عن سيف الله أحدثكم!

محمد بن مساعد السعد
1438/06/23 - 2017/03/22 19:22PM
الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله ذي المُلك والملكوت، له المشيئةُ النافذةُ في خلقه وهو الحي الدائمُ الذي لا يموت، وله - سبحانه - العلوُّ على خلقه في القَدْر والقُدرة والجبروت، سلَّم خليلَه من النار، ونجَّى يونسَ من بطن الحوت، أشهد أن لا إله إلا الله لا تخفَى عليه خافيةٌ ولا تفوت، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه جمَّله ربُّه بأكرم الصفات وأنبَل النُّعوت، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى اليوم الموعود. أما بعد:-
فإن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله وأصلِحوا العمل واعلموا أن (من اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
من اتَّقى الله كفاه، ومن اتَّقى الناسَ فلن يُغنُوا عنه من الله شيئًا.
عباد الله:
لا أدري من أين يبدأ وكيف أنتهي؛ ذلكم لأن حديثي اليوم سيكون عن فارس الإسلام، وبطلِ الأبطال، وليثِ المشاهد، وأجرأِ الشجعان، وقائدِ المجاهدين، السيدِ الإمام، أميرِ أمراء الأجناد
أحدثكم عن رجل مختلف، ولهذا وجب أن يكون الكلام عنه مختلفًا، وحَقٌ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تعرف لهذا الرجل قَدره، وتضحيتَه وجهادَه في سبيل الله، وشكيمتَه، وشِيمتَه! لتتغذى على مسيرة رجل أعز الله به الإسلامَ، لتُفسِح الناسُ له في عروش صدورها إلى يومِ يقومُ الناس لرب العالمين
هذا الرجل قد احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَلاَمَتَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي جَسَدِهِ قِيْدُ شِبْرٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ؛ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ.
لم يبق في جسدي من كل ناحية *** شبرٌ لمَطْعنة بالسيف لم يُصَبِ
هذا الرجل،
أخُو الحرب إنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا *** وإنْ شمَّرتْ عَنْ ساقِها الحربُ شَمَّرَا

هذا الرجل قد اخْتَرَقَ البَرِّيَّةَ السَّمَاوِيَّةَ؛ حيث قَطَعَ المَفَازَة مِنْ حَدِّ العِرَاقِ إِلَى أَوَّلِ الشَّامِ فِي خَمْسِ لَيَالٍ فِي عَسْكَرٍ مَعَهُ. وهذا السبق التاريخي مكتوب في موسوعة البقاء الأبدي للأرقام القياسية.
لم يَعدل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا في حربه منذ أن أسلم، وكان يشبه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خَلقه وصفته.
كان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه القُبة وأَعنّة الخيل في الجاهلية،

هذا الرجل، أسلم سنة ثمان من الهجرة، ولقد رأى ببصيرته ما لم تره خفافيشُ مكة.
صقرٌ يرى ما لا تراه عيونُهم *** إن الذي لا يُبصرُ الخفَّاشُ
ولما أسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ». ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يغفر الله له كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِه.
كان رضي الله عنه يقاتل بسيفين، ولم يُذكر هذا إلا له وللزبير وحمزة.
له عزمانِ عزمٌ من حديدٍ *** وعزمٌ حينَ ينكسرُ الحديدُ
هذا الرجل، قال عنه أبو بكر -رضي الله عنه-: لقد عَجَزَت النساء أن تلدن مثله.
لعلكم عرفتموه! فما هذه الأقمار تخفى لذي عينِ. إننا بين يدي سيفِ الله أبي سليمان خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ بن فهر بن مالك، القرشي المخزومي
وهل سمعتم بنسب أعزَّ وأشرفَ من قريش
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى *** نورًا ومن فَلق الصَّباح عمودًا
كانت حياته عجبًا من العَجب، ولما مات صار عجيبًا في عيون العجائب، كانت حياته ملأى عزةً، ملأى رُجولةً، ملأى حميةً لدين الله ولرسول الله - -.
كان -عليه الصلاة والسلام- لا يُضفي الألقابَ إلا لمن يستحقها، وقد طاولَ خالدٌ حين لقَّبه رسولُ الله بـ"سيف الله".
يا بن الوليد ... ألا سَيف تؤجّره *** فكلُّ أسيافنا قد أصبحت خُشُبا
ما إن أسلم خالد بن الوليد إلا وبدأ رحلة الكفاحِ والدفاعِ عن دين الله، ولم يركن إلا الدَّعة والسكون، بل اجتهد في استدراك ما فاته من المواطن الصالحة، جاعلاً نكايته وحدَّه مع المسلمين، وهكذا المؤمن الموفق فخذها بقوة
ففي نفسِ السنة التي أسلم فيها وقَعَت عزوة مؤتةَ العظيمة، وَاسْتَعْمَلَ صلى الله عليه وسلم على المسلمين زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: «إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النَّاسِ»، وكان عددُ المسلمين ثلاثةَ آلاف، في مقابِل مائتين وخمسين ألفًا من الروم ومَن سواهم، ولما قُتل هؤلاءِ الأمراءُ الثلاثةُ أخذ الراية خالدُ بنُ الوليد وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري-: (حتى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)، فَمِنْ يَوْمَئِذٍ سُمِّيَ خَالِدٌ "سَيْفَ اللَّهِ"،
ومن عجائب صُنع خالد في تلك المعركة قولُه: («لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ» والصفيحة هي سيف عريض النصل من صنع اليمن.
ولولا أن البخاري هو من روى هذه القصة لما كادت تُصدّق! فلله درّه.
أولئك قوم شيّد الله فخرهم *** فما فوقه فخرٌ وإن عظم الفخرُ
وعندما تولى قيادة المعركة أظهر رضي الله عنه مهارته ونبوغه في إنقاذ جيش المسلمين، من خلال مكيدة حربية؛ فقد أدار المعركة بقية يومه، وقام بحيلة عسكرية فريدة من نوعها؛ إذ جعل مُقَدِّمَة الجيش سَاقَتَهُ، وَسَاقَتَهُ مُقَدِّمَتَهُ، وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ. فَأَنْكَرُ الروم مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ رَايَاتِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ. فَرُعِبُوا وَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ. فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا قَوْمٌ.
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ ... وَمَا يَصْنَعُ الْأَقْوَامُ فَاللَّهُ صَانِعُ
لقد عقمت النساء أن يلدن مثل أبي سليمان.
يشُدك في خالدٍ بذلُه لمواهبه في سبيل الله، فهو يعرف رضي الله عنه أن موهبتَه في القوة والشجاعة، في سَوح القتال وأيامِ النِّزال، فأبى إلا أن يحرِّر فيها عهدًا وميثاقًا أن ينصر بها دينَ الله.
في كفِّه شُعلةٌ تهدِي وفي دمِه *** عقيدةٌ تتحدى كلَّ جبَّار
ما أكثر المواهبَ الشابَّة التي يدفنها الشباب في صدورهم، فيموتون وتموت مواهبُهم معهم، ودينُ الله وشرعتُه ليس لها نصيب!
ليست الزكاةُ في المال وحده، بل كلُّ قدرةٍ وعطيةٍ وموهبةٍ أكرمك الله بها، عليها زكاة! ما أكثر الزكواتِ، وأقلَّ المزكين!

كان أبو سليمان رضي الله عنه مضربَ المثل في الشجاعة، ولا يكاد يَقدر أحدٌ على مثل صنائعه؛ فقد أورد العلامة ابن عساكر في (تأريخ دمشق) قولَه: (لما انصرف خالدُ بنُ الوليد من اليمامة ضرب عسكرَه على الجَرَعة التي بين الحِيرة والنهر، وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض، وقصرِ ابن بُقَيلة، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى نفذت، ثم رموه بالخَزف من آنيتهم، فقال ضِرار بن الأَزور: ما لهم مكيدة أعظم مما ترى، فبعث إليهم: ابعثوا إلي رجلًا من عقلائكم أسائله، ويخبرني عنكم، فبعثوا إليه عبدَ المسيح بنَ عمرو بنِ قيس بن حَيان بنِ بُقَيلة الغساني، ...، فأقبل يمشي إلى خالد ... قال: ومعه سُمُّ ساعةٍ يُقلبه في يده، فقال له: ما هذا معك؟ قال: هذا السم، وما تصنع به؟ قال: أتيتك، فإن رأيت عندك ما يسرني وأهل بلدي حمدت الله، وإن كانت الأخرى لم أكن أولَ من ساق إليهم ضيمًا وبلاء فآكلُه وأستريح، وإنما بقي من عمري يسير، فقال: هاته، فوضعه في يد خالد، فقال: بسم الله وبالله ربِّ الأرض وربِّ السماء الذي لا يضر مع اسمه داء، ثم أكله، فتجلّته غَشية، فضرب بذَقَنه على صدره، ثم عَرِق وأفاق، فرجع ابنُ بُقيلة إلى قومه، فقال: جئت من عند شيطانٍ أكل سم ساعة فلم يضره، أخرجوهم عنكم، فصالحوهم على مائة ألف ...) انتهى كلامه رحمه الله.
قال العلامة الذهبي معلقًا على القصة: هَذِهِ -وَاللهِ- الكَرَامَةُ، وَهَذِهِ الشَّجَاعَةُ.
خُلقتَ من الحديدِ أشدّ قلبٍ **و قـد بـلـيَ الحديدُ وما بليتَ!
وقد رَوى هذه القصةَ غيرُ واحد من الأئمة وإسنادها حسن. وقد كان هذا من خالد ثقةً منه بالله، وتوكلًا عليه؛ بغرض نصرة دين الله، وإرهابِ الكفار، وتقويةِ إيمان المسلمين، وهذا إما أن يكون من كراماته رضي الله عنه أو لَعَلَّهُ كَانَ عِنْد خَالِد فِي ذَلِكَ عَهْد - أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمل بِهِ. كما ذكر ذلك العلامة ابن حجر في الفتح.
إلى بعض شبابنا المترفين والمتنعمين أهدي لكم هذه الشجاعةَ والرجولةَ والإيمان؛ فتعلّموا أنّ ابنَ الوليد العَود في وقعة اليرموك طلبه بَاهَانَ –أحدُ قادة الروم وأُمرائِهم- طَلَبَ خَالِدًا لِيَبْرُزَ إِلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَيَجْتَمِعَا فِي مَصْلَحَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ بَاهَانُ: إِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمُ الْجَهْدَ وَالْجُوعَ، فَهَلُمُّوا إِلَى أَنْ أُعْطِيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَكِسْوَةً وَطَعَامًا، وَتَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بَعَثْنَا لَكُمْ بِمِثْلِهَا. فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْنَا مِنْ بِلَادِنَا مَا ذَكَرْتَ، غَيْرَ أَنَّا قَوْمٌ نَشْرَبُ الدِّمَاءَ، وَأَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ لَا دَمَ أَطْيَبُ مِنْ دَمِ الرُّومِ، فَجِئْنَا لِذَلِكَ. فَقَالَ أَصْحَابُ بَاهَانَ: هَذَا وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُحَدَّثُ بِهِ عَنِ الْعَرَبِ
إن الأسود إذا استُفزَّت أَضحكت *** والضِّحك في عُرف الأُسودِ حِمام

أما باقي قصةِ خالدٍ فإليكموها بعد أن أستغفرَ الله لي ولخالد بنِ الوليد فاستغفروه يغفر لكم الله.



الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الواحدِ القاهِر، الأولِ والآخر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُدَّخرةً ذُخرًا لليوم الآخِر، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُجتبَى من أشرف العناصِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه نجومِ الاهتِداء لكلِّ سائر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن يرجُو اللهََ واليومَ الآخر، وسلَّم التسليمَ المزيدَ المُتكاثِر. أما بعد:
فليست سيرةُ خالد ولا سيرةُ علي وحمزةَ وغيرِهم ممن تكلمنا عنهم إلا فصولا متشابهة، أو نُسخًا مكررة من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر، سيرةِ الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان،
هؤلاء هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، وخالدٌ أحدُهم
وإذا تحـدث أحمدٌ عن صحبه *** فلتَـخرسِ الفصحاءُ والبلغاءُ
وليخفِضِ الناسُ الرؤوس فإنما *** مِن صحْب أحمد تخجَل الأسماءُ
سلوا أفئدةَ الشباب عن أفضل لاعب وأفضل نادٍ في العالم، سلوهم عن أشهر سفهاءِ مواقع التواصل ، سلوهم عن أشهرِ عازف قيثارة، عن ملكات جمال الدنيا، عن أطيب أنواع السيجار، عن أسماءٍ لم تعرف اسم الله القهار، ثم سلوهم عما ابن الوليد يوم اليمامة
فما لجوابهم رِكز ولكنْ *** بإطراقِ الرؤوس على الذُّقون
قال العلامة ابن كثير في (البداية والنهاية) في سياق حديثه عن معركة اليمامة : (ثُمَّ وَثَبَ –خالدٌ- بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ الْعَوْدِ، أَنَا ابْنُ عَامِرٍ وَزَيْدِ. ثُمَّ نَادَى بِشِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، ...... وَجَعَلَ لَا يَبْرُزُ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، وَلَا يَدْنُو مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَكَلَهُ، وَدَارَتْ رَحَى الْمُسْلِمِينَ) انتهى كلامه رحمه الله، وكان لهذه البسالة والشجاعة أثرها في تغير موازين القوى حتى أصبحت الغلبة بتوفيق الله للمسلمين.
حذارِ مِن أَسدٍ ضِرغامةٍ بطلٍ *** لا يولِغ السيفَ إلا مُهجةُ البطل
يَغشـى الوَغى وَشِهابُ المَوتِ في يَدِهِ *** يَرمي الفَوارِسَ وَالأَبطالَ بِالشُعَلِ
عباد الله: إن كان الكثير من المسلمين اليوم همُّه وحِبُّه هو لُعاعةٌ من الدراهم، أو قطعةُ خشب دوّار يُسوَّد به، أو امرأةٌ حسناء، أو روضة غنّاء= فإن أبا سليمان رضي الله عنه كان يقول: (مَا مِنْ لَيْلَةٍ يُهْدَى إِلَيَّ فِيْهَا عَرُوْسٌ أَنَا لَهَا، مُحِبٌّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيْدَةِ البَرْدِ، كَثِيْرَةِ الجَلِيْدِ، فِي سَرِيَّةٍ أُصَبِّحُ فِيْهَا العَدُوَّ).
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جَمعَتنا يا جرير المجامع
كان رضي الله عنه لا ينام ولا يُنيم إلا على تعبئة، ولا يخفى عليه من أمر عدوه شيء.

أيها المسلمون:
كان يومُ اليرموك هو اليومَ الأغرَ في سيرة خالد -رضي الله عنه -، وهو من أيام الإسلام المعدودات، كسَر فيه خالدٌ جيشَ الروم القوي، وفرّق شمله الكثيف، وولى الرومُ مدبرين، ودخلت الشام في حظيرة الإسلام بعد أن بكاها هِرقْلُ الروم وهو يقول: عليكِ السلام، سلاماً لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً!.
فأين خالدٌ وجيشُه يرون الروم تصول وتجول في أرض الله، وتأمر وتنهى، وتعاهد وتغدر، وتقاطع من تشاء، وتضرب من تشاء متى تشاء، بكل أمنٍ واستعلاء، وتغطرس وكبرياء! ولا يمنعها أحد، بعد أن أضاع الخلَف كثيراً مما كان عليه السلف،
وأين خالد -وهو من فاتحي الشام- عما يصنعه مَن رضع الخيانة من أبيه، لقد باعها على الروم والفرس حيث كان أجنبيًا عن عقيدة فاتحيها. فالله المستعان.
وحتى نوقن أن خالدًا كان أحوذيًا نسيجَ وحده، فلنستمع لما رواه الشَّعْبِيِّ أن خالدًا بَارَزَ يَوْمَ الْوَلَجَةِ في حرب الفرس رَجُلًا مِنَ الْأَعَاجِمِ يَعْدِلُ بِأَلْفِ رَجُلٍ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ وَأُتِيَ بِغَدَائِهِ فَأَكَلَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهِ. يَعْنِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ!.
فأين خالدٌ عما تفعله الفرس بالمسلمين اليوم؛ لقد عجَزت النساء أن يلدن مثل خالد، لكنّ أملنا بعد الله في أحفاد الصحابة كبير.
وفي يوم بُزاخة، كانت هناك امرأة يقال لها: أُمُّ زِمْلٍ سَلْمَى بِنْتُ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ. وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ الْعَرَبِ، وكانت رَاكِبَةً عَلَى جَمَلِ أُمِّهَا الَّذِي كَانَ يُقَالُ: مَنْ نَخَسَ جَمَلَهَا فَلَهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ؛ وَذَلِكَ لِعِزِّهَا، فَهَزَمَهُمْ خَالِدٌ وَعَقَرَ جَمَلَهَا وَقَتَلَهَا.

وفي وقعة أُلَّيس تَقَدَّمَ خالدٌ بَيْنَ يَدَيْ جَيْشِهِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِشُجْعَانِ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ: أَيْنَ فُلَانٌ، أَيْنَ فُلَانٌ؟ فَكُلُّهُمْ نَكَلُوا عَنْهُ إِلَّا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ بَنِي جِذْرَةَ، فَإِنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، مَا جَرَّأَكَ عَلَيَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلَيْسَ فِيكَ وَفَاءٌ؟ ! فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ أَنْ لَا أَسْتَبْقِيَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى أُجْرِيَ نَهْرَهُمْ بِدِمَائِهِمْ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنَحَ الْمُسْلِمِينَ أَكْتَافَهُمْ، فوَكَّلَ بِهِمْ رِجَالًا يَضْرِبُونَ أَعْنَاقَهُمْ فِي النَّهْرِ، فَسَالَ النَّهْرُ دَمًا عَبِيطًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ، إِلَى الْيَوْمِ، فَدَارَتِ الطَّوَاحِينُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِالدَّمِ الْعَبِيطِ، وَبَلَغَ عَدَدُ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ خَالِدٌ إِلَى الصِّدِّيقِ بِالْبِشَارَةِ وَالْفَتْحِ وَالْخُمُسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ، فقال أبو بكر: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ أَسَدَكُمْ قَدْ عَدَا عَلَى الْأَسَدِ، فَغَلَبَهُ عَلَى خَرَاذِيلِهِ، عَجَزَتِ النِّسَاءُ أَنْ تَلِدْنَ مِثْلَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ.
قال ابن كثير بعد هذه القصة: (ثُمَّ جَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ لِخَالِدٍ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ يُمَلُّ سَمَاعُهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَكِلُّ وَلَا يَمَلُّ وَلَا يَهِنُ وَلَا يَحْزَنُ، بَلْ كُلُّ مَا لَهُ فِي قُوَّةٍ وَصَرَامَةٍ وَشِدَّةٍ وَشَهَامَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عِزًّا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَذُلًّا لِلْكُفْرِ وَشَتَاتَ شَمْلِهِ).
نعم، ياعباد الله، فما يرى جيشٌ وجهَ خالدٍ إلا كان مهزوماً، وما ذاق خالدٌ طعم الهزيمة لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
تعوَّد سيفُه ضربًا عليهم *** فليس يَقرُّ إلا في الرؤوس
ولما ولي عمرُ الخلافةَ خاف افتتان الناس بخالدٍ وانتصاراتِه، وعقلِه ودهائه؛ فعزله عن القيادة؛ وقال: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سُخْطَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ
ورُوي أنه لما عَزل عمرُ خالدًا عن قِنَّسرين ورجع خالدٌ إلى المدينة ودخل على عمر، أنشد عمرُ قول الشاعر:
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ *** وَمَا يَصْنَعُ الْأَقْوَامُ فَاللَّهُ صَانِعُ
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ عَلَيَّ لَكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ إِلَيَّ لَحَبِيبٌ، وَلَنْ تَعْمَلَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ عَلَى شَيْءٍ.

كان عمر يعرف لخالد قَدره، ولما بلَغه ما صنع خالدٌ يوم قِنّسرين حين أباد الروم وقَتَل أميرَهم، قال عمر: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالرِّجَالِ مِنِّي، وَاللَّهِ إِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ رِيبَةٍ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يُوكَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ.

أيها المسلمون:
لَمَّا حَضَرَتْه الوَفَاةُ، قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ القَتْلَ مَظَانَّهُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إِلاَّ أَنْ أَمُوْتَ عَلَى فِرَاشِي، وَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ التَّوْحِيْدِ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ، وَالسَّمَاءُ تُهِلُّنِي، نَنْتَظِرُ الصُّبْحَ حَتَّى نُغِيْرَ عَلَى الكُفَّارِ.
ثُمَّ قَالَ: إِذَا مِتُّ، فَانْظُرُوا إِلَى سِلاَحِي وَفَرَسِي، فَاجْعلُوْهُ عُدَّةً فِي سَبِيْلِ اللهِ.
وكما كانت حياةُ خالدٍ مدوية فقد كان موته مدويًا؛ فإنه لما توفي اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِرَاراً، وَنَكَسَ، وَأَكْثَرَ التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: كَانَ -وَاللهِ- سَدَّاداً لِنَحْرِ العَدُوِّ، مَيْمُوْنَ النَّقِيْبَةِ. وقال: رَحِمَ اللهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، كَانَ عَلَى مَا ظَنَنَّاهُ بِهِ.



مات خالد بحمص سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وقد عاش ستين سنة بذل الكثير منها في سبيل الله وفي الدفاع عن عقيدة الإسلام، وبه وبأمثاله –بعون الله- تحطمت عروشُ كسرى وقيصر، وأُرغمت أنوف المرتدين، فلا نامت أعين الجبناء. وما بال بعض شبابنا اليوم يعيش بلا هُوية، وبلا حمية للإسلام وأهله، بل لربما أضاع عقيدته بمتابعة تغريدِ ملحدٍ أو منافق، أو بمشاهدة مقاطعهم، في حين مات أسلافنا لأجلها، فالله المستعان وعليه والتكلان.
اللهم ارض عن خالد، اللهم ارض عن خالد، وصحبِ خالد، وارض عنا وبلغنا منازل الشهداء، مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا،
وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، وأئمة راشدين، يُعز فيهم أهل طاعتك، ويُهدى فيهم أهل معصيتك، ويؤمر بهم بالمعروف وينهى فيهم عن المنكر.
اللهم أرنا الحق حقًا .....

....
المرفقات

خالد بن الوليد.doc

خالد بن الوليد.doc

المشاهدات 1454 | التعليقات 0