عين البصيرة
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي يَقبلُ التَّوبةَ عن عبادِه ويعفُو عن السيئاتِ، وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا وضاعفَ بفضلِه الحسناتِ، ورفعَ لأصحابِها الدَّرجاتِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماواتِ، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه أيَّدهُ اللهُ بنصرِه وبالمُعجِزاتِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه السابِقينَ إلى الخيراتِ .. أما بعد:
آيةٌ في كتابِ اللهِ تعالى تحتاجُ إلى طَويلِ تأمُّلٍ، بل قد يكونُ تدبُّرِها في حياتِنا نقطةَ تحوِّلٍ، يقولُ تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى، أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
فأخبروني هل من يمشي وقد انحنى ظهرُه وطأطأَ رأسَه حتى أصبحتْ عيناهُ مُلاصقةً للأرضِ على طريقٍ مُتعرِّجٍ، كمن هو مُنتصبُ القامةِ قد رفعَ رأسَه وأبصرتْ عيناهُ ما حولَه وهو على طريقٍ مُستقيمٍ؟، مَثَلٌ عجيبٌ لصِنفينِ من النَّاسِ، في اليقينِ والشَّكِ والثَّباتِ والانتكاسِ.
هذا المثلُ وإن كانَ في بصرِ العينِ على الطريقِ الحِسيِّ، ولكن يُقصدُ به بصيرةُ القلبِ على الطريقِ المعنويِّ، فصاحبُ الإيمانِ الخالصِ له نورٌ يُبصرُ به حقائقَ الأشياءِ، ويرى واضحاً بقلبِه جمالَ كلامِ الأنبياءِ، وقُبحَ طَلاسمِ الأدعياءِ، ويرى الطَّريقَ واضحاً ليسَ به خفاءٌ، ويرى بصفاءٍ ما أخبرَ اللهُ تعالى من الفِتنِ والبَلاءِ.
ويَكادُ من نُورِ البَصيرةِ أنْ يَرى *** في يومِه فِعلَ العواقبِ في غَدِ
ولقد أخبرنا حبيبُنا صلى اللهُ عليه وسلمَ بقِطعِ ظلامٍ على الطريقِ، فهي آتيةٌ لا محالةَ، لكن لا تراهَا العيونُ القويَّةُ، بل تراهَا القلوبُ التَّقيةُ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا).
نحنُ في زمانٍ قد اختلطتْ فيه عند الكثيرِ الأوراقُ، وأصبحَ لا يُميِّزُ بينَ إيمانٍ وكُفرٍ ونِفاقٍ، لأنَّ الجميعَ يتكلمونَ بلسانٍ واحدٍ مرموقٍ، في السَّلامِ والحُبِّ والعَدلِ والحقوقِ، وأصبحَ الأقوى ومن له الحُضورُ، هو من يستطيعُ أن يُثيرَ عاطفةَ الجُمهورِ، وأما من جعلَ اللهُ تعالى له نوراً من أهلِ الإيمانِ، فإنَّه يرى جَليِّاً ببصيرةِ قلبِه الحقَّ من الباطلِ، ويعلمُ من هم الذينَ (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، ويعلمُ من (جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)، وصدقَ اللهُ: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ).
عينُكَ الباصرةُ ترى في كلِّ يومٍ أحداثاً كثيرةً، ولكن أخبرني عن ترجمةِ قلبِك لهذه الأحداثِ، كيفَ يَراها؟، وكيفَ يقرأُها؟، وماذا يحكمُ عليها؟، وماذا يستفيدُ منها؟، فالمدارُ في هذه الحياةِ ليسَ على كميَّةِ المرئياتِ، ولكن على ما ينتجُ في العقلِ والقلبِ من تحليلاتٍ، فأهلُ الإيمانِ يلتقطونَ الصُّورةَ البَصريةَ ثُمَّ يُحلِّلونَها بالثَّوابتِ العَقديةِ، فتصبحُ الصُّورةُ واضحةً بألوانِها الطبيعيةِ، لأنَّهم عندَهم كتابُ اللهِ تعالى الذي فيه كلُّ شيءٍ، كما قالَ سُبحانَه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ).
إذا أبصرَ المرءُ المروءةَ والتُّقى *** فإنَّ عَمى العينينِ ليسَ يَضيرُ
أخبرني عن عينِكَ إذا رأتْ أحوالَ المُسلمينَ في كلِّ مكانٍ، يذوقونَ ألواناً من الظُّلمِ والعذابِ والقَتلِ والهوانِ، فمسلمٌ يُقتلُ في الهندِ وبورما على يدِ عُبَّادِ الأوثانِ، ومسلمٌ في الغربِ يُضطهدُ ويُهانُ، ومسلمٌ في الصينِ يحرسُه السَّجانُ، وحرمةُ المسجدِ الأقصى تُدنَّسُ على يدِ أذلِّ إنسانٍ، فماذا عسى أن يقولَ لكَ قلبٌ قد قطَّعتهُ الأحزانُ، أليسَ قد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
عندما تسمعُ الفتاوى الشَّاذةَ الغريبةَ، يُفتي بها أصحابُ الأحوالِ المُريبةِ، يستخرجُ من كُتبِ الفِقهِ كلَّ ما يُثيرُ الجَدلَ، ليكونَ هو محرِّرُ العُقولِ والمُجدِّدُ والبَطلُ، فتقولُ: صدقَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، ولكن: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
عندما تتأملَ في حالِ المرأةِ في البلادِ العربيةِ، وقد أحزنَ كلَّ غيورٍ وأفرحَ البلادَ الغربيةَ، زعموا أنَّهم أعطوها حُريَّتَها وحقوقَها، ودمَّروا كلَّ حاجزٍ عن التَّقدمِ والرُّقي قد يعوقُها، فخرجت من بيتِها تطلبُ المجدَ والنَّجاحَ، وهُدِمت الأسرةُ التي هي أساسُ عِزِّ الأمَّةِ والفلاحٍ، فماذا عسى أن يقولَ لك قلبٌ قد أنهكتُه الجِراحُ، وصدقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ).
لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ *** إنْ كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بالآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، ملكِ يومِ الدينِ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا هو الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أن محمدًا رسولُ اللهِ، النَّبيَّ الأمينَ، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى خلفائه وأصحابِه وآلِه وأزواجِه وذريتِه الطيبينَ الطاهرينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أما بعدُ:
عندما ترى عُرى التَّوحيدِ في البلادِ الإسلاميةِ تُنقضُّ عُروةً عُروةً، وترى تقليدَ الشبابِ والفتياتِ للكفَّارِ حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وترى الغِشَّ شَطارةً، والرِّبا تِجارةً، وترى الزِّنا صارَ صَداقةً، والرَّقصَ أصبحَ رَشاقةً، وترى المعازفَ قد صدحَ بِها الفنَّانُ، وترى الاختلاطَ المُحرمَ في كلِّ مكانٍ، فهناكَ تختلفُ نظرةُ القلوبِ، (أَوَمَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِّنهَا).
والأعجبُ من ذلك عندما ترى اليهودَ أصبحَ شعبَ سلامٍ، تُمدُّ له الأيدي للتَّعاونِ والحبِّ والوئامِ، فتقولُ متعجباً: أليسَ هؤلاءِ الذينَ قالوا: (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)، أليسَ هم من قِيلَ فيهم: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ)، أليس هم ألدُّ الأعداءِ: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ)، أليسَ هم الذينَ حرفوا الكتابَ: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)، فكيفَ يثقُ العاقلُ بأمثالِ هؤلاءِ؟، وكيفَ يُرجى منهم العهدُ والوفاءُ؟.
قِفْ أيُّها القَلمُ الجريحُ فإنني *** أَخشى على الأسرارِ أن تُفشيها
وقد يسألُ سائلٌ: كيفَ السبيلُ إلى بصيرةِ أهلِ الإيمانِ؟، وكيفَ النَّجاةُ من سُبلِ الشَّيطانِ؟، فنقولُ: عليكَ بالقرآنِ: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، ثُمَّ عليكَ بالدُّعاءِ إلى هِدايةِ الرَّحمنِ، وعليكَ بتقوى اللهِ: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)، بصيرةً يُفرَّقُ بهِا بينَ الحقِّ والباطلِ.
اللهمَّ إنا نسألُك أن تريَنا الحقَّ حقاً وترزقنا اتباعه، وأن تريَنا الباطلَ باطلاً وترزقنا اجتنابَه، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علماً يا ربَّ العالمينَ، فقِّهنا في دينِنا، وأحينا على السُّنةِ، وأمتنا عليها يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ إنا نسألُك الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرشدِ، وكلمةَ الحقِّ في الغضبِ والرِّضا، والقصدَ في الغِنى والفقرِ، ونسألُك نعيماً لا ينفد وقرةَ عينٍ لا تنقطعُ، ونسألُك الرِّضا بعدَ القضاءِ وبردَ العيشِ بعدَ الموتِ، ولذةَ النظرِ إلى وجهِك الكريمِ، واجعلنا في بلادِنا آمنينَ مطمئنينَ، وانصر المستضعفينَ، وارحم عبادَك المسلمينَ في الأرضِ يا ربَّ العالمينَ، اللهم كنْ معهم ولا تكن عليهم، وأعنهم ولا تُعن عليهم، وأقرَّ أعينَنا بيومٍ قريبٍ تُعزُ فيه الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتِنا، اغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، اللهم استر عوراتِنا، وآمن روعاتِنا، واقض ديونَنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد ضالنا، يا أكرمَ الأكرمينَ، آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
المرفقات
1632886733_عين البصيرة.docx
1632886769_عين البصيرة.pdf
المشاهدات 2051 | التعليقات 2
جزاك الله خيرا
منصور بن هادي
جزاك الله خيرا
.شيخنا المبارك
ليت وقتك أسعفك
وكان التشكيل للحروف كاملة
تعديل التعليق