عمارة المساجد في رمضان
محمد ابراهيم السبر
خطبة: عمارة المساجد في رمضان
الحمد لله الذي جعل المساجد خير البقاع وأحب البلاد، أحمده سبحانه وأشكره فنعمه لا تحصى ورزقه ما له من نفاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم الفصل والتناد، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام وجاهد في الله حق الجهاد، وبين لأمته طريق الهدى والرشاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى أن يقوم الناس لرب العباد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. آل عمران: 102.
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. سورة التوبة: 18
المساجد بيوت الله وأحب البقاع إليه، قال ﷺ: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» رواه مسلم، هي قلب الأمة النابض والمرتكز الذي يقوم عليه بناؤها.
المسجد هو الركيزة القوية لكل نهضة وإصلاح في محيط الأمة الإسلامية فقد أمضى النبي أياماً قلائل في قباء وهو في طريقه إلى المدينة وبنى مسجد قباء أول مسجد في الإسلام أسس على التقوى.
وحين دخل المدينة كان أول مشروع بناء هذا المسجد النبوي الشريف، الذي كان فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد وأعمدته الجذوع، بل ربما أمطرت السماء فتَوَحَّلَتْ أرضه، فخرّج هذا المسجد قادة الأمة وساستها الذين هابتهم الدنيا، خرج من هذا الفناء المتواضع أئمة القراء والمفسرون ورواة الحديث وأعلام الفقهاء.
كان مسجداً وجامعةً ومحضناً للتربية والتعليم يغرس القيم ويحرس الفضائل، فما أعظمها من رسالة خالدة للمسجد في الإسلام! يصدح الأذان في الإرجاء، وتترنم المآذن كل يوم خمس مرات حي على الصلاة حي على الفلاح.
المساجد أحب البقاع إلى الله، فإليها تهبط الملائكة، وتتنزل الرحمات، وتغشى أهلها السكينة، وتحل عليهم البركات، فيها يتعارف المسلمون، وتتربى فيها الأجيال المسلمة، وتأوي إليها النفوس الطاهرة، والقلوب الممتلئة محبة وإنابة، وخوفاً ورجاءً، وإخلاصاً وتوكلاً، وذلاً وتعبداً، فيها تقام مجالس العلم والذكر، وقراءة القرآن الكريم، ودراسة سيرة سيد المرسلين.
فإذا كانت المساجد أحبَّ البلاد إلى الله، ومن أشرفَ أماكن ذكره وعبادته وضيافته، صار من المحتم تعظيمها ورعايتها وتطهيرها، فإن عمارتها وخدمتها مما رتب عليه الشرع جزيل الأجر والثواب، وجعل ذلك علامة من علامات الإيمان، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. التوبة: 18، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ» متفق عليه. فمن بنى مسجداً فتح منفذاً لنسمات الجنة، ونفحات الفردوس، كيف لا يكون للمساجد هذا الجلال، وهي مأوى أفئدة المؤمنين، وملتقى المصلين، ومن فوق منارتها تعلو أصوات المؤذنين، ينادون إلى الهدى والفلاح، وفي محرابها يقوم نواب الأنبياء، والمصلون يتلون كتابه ويدعونه متعبدين خاشعين، ولربهم متضرعين، يرجون ثوابه، ويخشون عقابه، ومن منابرها تتساقط الحكم والمواعظ في آذان المؤمنين.
وعمارة المساجد لها معنيان: أولها: عمارة حسية بإقامتها وترميمها وصيانتها، وبالمشاركة في تشييدها ولو بالقليل، فالمؤمن مأجور ولو كانت مشاركته كمَفْحَصِ قَطَاةٍ لبيضها. وثانيها: عمارتها عمارة معنوية بالصلاة، والذكر والدعاء، وإقامة دروس العلم، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم. قال رسول الله ﷺ: «مَنْ غَدَا إلى المسجدِ أو رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ». متفق عليه.
المساجد بيوت الله وحده لا يعبد فيها سواه، مكرمة مطهرة من أرجاس الشرك والكفر والبدع: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾. البقرة: 125، أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتعظيم، فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ الجن: الآية، 18. تعمر بالطاعات والقربات، وفيها تتطهر النفوس والأبدان من أدران الذنوب والعصيان، وتحصل فيها الراحة والأمن والأمان.
ولقد كان النبي ﷺ حريصاً على تشييد المساجد في أي مكان يصله الإسلام، فأقام بتبوك مسجداً على الرغم من أن إقامته بها لم تتجاوز بضع عشرة ليلة، وأولى الصحابة الكرام بعد وفاته ﷺ أهمية كبيرة لبناء المساجد، وجعلوا بناء المساجد تابعاً لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها، فهذا عمر بن الخطاب يأمر عمرو بن العاص رضي الله عنهما عندما فتح مصر أن يبني مسجداً، فبنى مسجداً عرف فيما بعد بمسجد عمرو وما زال هذا المسجد قائماً حتى يومنا هذا.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً، ويتخذ للقبائل مسجداً، فإذا كان يوم الجمعة، اجتمعوا فشهدوا الجمعة معاً، وكتب إلى أمراء الأجناد أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً، وهكذا هي عادة المسلمين حين يفتحون بلداً جديداً، يقيمون المسجد، ليكون مقراً للعبادة، والشورى والتعليم، بل ونقطة انطلاق إلى بلد آخر، بالجهاد والدعوة إلى الله.
ولقد اعتبر الإسلام رفع الآذن والمساجد أمارات تدل على إسلام أهل البلد، وأنها أصبحت من ديار الإسلام ينطبق عليها ما ينطبق على البلاد الإسلامية من أنظمة وإجراءات وأهمها الدفاع عنها وصيانتها وحمايتها من الأعداء، وهذا دليل على ما للمساجد من أثر بالغ في الإسلام فوجودها وعمارتها صورة حية للمجتمع الإسلامي.
المساجد والجوامع هي من أبرز معالم الحضارة الإسلامية التي تشهد بماضي الأمة المشرق، وحاضرها الزاهر، وقد كان من جملة ما اهتم به حكام هذه البلاد الطاهرة رعاة الحرمين الشريفين من طباعة المصحف الشريف، وتشييد المساجد وتوسعتها على أساس متين ومظهر لائق، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ النور ٣٦-٣٨ ومن اعتنى ببيوت الله وصانها وشرفها فقد شرف الله تعالى، قالت عائشة رضي الله عنها: «أمر رسول الله ﷺ ببناء المساجد في الدُّورِ، وأن تُنظَّف، وتُطيَّب». رواه أبوداود.
ومن هذا المنطلق جرت عادة الأخيار وأهل الإحسان من أبناء هذه الأمة المسلمة، أن يتقربوا إلى ربهم ويفيدوا أبناء دينهم ووطنهم، ببناء المساجد ورعايتها وطباعة المصاحف ينفقون عليها الجزيل من مالهم، ويرجون بتشييدها المثوبة عند خالقهم، دافعهم الإيمان، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألا ينقطع عملهم بعد موتهم، مستحضرين قول النبي ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». رواه مسلم.
وقد أتاحت وزارة الشؤون الإسلامية مشكورة خدمة المساهمة في بناء المساجد وطباعة المصحف الشريف ونشره عبر منصة (إحسان) فبادروا يا أهل البر والإحسان، فإن بناء المساجد وطباعة المصاحف من الصدقة الجارية ومن أعظم وجوه الوقف لمن أوقف فيها، فالوقف يمتاز عن غيره بدوام أثره، وعظيم منافعه وأجره، فأثره دائم متصل إلى يوم القيامة.
فما أحوجنا في زماننا هذا إلى نفحات المساجد نتطهر عندها ونتعبد، ونتسامى في شعورنا ونتعالى، ونجتمع فيها وحولها ونتلاقى، حتى ندخل إليها طالبين زادا ومددا، ونخرج منها بنفوس مهذبة، وقلوب مرتاحة مطمئنة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعدُ، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وفي رمضان المبارك تعمر المساجد بالتراويح والقيام، وتعج بالمصلين، والذاكرين والداعين، والمعتكفين، وترتفع أصوات التالين للقرآن الكريم، فهنيئاً لأقوام تعلقت قلوبهم بالمساجد، فهي شديدة الحب لها والملازمة لها، ولو كانت قليلة القعود فيها، فلأصحاب هذه القلوب يوم القيامة تكريماً، وظل الرحمن سيكون لهم ظلاً ظليلاً، قال ﷺ: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل قلبه معلق في المساجد " متفق عليه.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر واستكمل الأجر وفاز بليلة القدر فأزحت عنه الذنب والوزر.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم وَفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.
اللهم انصر جنودنا المرابطين، وردهم سالمين ظافرين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات..