عن الحَسَن أحدثكم

د. محمد بن سعود
1440/02/29 - 2018/11/07 22:03PM

..

الحمد لله الذي منَّ على هذه الأمة بنعمةِ خير البرايا، وجعل التَّمَسُّكَ بسنته عصمةً من الفتنِ والبلايا، ونسأله الثباتَ على السنة والسلامةَ من المحن والرزايا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالِمِ السر والخفايا، المطلعِ على مكنون الضمائر والنوايا، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله، كريمُ الخصالِ وشريفُ السجايا، والمجبولُ على معاني الأخلاق المعصومُ من الدنايا، جيَّش في سبيل الحق الجيوشَ وبعَث البعوثَ والسرايا، عليه من الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه أشرف التحايا.

 أما بعد: فيا عباد الله: خيرُ ما يوصى به تقوى الله -عز وجل-؛ فإنها عصمةٌ من الآفات مكينة، وجُنةٌ دون الفرطات حصينة )ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا( فالزموا -رحمكم الله- تقوى إله العالمين؛ فإنها عزٌّ وحرزٌ في الدنيا والمرجع.

فيها من الدارين فاستمسك بها *** والزم تنل ما تشتهيه وتدعي

أيهاالمسلمون: كانت السنة الثالثةُ الهجريةُ موعودةً بمقدم طفل، طفلٍ لا يحمل من جنات الطفولة إلا اسمَها، وُلد رجلًا بلا لحية، وحكيمًا بلا تجربة، وعالمًا بلا معلومة، نسبٌ فاخر، وحسَبٌ زاخر، وهُدى متوافر

لا يُعرف طفلٌ توفي رسول الله -r- على أشدِّ حبًّا منه، وقد ثبت عنه -r- أنه قال عن هذا الطفل: (اللَّهُمَّ إِنِّيْ أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ). متفق عليه. بل بلغ حبُّه r لهذا الطفل أن يمصَّ لسانه.

جاء جبريل عليه السلام إلى النبي r فبشره أن هذا الطفل سيدُ شباب أهل الجنة.

كان في شبابه سَيِّداً، وَسِيماً، جَمِيْلاً، عَاقِلاً، رَزِيناً، جَوَاداً، مُمَدَّحاً، خَيِّراً، دَيِّناً، كَبِيرَ الشَّأْنِ. ولا غرو -عبادَ الله- فقد كان يشبه النبيَّ r كثيرًا.

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ

عن حسن الأمةِ أحدثكم، عن طفلٍ هو من أول الداخلين في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب: 33].

لقد وَلدت الزهراءُ زهرةً كان شذاها سُلافةَ عطرٍ أبدية، قصةُ حب نبوية، لقد ولدت الحسنَ بنَ علي بنِ أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي

ليس في الدنيا كلِّها نسب يقارب هذا النسبَ الشريف، أو يضاهيه. جده رسول الله وأمه فاطمة!

نسب كأن عليه من شمس الضحى ** نورًا ومن فلق الصباح عمودًا

 تأملوا معي هذا المشهد: خطب النبي -r- يومًا بأصحابه فدخل الحسنُ والحسين وعليهما ثوبان أحمران يعثُران من المشي، فلما رآهم النبي -r- لم يصبر على مشهدٍ كهذا، كيف ورسول الله بشرٌ من البشر، فقطع خطبته ونزل من فوق منبره، فأقبل نحوَهما وضمّهما إليه ضمًّا شديدًا، ثم صعِد بهما المنبر، ثم قال لجموع الصحابة الحاضرين لقد صدق الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، ثم قال: "نظرت إلى هذين فلم أصبر"، ثم شرع في خطبته يُكملها.

بل ربما دخل النبي -r- المسجد وهو يحمل الحسن، فيمتطي الحسنُ ظهر النبي -r- وهو ساجد، فيُطيل -r- السجدة؛ كراهية أن يُعْجِله. كانت علاقةً كبرى مع أكرمِ جد وحفيد، منذ خلق الله خليقته، وإلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها.

يا أهل بيتِ رسولِ اللّه حُبُّكُم ***  فرضٌ من اللّه في القرآن أنزله

كفاكمُ من عظيم القدر أنّكمُ *** من لم يصلّ عليكم لا صلاةَ له

كان t من أعبد الناس؛ فقد قال ابن عباس t: حَجَّ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ خَمْساً وَعِشْرِيْنَ حَجَّةً مَاشِياً، وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ.

وكان t إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ rيَجْلِسُ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ.

 إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ ... أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ

كان عفيف اللسان، حتى قال عُمَيْرُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا تَكَلَّمَ عِنْدِي أَحَدٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ إِذَا تَكَلَّمَ أَلَّا يَسْكُتَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةَ فُحْشٍ قَطُّ إِلَّا مَرَّةً ; فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا إِلَّا مَا رَغِمَ أَنْفُهُ. فَهَذِهِ أَشَدُّ كَلِمَةِ فُحِشٍ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَطُّ.

وأيضًا كان t على جانب عظيم من الكرم؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: رُبَّمَا أَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وكان لَا يَدْعُو إِلَى طَعَامِهِ أَحَدًا ; يَقُولُ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أَحَدٌ.

سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... يَزِينُهُ اثْنَانِ حُسْنُ الْخُلْقِ وَالْكَرَمُ

 وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ t يُجِلُّ الحسن وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَتَفَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وعثمان y بل كان عليُّ بنُ أبي طالب يُكْرِمُ ابنه الْحَسَنَ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيُبَجِّلُهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا بُنَيَّ، أَلَا تَخْطُبُ حَتَّى أَسْمَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخْطُبَ وَأَنَا أَرَاكَ. فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَجَلَسَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْحَسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَعَلِيٌّ يَسْمَعُ، فَأَدَّى خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللحسن بن علي فاستغفروه....

الخطبة الثانية

الحمد لله تقدسَ صفاتٍ وأسماءً، وجل حمداً وشكرًا وثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى مقامَ أهلِ البيتِ شرفًا وزكاء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، إمامُ المتقين أسوةً واقتداء، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وتابعيهم ما تعاقب الملوان انتهاء وابتداء أما بعد:-

فإنه لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ t بَايَعَ النَّاسُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَوَلِيَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. قال الإمام أحمد: بَايَعَ الْحَسَنَ تِسْعُونَ أَلْفًا، فَزَهِدَ فِي الْخِلَافَةِ وَصَالَحَ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِي أَيَّامِهِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ.

وقال جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَقُوْلُوْنَ: إِنَّك تُرِيْدُ الخِلاَفَةَ. فَقَالَ: كَانَتْ جَمَاجِمُ العَربِ فِي يَدِي، يُسَالِمُوْنَ مَنْ سَالَمْتُ، وَيُحَاربُوْنَ مَنْ حَاربْتُ، فَتركْتُهَا للهِ. وكان هذا مصداقًا لقول النبي r في ابنه الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ). رواه البخاري.

هذا الحسن t يترك الخلافة والملكَ وهي أعظم مطالب الدنيا حقنًا لدماء المسلمين وابتغاءَ الأجر من الله؛ فلماذا يتهاوى بعض شبابنا وفتياتنا أمام أرذل شهوة أو لذة، ولو كان ثمنُها الدينَ أو العرض أو المبادئ والمروءة؟!

قال العلامة الذهبي: أَعَاذنَا اللهُ مِنَ الفِتَنِ، وَرَضِيَ عَنْ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ، فَترضَّ عَنْهُم يَا شِيْعِيُّ تُفلحْ، وَلاَ تَدْخُلْ بَيْنَهُم، فَاللهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، يَفعلُ فِيْهِم سَابقَ عِلْمِهِ، وَرَحْمتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ القَائِلُ: (إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَ: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُم يُسَألُوْنَ} انتهى كلامه رحمه الله.

ولَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ t كَانَ الحسن يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ مَعَ أَخِيهِ الْحَسَينِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُكْرِمُهُمَا إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيَقُولُ لَهُمَا: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. وَيُعْطِيهِمَا عَطَاءً جَزِيلًا، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ: خُذَاهَا وَأَنَا ابْنُ هِنْدَ، وَاللَّهِ لَا يُعْطِيكُمَاهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَنْ تُعْطِيَ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا بَعْدَكَ رَجُلَيْنِ أَفْضَلَ مِنَّا.

يُنْمَى إِلَى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ ... عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَمُ

قال عَمْرِو بْنُ الْأَصَمِّ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: كَذَبُوا وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا اقْتَسَمْنَا مَالَهُ.

وقبيل وفاة الحسن t قال موصيًا أخاه الحسين: يَا أَخِي! إِنَّ أَبَاكَ لَمَّا قُبِضَ رَسُوْلُ اللهِ -r- اسْتَشْرَفَ لِهَذَا الأَمْرِ، فَصَرَفَهُ اللهُ عَنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، بُوْيِعَ، ثُمَّ نُوزِعَ حَتَّى جَرَّدَ السَّيْفَ وَطَلَبَهَا، فَمَا صَفَا لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنِّي -وَاللهِ - مَا أَرَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ فِيْنَا - أَهْلَ البَيْتِ - النُّبُوَّةَ وَالخِلاَفَةَ.

وفي عام تسعة وأربعين من الهجرة ودع المسلمون سبطَ رسول الله r وريحانتَه ، ومات شهيدًا مسمومًا t

 (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)

وهاهم جنودنا أحفاد الحسن يقاتلون في جنوب جزيرة العرب اليوم، يقاتلون أحفادَ الذين تسببوا في قتل علي والحسين فلا تنسوهم من دعائكم.

يا أيها القوم الذين نحبهم صلوا على آل النبي وسلموا:

من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ *** كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ

مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ *** في كلّ بَدْءٍ، وَمَختومٌ به الكَلِمُ

..

المرفقات

بن-علي

بن-علي

المشاهدات 1119 | التعليقات 0