عمارة المساجد حِسّيًّا ومَعْنويًّا

محمد بن عبدالله التميمي
1444/08/30 - 2023/03/22 16:25PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي الفضائلِ والمحامد، أحمد سبحانه حمد شاكر عابد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين ولا مُسانِد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه قام بالدعوة إلى الله وجاهَد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكُلِّ تابِعٍ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرا، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، فإنها طريقُ الفلاح وسُلَّمُ النجاح، ولأجلها شرع الله الصيام، ومعلوم ما فيه من مراقبة الملِكِ العلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

عباد الله.. لقد فاضَلَ اللهُ تعالى بين خلقهِ، واختارَ ما شاء بفضلِه، وتعَبَّدَنا بمعرفة ما جاء النصُّ بتفضيلِه، ففاضل في الأعيان والزمان والمكان، فمن ذلك أنْ كرَّم الإنسان، وفضَّل رمضان، وشرَّف المساجد فهي بيوت الرحمن، وهذا باعِثٌ للمسلم على السبقِ إلى الفضائل، والتنافُس على أعلى المراتب، وذلك من التقوَى، وتحقيقِ عبوديةِ المولى.

عباد الله.. امتنَّ الله على العباد بأن جعل الأرض لهم مهاد، وأرساها وثبّتها بالجبال الأوتاد، وخصَّ هذه الأمة بخصيصة من بين الأُمَم: أنْ جعل الأرضَ كلَّها مسجِدٌ وطَهُور، إلا أنه عزَّ وجَلّ فضَّل بعضَ الأرضِ على بعض، فأحبُّها إلى الله تعالى: المساجدُ بيوتُ الله، أضافها لنفسه تشريفًا وتكريمًا، هي مواطِنُ عبوديته، والمخصوصةُ بطاعتِه، قال عليه الصلاة والسلام: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها» رواه مسلم، وذلك لأنها بيوت خُصَّت بالذكر، وبُقَعٌ أُسِّسَت للتقوى والعمل الصالح -قاله القاضي عياض-. وذلك لِـمَا خُصَّت به من العبادات والأذكار، واجتماعِ المؤمنين، وظُهور شعائِر الدين.

عُمَّارُ المساجِد -العِمارةَ الحِسّيّة- بِرَفْعِ بِناءِها: هم صفوةُ الخلقِ من الأنبياء وأتباعِهم، قال الله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، وحين وصَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قُباء بنى مسجِدَها، ولما نزَلَ المدينة بنى مسجِدَه.

وأمر عليه الصلاة والسلام ببنائها في المَحَالِّ والأحياء، فعَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالَتْ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِناءِ المَساجِدِ فِي الدُّورِ وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ»، وبِنَاؤُها قُربةٌ وعبادةٌ، والقائمُ بذلك موعودٌ بالثواب العظيم في جنات النعيم، قال عليه الصلاة والسلام: «مَن بَنى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنى اللهُ له في الجَنَّةِ مِثْلَهُ» متفقٌ عليه.

ومن تمام العِمارة الحِسّيّة: تطهيرُها، وهذا سَنَنُ المرسلين، وعبادِ الله المُخلَصين، قال الله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وأمر النبيُّ ﷺ بتنظيفها وتطييبِها كما في حديث عائشة المتقدِّم، وكان ﷺ يباشر فِعْلَ ذلك، فحين رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، شَقَّ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلَا يَبْصُقْ أَحَدُكُمْ فِي قِبْلَتِهِ» متفقٌ عليه، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أَرُونِي عَبِيرًا» فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ، قَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ.

وجعل النَّبِيُّ ﷺ كفارةَ خطيئةِ التلويث: إزالتُه ومَحْوُ أَثَرِه، ففي حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»، وفي رواية: «فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَتَهُ» أي: في منديلٍ ونحوِه، وفي حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه: «وَدَفْنُهُ حَسَنَةٌ»، فإن كان هو الفاعل للخطيئة فتلك كفارتها، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وإن كان غيرُه فهي له حسَنة، كما عظَّم النبيُّ ﷺ من شأن تلك المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد.

فاللهَ اللهَ بتنزيه المساجد عن التلويث، وقد ضَرَبَ النبيُّ ﷺ المثَالَ، الباعِثَ على الامتثال، فقال: «مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟»، ولْيَكُن لكم عبادُ الله مساهمةً مباشِرةً في عمارة المساجد وتنظيفها وصيانتها وتطييبِها، وإن من تيسير سُبُلِ المساهمة ولو باليسير في هذا الباب: ما قامت به الوزارة مشكورة بفتح نافذة المشاركة عبر منصة إحسان، في هذه المشاريع، وفي طباعة المصحف الشريف ونشره، فَأَرُوْا اللهَ من أنفسكم خيرا، وابْتَغُوا عنده أجرا، يَبقى لكم يومَ الجزاءِ والحسابِ ذُخْرًا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. أَقُولُ قَوْلِي هذا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

الخُطبة الثانية

الحمد للهِ نورِ السماوات والأرض، يَتقرَّبُ إليه العباد بالنفل والفرض، وما تَقرَّب عبدٌ بشيء إلى الله أحب إليه من الفرائض فليُقِمها، وبالنوافلِ يُكمِّلْها، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ الديَّان، وأشهد ان محمدا عبدُ الله ورسولُه أجودُ الناس وكان أجودُ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريلُ فيُدارسُه القرآن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعرِفوا قَدْرَ شهركم، فقد نَزَلَ بساحتكم شهرٌ كريم، وموسمٌ عظيم، فَرَضَ اللهُ عليكم صيامَه، وشَرَعَ لكم قيامَه، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِي بكُم مَلَائِكَته، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ.

عباد الله.. وإذا كانت عمارة المسجد حِسيًّا مُرغَّبٌ فيها، فإن العِمارةَ المعنوية بالنصِّ لأهل الإيمان مُعيَّنة، وللمُتَّجِرِ طالبِ الرضوان مُعِيْنَة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} فشَهِدَ اللهُ لهم بالإيمان والهداية.

وأنتمُ عباد الله في شهر رمضان، يَزِيْدُ فيه الإيمان، ويُصفَّد الشيطان، مِن مَرَدةِ الجان، فكونوا للمساجد عامرين، ومن شياطين الإنس لائذين، انشُروا مصاحفكم، واحفظوا صيامكم، وأَحْسِنُوا قيامكم، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَعَاهَدَ صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ وَلَا يُمَارِي، وَيَصُونَ صَوْمَهُ كَانُوا إذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَالُوا: نَحْفَظُ صَوْمَنَا وَلَا نَغْتَابُ أَحَدًا وَلَا نَعْمَلُ عَمَلًا نَجْرَحُ بِهِ صَوْمَنَا).

عباد الله.. لقد أَثْنَى اللهُ تعالى على من عَمَرَ المساجد بالطاعةِ، ووصفهم بأنهم رجالٌ، عصَمَهم الله من فتنةِ الدنيا، فقال عزَّ شأنُه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.

عباد الله الصائمين.. إنه يَشْفَعُ للمؤمنِ الصيامُ والقرآن، فكونوا للصيام حافظين، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً»، وكونوا على كتابك ربكم مُقبِلين، ولآياتِه تالين، ولمعانيه مُتدبِّرين، ومِن خَتْمِه مُكْثِرين، فذلك سَبيلُ الصالحين، قال النبيُّ ﷺ: «الصِّيامُ والقُرْآنُ يَشْفَعانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيامَةِ، يَقُولُ الصِّيامُ: أيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعامَ والشَّهَواتِ بِالنَّهارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، ويَقُولُ القُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ»، قالَ: «فَيُشَفَّعانِ».

فأمَّا مَن ضَيَّعَ صومَه، فلم يمنعه مما حرمه الله عليه، فإنه -كما يقول الحافظُ ابنُ رجب-جدير أن يُضرَبَ به وَجهُ صاحبِه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني، كما ورد مثل ذلك في الصلاة.

اللهم لك الحمدُ أنْ بلَّغتَنا شهر رمضان، فأعنا فيه على الصيام والقيام وتلاوة القرآن، ومُنَّ علينا بالغُفْران، وأَعِذْنا من الحِرمان.

اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، واحْم حوزة الدين، وعليك بأعداء الدين، واهد اللَّهُمَّ الضَالَّين، واجعل هذا البلد عزيزًا وحِصنا منيعًا على أعداء المسلمين، اللَّهُمَّ وَفِّق خادم الحرمين الشريفين وَوَلِيَّ عهده الأمين، اهدهم سُبُلَ السلام، وجنِّبهم الفواحش والآثام.

اللَّهُمَّ أنت الغني ونحن الفقراء اسْقِنا الغَيْثَ، ولاَ تَجْعَلْنا مِنَ القانِطِينَ، اللَّهُمَّ أَغثنَا، اللهم اسْقِنا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، مَرِيعًا غَدَقًا، مُجَلَّلًا سَحًّا، طَبقًا دائِمًا، اللَّهُمَّ إنّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّكَ كُنْتَ غَفّارًا، فَأرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْنا مِدرارًا.

عبادَ الله.. اذكروا الله العظيم الجليل يَذْكُرْكُم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُم ﴿ولَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ واللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ﴾.

 

 

المشاهدات 907 | التعليقات 0