عمارة المساجد
صالح عبد الرحمن
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) [الْأَعْلَى: 2 – 5]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له ؛ فَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ لِعِبَادِهِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الطَّاعَاتِ، فَمَنْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابٌ مِنَ النَّوَافِلِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابٌ، ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا تَجِدُونَهُ أَمَامَكُمْ؛
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا أَوْ يُشَارِكَ فِي بِنَائِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الْأَرْضِ، وَفِيهَا يُعْبَدُ وَيُوَحَّدُ وَيُذْكَرُ اسْمُهُ، وَيُتْلَى كِتَابُهُ، وَفِيهَا يُنْشَرُ الْعِلْمُ وَيُرْفَعُ الْجَهْلُ، وَفِيهَا الْمَوَاعِظُ وَالْخُطَبُ وَالتَّذْكِيرُ، فَتَلِينُ الْقُلُوبُ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَتَتَنَبَّهُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَكَمْ مِنْ تَوْبَةٍ كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَسْجِدِ وَمَا يُمَارَسُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ.
وَعَامِرُ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُشَارِكُ فِي عِمَارَتِهِ قَدْ وَضَعَ مَالًا وَنَسِيَهُ، وَلَكِنْ يَبْقَى أَجْرُهُ عَلَى مَرِّ الْأَزْمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ وَقْفٌ، فَيَبْقَى الْأَجْرُ مَا بَقِيَ الْوَقْفُ.
وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَأَرَادَ بِنَاءَ مَسْجِدِهِ كَانَتْ أَرْضُهُ حَائِطًا لِبَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ” (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ)، فَبِاللَّهِ عَلَيْكُمْ كَمْ مَضَى عَلَى وَقْفِ بَنِي النَّجَّارِ مِنَ الْقُرُونِ، وَكَمْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمْ خَرَّجَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْوُعَّاظِ وَالْحُفَّاظِ؟! لَا يَحْصِي ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ -تَعَالَى-، وَأَرْضُهُ وَقْفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَكَمْ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ؟!
وَوَسَّعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَعْمَلُونَ مَعَهُ بِأَيْدِيهِمْ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ” (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: قَالَ: “فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: “يَا عَمَّارُ، أَلَا تَحْمِلُ لَبِنَةً كَمَا يَحْمِلُ أَصْحَابُكَ؟” قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ”.
وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ثَنَاءٌ عَلَى عُمَّارِ الْمَسَاجِدِ (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التَّوْبَةِ: 18]، فَأَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى عُمَّارِ الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَزَكَّاهُمْ بِالْهِدَايَةِ.
وَتَكُونُ عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ بِبِنَائِهَا، وَتَنْظِيفِهَا، وَفَرْشِهَا، وَإِنَارَتِهَا، كَمَا تَكُونُ عِمَارَتُهَا: بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ عَلَيْهَا لِحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَتَعَلُّمِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَتَعْلِيمِهَا، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ.
وَالْمُخْلِصُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ يُجْزَى بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ“، وَفِي رِوَايَةٍ: “بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ” (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَسَاجِدُ الطُّرُقِ لِلْمُسَافِرِينَ الَّتِي عَادَةً مَا تَكُونُ صَغِيرَةَ الْمِسَاحَةِ، وَلَمْ تُهَيَّأْ كَتَهْيِئَةِ مَسَاجِدِ الْحَوَاضِرِ؛ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: “مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ” فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُصْنَعُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ؟ قَالَ: “وَتِلْكَ“.
وَمَهْمَا صَغُرَتْ مِسَاحَةُ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَحِقُّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ.
وَتَوْسِعَةُ الْمَسْجِدِ إِذَا ضَاقَ بِالنَّاسِ لِصِحَابِهَا خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟” قَالَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي” (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
فَحَرِيُّ بِكُلِّ وَاجِدٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْخَيْرِ عَطَاءٌ، بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ؛ لِئَلَّا يُحْرَمَ مِنْ بَابِ الْخَيْرِ هَذَا.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ…
الخطبة الثانية:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَيَنْبَغِي لِمَنِ ابْتَنَى مَسْجِدًا أَنْ يَتَعَاهَدَهُ وَمُلْحَقَاتِهِ بِالصِّيَانَةِ الدَّائِمَةِ؛ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهُ، وَأَكْثَرَ رَاحَةً وَخُشُوعًا لِلْمُصَلِّينَ، وَأَكْثَرَ لِجَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ الْمُصَلِّينَ يَحْتَشِدُونَ فِي الْمَسَاجِدِ الْمُهَيَّأَةِ الْمُرِيحَةِ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْبِنَاءِ، وَأَجْرُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ بِنَائِهِ، مَعَ مَا يَنَالُهُ مِنْ دَعَوَاتِ الْمُصَلِّينَ.
ومن الجهات الخيرية الرسمية الداعمة لصيانة المساجد وترميمها والعناية بها " جمعية مساجدنا على الطرق "
ويديرها شركة الإنماء للإستثمار" فحري بنا جميعا المبادرة لهذا العمل الجليل ولنضع لنا بصمة في حياتنا قبل مماتنا