عواقب الذنوب الدنيوية (5) ترك قول المشيئة في حديث المستقبل
محمد بن إبراهيم النعيم
كنا نتحدث في أسابيع ماضية عن العديد من عواقب الذنوب الدنيوية؛ كي نحذر منها ولنعلم أن ما يصيبنا من مصائب هو تمحيص لنا أو عقاب لارتكابنا بعض الذنوب لعلنا نتوب منها، قال في الحديث الذي رواه الترمذي (لا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ) قَالَ وَقَرَأَ ]وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ [الشورى30].
ومن المعاصي الأخرى التي لها عواقب في الدنيا: ترك قول: (إن شاء الله) عند الحديث عن أمر مستقبلي. إذ يجب على المسلم أن يستثني في أمره الذي يعزم عليه في المستقبل ولا يجزم فيه، أي ينبغي أن يقول: إن شاء الله لقوله تعالى في سورة الكهف: (ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً{23} إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ). ومن لم يفعل فقد يعاقبه الله تعالى في الدنيا بعدم تحقيق ما هدف إليه.
لقد عاتب الله -عز وجل- اثنين من أنبيائه، هما: سليمان ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ لأنهما جزما على أمر في المستقبل ولم يقولا (إن شاء الله)، فعن أبي هريرة أن رَسُولُ اللَّهِ قال: (قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) متفق عليه. وفي رواية لمسلم أن رسول الله قال: (لَوْ كَانَ اسْتَثْنَى لَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلامًا فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
فانظروا إلى اهتمام سليمان (عليه السلام) ونيته الحسنة، بأن يرزق أولادا مجاهدين يدافعون عن الدين على الرغم من اكتفائه بجنود الجن والإنس والطير المسخرين له، وعندما لم يستثني؛ أي لم يقل إن شاء الله؛ لم يحقق الله له أمنيته وإنما رزق بطفل مشوّه.
أما عتاب الله -عز وجل- لنبيه محمد لعدم استثنائه فقد كان بتأخير وعدٍ وعده لكفار قريش ولم يقل فيه إن شاء الله، فلم يحققه الله -عز وجل- له ، فوقع رسول الله في حرج شديد مع المشركين، وبداية القصة كما ذكرها ابن كثير في تفسيره أن كفار قريش أرسلا رجلين منهم إلى علماء يهود ليسألوهم عن محمد r وهل هو مكتوب عندهم في التوراة، وكيف يتأكدوا من صدقه؟ لأن كفار قريش عبدة أصنام لا علم لهم بالأديان السماوية أو بعلم الأنبياء، فقد روى ابن عباس رضي الله عنها قال ( بَعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته فإنهم أهل الكتاب وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، قالوا سلوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهنَّ فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه. فعاد النضر وعقبة حتى قدِما على قريش فأخبروهم بما قال أحبار اليهود، فجاءت قريش وسألت النبي عن ذلك فقال لهم : أُخبركم غداً عما سألتم عنه. ولم يستثني ( أي لم يقل إن شاء الله ) فانصرفوا عنه. ومكث رسول الله خمسَ عشرةَ ليلة لا يأتيه جبريل بالوحي، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمداً غداً واليوم خمس عشرة ليلة قد اجتمعنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله مُكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله عز وجل (ويسألونك عن الروح). أهـ.
كما أخبرنا الله عز وجل في سورة القلم عن قصة أصحاب الجنَّة، وكيف أحرق اللهُ عليهم جنتهم لأنهم منعوا الفقراء حق الزكاة، ولم يستثنوا عندما جزموا على قطع ثمرها في الصباح أي لم يقولوا: إن شاء الله، فسجل الله مقولتهم تلك لنعتبر بها، فقال تعالى: (إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ{17} وَلا يَسْتَثْنُونَ{18} ) الآية .
أي يقطعون كامل ثمرها في الصباح. قيل ولا يستثنون أي لم يقدموا المشيئة، وقيل ولم يستثنوا المساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى الفقراء.
فالشاهد في الأمر أنه ينبغي رد الأمور المستقبلية إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى تأدبا مع الله بقول إن شاء الله لأي أمر نريد إنجازه في المستقبل، ومن لم يفعل فقد يعاقبه الله -عز وجل- بعدم تحقيق مراده.
وتأملوا كيف اهتدى أصحاب البقرة إلى مرادهم عندما قدموا المشيئة في المحاولة الثالثة فقال تعالى ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إنَّ البقر تشابه علينا وإنَّا إن شاء الله لمهتدون). وقد ورد في الخبر أن أبا هريرة قال: ( لولا أنَّ بني إسرائيل قالوا ( وإنَّا إن شاء الله لمهتدون ) لما أعطوا ولكن استثنوا).
كما أخبرنا النبي عن قصة يأجوج ومأجوج الذين سيخرجون في آخر الزمان وأنهم يحفرون كل يوم في السد الذي بناه ذو القرنين ولن يستطيعوا الخروج إلا بعد أن يستثنوا أي يقولوا: إن شاء الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَسَنَحْفِرُهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ أَشَدَّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَثْنَوْا فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ ْ... الحديث) رواه أحمد وابن ماجه
لقد تبين لنا من هذه القصص أن من ترك قول المشيئة في أي وعد مستقبلي فقد يعاقبه الله تعالى في الدنيا بعدم تحقيق مراده الذي أراد، وأن الأدب مع الله أن من عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله -عز وجل- علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أستغفر الله فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمد لله علام الغيوب، المطلع على أسرار القلوب، أحمده سبحانه وتعالى على وافر نعمه وأتوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غفار الذنوب ومفرج الكروب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الشفيع الصدوق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن المسلم مطالب أن يستثني في مواعيده المستقبلية بقول: إن شاء الله امتثالا لأمره -عز وجل- أولا حيث قال: (ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً{23} إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)، وثانيا: لكي لا يقع في دائرة الكذب عند حدوث ظرف قاهر، إلا أن شريحة كبيرة من الناس أساءوا استخدام كلمة إن شاء الله في مواعيدهم ولم يحترموها وجعلوها للتفلت من المواعيد بحجة أن الله لم يشأ ذلك الموعد، حتى أن بعضهم إذا سمع أحدا يقول سآتيك أو سأعطيك غدا إن شاء الله، قال: لا تقل إن شاء الله ولكن قل وعد أكيد، لأنه يعلم أنه يريد التفلت من الموعد. بينما كان النبي يكثر من الاستثناء في الأمور المستقبلية امتثالا لأمر الله -عز وجل- حيث قال (لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) بل كان يستثني حتى في الأمور الحتمية مثل الموت، فكان يقول عند زيارة المقبرة (وإنا إن شاء الله بكم لا حقون)، مع أن الكل سيموت لا محالة ولكنه الأدب مع الله -عز وجل-.
والمشكلة الأخرى أن بعض الناس استبدل هذه الكلمة المباركة التي فيها إظهار واعتراف بمشيئة الله -عز وجل- وتصرفه بهذا الكون، استبدلوها بكلمة (O.K.)، بل أصبحت هذه الكلمة الأجنبية هي شعار المتحضرين ورمز الوعد المؤكد، وإذا أردت أن تحجز مقعد في أحد الخطوط فلا بد أن تؤكد الحجز بقول (O.K.)، فأصبحت (O.K.) لتأكيد المواعيد، وكلمة إن شاء الله لنقض المواعيد و التفلت من المواعيد، فهل هذه ظاهرة صحية في المجتمع المسلم؟ إنَّ مشيئة الله تعالى فوق مشيئة البشر، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لذلك فوض الأمور المستقبلية إلى الله، بقول إن شاء الله واحترم معناها ولا تقل O.K.، أما أن نجعل الاستثناء وسيلة للتفلت من المواعيد فليس من الأخلاق الحميدة. وكان عبد الله بن مسعود t لا يَعِدْ وعدا إلا ويقول: إن شاء الله (موعظة المؤمنين ص 293).
ومن فوائد الاستثناء أنك لو حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأتي الذي هو خير وكفر عن يمينك، ولكن لو استثنيت أثناء يمينك أي قلت: إن شاء الله فلا كفارة عليك. ودليل ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلا حِنْثَ عَلَيْهِ) رواه الترمذي، وفي رواية للنسائي أن النبي قال: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)
واشترط العلماء أن يكون الاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولاً بِالْيَمِينِ وليس على التراخي، قال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه.
قال موسى عليه السلام:(ستجدني إنشاء الله صابراً ) ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء. (الآداب الشرعية 1/54).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين..، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
9/8/1430هـ