عيد الأم
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي شَهِدتْ بوجودِهِ آياتُهُ البَاهرةُ، ودَلَّتْ على كَرمِ جُودِهِ نِعَمُهُ البَاطنةُ والظَّاهرةُ، هو الأولُ فَلهُ الخَلقُ والأَمرُ، والآخِرُ فإليهِ الرُّجوعُ يَومَ الحشرِ، هو الظَّاهرُ فَلهُ الحُكمُ والقَهْرُ، هو البَاطنُ فَلهُ السِّرُ والجَهرُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لاشَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحَمدُ وهو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وأَشهدُ أَنَّ مُحمداً عَبدُاللهِ ورَسولُه، إمامُ الأتقياءِ، وسَيدُ الأصفياءِ، وخَيرُ من مَشى تَحتَ أَديمِ السَّماءِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه أَجمعينَ، أما بعدُ:
عِبادَ اللهِ، أُوصيكم ونَفسي بتقوى اللهِ تَعالى وطَاعتِه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
فَعِندَما تكونُ الأمُّ في دارِ العَجَزةِ حَبيسةُ الآلامِ، أو عِندما تكونُ وَحيدةً في بيتٍ لا يُسمعُ فيه وَقعُ الأقدامِ، أو عِندما ينشغلُ عنها الأبناءُ والبَناتُ طِوالَ العامِ، أو عِندَما لا ترى إلا في الكِلابِ والقِططِ الوفاءَ والاحترامَ، فَحِينَها يَحقُّ لنا أن نضعَ للأمِّ عِيداً حتى لا نَنساها يوماً من الأيامِ.
في يوم 21 مارس يحتفلُ العالمُ العربيُّ بعيدِ الأمِّ، فهل أصبحنا نحتاجُ إلى يومٍ نتَذكَّرُ فيهِ الأمَّهاتِ؟، فأينَ الاهتمامُ والرِّعايةُ في كلِّ الأيامِ والأوقاتِ؟، وأينَ الإحسانُ والوَصيةُ بِبرِّ الوالدينِ؟، أم أنَّها التَّبعيةُ والتَّقليدُ الأعمى؟، وجَمالُ حَضارةِ الغَربِ الأَعلى؟، فَعَجباً لأمَّةٍ أخرجَها اللهُ تعالى لهِدايةِ الأنامِ، تَستوردُ ما أنتجتْهُ ثَقافةُ العُقوقِ والإجرامِ، بَدلَ أن تُصدّرَ مكانةَ الأمِّ وحقَّها في الإسلامِ.
الأمُّ هي وَصيةُ الرَّحمنِ، وهي مَنبعُ الحَنانِ، وهي مَصدرُ الأمانِ، فَعِندَ الخُوفِ ننادي الأمَّ، وعندَ الجوعِ نُنادي الأمَّ، وعِندَ الحُزنِ ننادي الأمَّ، وعِندَ المَرضِ ننادي الأمَّ، وما أعظَمَ ذلكَ القلبُ الذي لا يَتعبُ ولا يَكَّلُ، ولا يتَضجَّرُ ولا يَمَّلُ، وَصدقَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ سُئلَ عن أحقُّ النَّاسِ بالصُّحبةِ؟، قَالَ: (أُمُّكَ)، قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ).
أعظمُ الجِهادِ هو الجِهادُ تحتَ أقدامِها الضَّعيفةِ، فَهُناكَ مُستَقرُ جَنَّةِ اللهِ الشَّريفةِ، يقولُ مُعاويةُ بنُ جاهِمةَ السُّلميُّ رضِيَ اللهُ عنه: أَتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ، أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ، قالَ: (ويحَكَ، أحيَّةٌ أمُّكَ؟)، قُلت:ُ نعَم، قَالَ: (ارجَع فبِرَّها)، ثمَّ أتيتُهُ ثَلاثاً، أقولُ له: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ، أبتغي بذلِكَ وجهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرَةَ، فَقَالَ لي في الثَّالثةِ: (ويحَكَ، الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ).
الأُمُّ رَيحَانَةُ الدُّنيا وبَهجتُها *** هَيهَاتَ أَلقَى كَقَلبِ الأُمِّ هَيهَاتَا
تُخفي ما تُعانيهِ من التَّعبِ لأجلِ راحتِنا، وتَسهرُ اللَّيلَ حتى نَستمتِعَ في نَومتِنا، نَرى دُموعَ الفرحِ في عُيونِها بسببِ أفراحِنا، وتُخفي حُرقةِ الألمِ في قَلبِها بسببِ أحزانِنا، لا تَبتغي مِنَّا أجراً، ولا تَطلبُ مِنَّا شُكراً، فهل تَعلمُ مَخلوقاً يُحبُّكَ أكثرَ من نَفسِه غَيرَها؟، وهل تَعلمُ أحداً يَفديكَ بمالِه وروحِه غَيرَها؟.
حَمَلَتني ثِقْلاً، ومِنْ بَعدِ حَمْلِي *** أَرضَعَتني إلى أَوَانِ فِطَامِي
وَرَعَتني في ظُلمَةِ اللَّيلِ حَتَّى *** تَرَكتْ نَومَها لأَجلِ مَنَامي
فهل رأيتُم صفاءً أرَقَّ من صَفائها، وهل سَمعتُم حَديثاً أجملَ من دُعائها، في قُربِها البركةُ والخيرُ العميمُ، وفي برِّها الفلاحُ وجنَّاتُ النَّعيمِ، كَانَ حَارثةُ بنُ النعمانِ رَضيَ اللهُ عَنهُ يُفلي رَأسَ أُمِّهِ، ويُطعمُها بيدِه، يَقولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (نمتُ فَرأيتَني في الجَنَّةِ، فَسمعتُ صَوتَ قَارئٍ، فَقلتُ: من هَذا؟)، فقَالوا: حَارثةَ بنَ النعمانِ، فقَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَمَ: (كَذلكَ البِّرُّ، كَذلكَ البِّرُّ، وَكانَ أَبرَّ النَّاسِ بأمِّهِ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بسنةِ النَّبيِّ الكريمِ، أقولُ هذا القولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيباً مُباركاً فيهِ كَما يُحبُّ رَبُّنا ويَرضى، ربِّ العَرشِ ورَبِّ الأرضِ ورَبِّ السَّمواتِ العُلى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن مُحمداً عَبدُه ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه ومن تَبعَهم بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:
أيُّها الأحبَّةُ .. كُلُّ العباداتِ تَتصاغرُ أمامَ برِّ الأمِّ، واسمعوا إلى مُحمدِ بنِ المُنكدرِ أَحَدِ عُلماءِ التَّابعينَ وهو يَقولُ: بِتُّ لَيلةً كَاملةً أَغمزُ رِجلَ أُمِّي، وبَاتَ أَخي عُمَرُ يُصَلي، وواللهِ مَا يَسرُني لَيلتَه بلَيلتي، وقَالَ ابنُ عَباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: إنِّي لا أَعلمُ عَمَلاً أَقربُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الوَالدةِ.
وهذا عيسى عليهِ السَّلامُ يقولُ في مَهدِه: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، فأخبروا الغَربَ الذي يَدَّعي حُبَّ عيسى وأمِّه، أنَّه كانَ نبيِّاً بارَّاً بأُمِّه، حَدِّثوهم عن فَضلِ برِّ الوالدينِ وما فيهِ من الأجورِ العظيمةِ، وأخبروهم ما للوالدينِ من مكانةٍ كريمةٍ، وكَيفَ يُحيطُ بهم الأولادُ في كلِّ الأوقاتِ، ويَعتنونَ بِهم طَمعاً في رِضا ربِّ السَّمواتِ، واقرأوا عليهم قَولَه تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، فهذهِ المعاني نراها بسيطةً، ويرونَها عظيمةً.
فعُذراً لكلِّ أمٍّ في عِيدِ الأمِّ، فأنتِ أيَّتُها الحَنونُ لستِ يوماً من الأيامِ، بل أنتِ طاعةً وعبادةً على الدَّوامِ، فلَكِ مِنَّا في الحياةِ البِّرُ والإحسانُ، ولَكِ مِنَّا بعدَ المماتِ الدُّعاءُ بالغُفرانِ، مَعَ الاعترافِ بالتَّقصيرِ في الحُبِّ والعِرفانِ.
أَحِّنُّ إلى الكَأسِ التي شَرِبَتْ بِهَا *** وَأَهوى لمَثوَاها التُّرابَ ومَا ضَمَّا
اللهمَّ يا ذا الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُلى، اغفرْ لآبائِنا وأمَّهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيِّئاتِ عَفوًا وغُفرانًا، اللهمَّ يا حيُّ يا قَيومُ، ارزقنا برَّ والدِينا أحياءً وأمواتًا، واجعلْنا لهم قُرَّةَ أعينٍ، وتوفَّنا وإيَّاهُم وأنتَ راضٍ عنَّا، اللهمَّ اعفُ عن تَقصيرِنا في بِرِّهم واجبرْ كَسرَنا بفقدِهم، واجعلنا من الصَّالحينَ، اللهمَّ باركْ لنا في أَعمارِنا وأولادِنا وأَموالِنا، واجعلنا للمتقينَ إمامًا، اللهمَّ اهدِ شبابَ المسلمينَ، حبِّب إليهم الإيمانَ وزيِّنه في قُلوبِهم، وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعلهم من الرَّاشدينَ.
المرفقات
1647401231_عيد الأم.docx
1647401239_عيد الأم.pdf