:29]، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4].
ومن ثمار غاية الصيام -معشر الصائمين- تفريج الكربات والسعة في الرزق، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2 ، 3]؛ وما أكثر ما يعانيه الناس اليوم من الكرب وضيق العيش، وما أحوجهم إلى معرفة هذا المعنى وهذه الحقيقة.
كما أن من ثمار تحقيق تقوى الله -أيها الصائم-: نزول البركات من السماء وخروج الخيرات من الأرض، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
ومن آثار تقوى الله على من حققها: أنها توفق لنيل العلم النافع في أمر الدين والدين؛ فالله -تعالى- وعد المتقين بذلك؛ فقال: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282].
وحسب الصائمين المتقين بالثمرة العظيمة: البشرى الصالحة في الحياة وعند الممات؛ قال -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[يونس:62-64].
أيها الصائمون: تلك بعض ثمار تحقيق الصائم لتقوى ربه في العاجلة، أما ثمارها في الآجلة فأجل وأكبر فمن ذلك:
تكفير الذنوب ومحو العيوب ومضاعفة الثواب لمن اتقى ربه واستقام على هداه، قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق:5].
ومن ذلك: حشر المتقين مع وفد الرحمن، واستقبال الملائكة لهم، قال -تعالى-: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[مريم: ٨٥]، وقال ربنا -سبحانه-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: ٧٣].
ومن ثمار تحقيق التقوى: المنزلة الرفيعة والدرجة العظيمة التي يناهلها أهل التقوى يوم لقاء الملك الأعلى جل في عليائه؛ قال -تعالى-: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب)[البقرة: 212]، وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)[القمر:55].
أيها الصائمون: تلكم هي غاية الصيام العظمى والحكمة الكبرى من هذه العبادة العظيمة؛ فاحذروا مما يفسد صيامكم من ارتكاب المعاصي والذنوب القلبية والقولية والعملية، من الحسد والكبر وأكل الحرام والغيبة والنميمة وقول الزور والسباب واللعان والإفساد بين الناس ومشاهدة البرامج التافهة التي تفسد القلب وتمنعه من حلاوة خشية الله وتقواه وتصرفه إلى سبيل يعارض غايته من الصيام ورجاءه، وأحسنوا في صيامكم وحققوا غايته تسعدوا واتقوا ربكم في كل أحوالكم تغنموا.
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل *** تـقاه عـدة لـصلاح أمرك
وبـادر نـحو طاعته بعزم *** فما تدري متى يمضي بعمرك
اللهم وفقنا لصيام رمضان بصدق وإخلاص وإيمان.
اللهم حقق رجاءنا وأعتق رقابنا ونور بالتقوى قلوبنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
وصلوا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].