عندما تنهار الأخلاق! // خالد رُوشه

احمد ابوبكر
1435/06/17 - 2014/04/17 03:08AM
أخلاق المجتمعات هي العنصر الأهم في بنائه , والأقوى اثرا في بقائه , وقيمته الكبرى في الحفاظ على أمنه وأمانه , وهي دليل رقيه وتطوره وتحضره .

والحضارة الحقيقة إنما تقاس بالأخلاق الإنسانية لا بالقيم التكنولوجية , فالتكنولوجيا والتقدم المادي يمكن أن يكون وبالا على الأمم , وسببا في انهيارها الحضاري .

وكم من أمم انهارت , بل تلاشت , على الرغم من كبير تقدمها وعتو قوتها , لأنها ضيعت أخلاقها وتهاونت في مبادئها وثوابتها . ومن حولنا مجتمعات , صارت خواء من الداخل , ينخر فيها الفراغ العقدي والجوع القيمي , وانعدام الأخلاق , رغم تقدم قدراتها المادية .

إن هذه اللوثة الأخلاقية المنتشرة بيننا وفي مجتمعاتنا والتي تشي بحالة سقوط غالبة لقيم هذا المجتمع ومبادئه وتجد كثيرا من الداعمين لها والمروجين , لهي الداء الأشرس الذي دب في ذلك المجتمع والذي يؤذن بهلاكه إن لم يتدارك , لا اقول إن ذلك حادث جديد السبب والأثر , بل هي تراكمات عديدة عبر عقود طويلة , سعت فيها قوى وأفراد إلى تنحية قيم هذا المجتمع ومبادئه وثوابته واستبدالها بغيرها من المعاني المادية , التي لا تبني إنسانا ولا تقيم أخلاقا

لم يمتدح القرآن الكريم , الإنجازات المادية لأقوام أفسدوا في الأرض أخلاقيا وسلوكيا , بل كانت إنجازاتهم المادية دليل إدانة عليهم , إذ أنعم الله سبحانه عليهم بها فخالفوا أمره في الدينونة لله ربهم الذي أمرهم بطاعته " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب " " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ."

الإنجازات المادية وحدها لاتبني حضارة , والحضارة لابد أن تكون منتجا سلوكيا بشريا وأخلاقيا وثقافيا ومبادئيا قبل أن تكون تكنولوجيا وآلات , وإلا فلنتخل عن كينونتنا كبشر وعن صفتنا كعبيد لله سبحانه وعن وظيفتنا كمصلحين في الأرض

هناك كذلك خلط في المفاهيم المتعلقة بالعلاقات بين أفراد المجتمع وأسلوب ضبطهم القيمي والفكري ومحددات استقائهم للثقافة العالمية المختلفة - والذي يصور في وسائل الإعلام على أنه تطور حضاري وتصور تقدمي فيما يخص الملفات الاجتماعية المختلفة - لا يفرق بين ما يصلح أن يكون في مصلحة الإنسان وما هو في اتجاه التوسع المادي مما قد يكون ضارا به .

ولست بحاجة أن أوضح أن فارقا كبيرا بين بناء الإنسان وبناء المادة , وأن مجتمعاتنا بحاجة إلى بناء الإنسان الفاعل والمتميز قبل البحث عن استيراد المواد المعلبة والمخلوطة بالتكوينات الغريبة عن مجتمعاتنا . لاشك أن هناك منطقة ملتحمة يرتبط فيها الإنجاز بالإنسان , وتلتصق فيها معاني الرقي والتقدم بالقوة التكنولوجية والتقدم المادي, لكن ذلك لا يجب أن يقوم على إذابة التكوين الإنساني للفرد والمجموع في بيئتنا المسلمة ..

أقول ذلك في معرض الرد على الداعين إلى تغيير منظومتنا القيمية وعقدنا الاجتماعي الديني الإسلامي في بلادنا رغبة في اللحاق بركب الحضارة ..

إن الرؤية الحضارية بمفهومنا هي تلك الرؤية التي تحقق ذات الإنسان الصالح وتقيم مجتمعه الطاهر وتحقق القيم السماوية الموقرة , ومن ثم تكون الآثار الإنسانية مبنية على صالح الإنسان لا على استخدامه وإذابته وتسخيره لها , ومن ثم أيضا يكون انتاج الإنسان الحضاري إنتاجا نافعا على شتى المستويات لايخدم وجها دون وجه ولا يهتم بطوائف دون أخرى ولا ينمي جانبا على حساب جانب .

إن دعوى الحضارة المرتبطة بالأثر الإنتاجي والتكنولوجي وحده والانبهار بذلك هي دعوى ناقصة بالتأكيد لأن الإنسان في تجربته الغربية فقد كثيرا من مقومات إنسانيته في حين تضخم أثر الآلة والحجر في حياته , صرنا نرى غابات إسمنتية تحكمها آليات بلا شفقة ولا رحمة ولا أخلاقيات ولا قيم !!

لقد بدأ ذلك منذ عقود طويلة , ونلحظ أن هؤلاء الداعين إلى ذلك النوع من التغيير هم أولئك الذين تركوا أنفسهم استسلاما للفكر الغربي الحديث المتحلل من القيم الدينية , مع حالة انبهارية من التقدم الغربي كما ذكرنا ..

غالب هؤلاء قد أمضى فترات طويلات قريبا من تلك المجتمعات سواء عن طريق الدراسة فيها أو العمل أو الهجرة أو الخلطة بشكل أو بآخر , كما يجمعهم أيضا وصف آخر وهو ضعف صلتهم العلمية بالمعاني الإسلامية وضعف اعترافهم العقيدي بأن المصلحة العليا للإنسان والمجتمع قد حددها المنهج القرآني العظيم تحديدا ظاهرا معلوما .

إنهم يخاطبوننا عادة من خلال بيئتهم التي ترعرعوا فيها وخلفيتهم الثقافية التي ينطلقون منها , حتى إنهم لا يتفهمون غالبا ذلك النوع من الاستمساك بالثوابت الإيمانية ويرونها نوعا من تحكم وتشدد غير مبرر !! إنهم يستغربون ويغضبون ممن يصفهم بأذناب الغرب أو بأصحاب المشروع المناهض للدين, وبينما يستنكرون تلك الأوصاف , فإنهم يرون أنفسهم مخلصين لأفكارهم ودعواتهم , بريئين من اتهامات لهم بالعمالة والانتفاع , بينما هم يستميتون في الدفاع عن أفكارهم ..

وبرغم أن كثيرا من أصحاب دعوات التحرر من القيد الديني هم بالفعل من المنتفعين والناقمين على الإسلام , فإن هناك طائفة لايحملون حقدا على الدين وربما يريدون بالفعل تقدم بلادهم وتطور مجتمعاتهم , ولكنهم إنما يشتغلون بمهامهم تلك بناء على ما ذكرناه من بنائهم الثقافي والفكري عبر سنين طويلة من البعد عن الإسلام والانغماس في حضارة مادية لامقام فيها للدين عموما وللإسلام خصوصا .
المشاهدات 1137 | التعليقات 0