علي بن أبي طالب

فواز ساب
1435/07/30 - 2014/05/29 03:07AM
جاءت هذه الخطبة في نهاية عقد ثمين من سير الخلفاء الراشدين
الخطبة الأولى:
أيها الناس، هل تأملتم الجيل الفريد؟ وهل عاش بعضُكم أخبارهم وآثارهم؟ كان ابن المبارك رحمه الله يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟! فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبيوأصحابه؟!
إنه الجيل الفريد والرعيل الزاكي المجيد الذي ما عرفت البشرية أعظم منه، ولا شاهدت أزكى منه، ولا سمعت بأحسنَ منه، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا.
فتعالَوا بنا نحلق سويا في سماء سيرة البطل المجاهد والإمام الفقيه والحكيم الزاهد، فالعدل من صفاته والزهد أبرز سماته ، العالم البحر القائل:"والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت؟! وكان من كتاب الوحي، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، هو الإمام إذا عُد الأئمة، وهو البطل إذا عُدّ الأبطال، صاحب مشورة أبي بكر، والمستشار الأول لعمر، وهو من أشار على عمر بكتب التاريخ الإسلامي من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان ممن نزل القبر وباشر الدفن، قال له النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: ((أنت مني وأنا منك))،.
إنه –أيها الكرام- أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي، ابن عمّ رسول الله ، وأخوه بالمؤاخاة
بالله عليكم بأي لسان أتكلم على المنبر عن أبي الحسن؟ إنني أعلن من هنا أنني عاجز عن الوفاء بحقه، أو إنزاله منزلته، ولكن يكفينا وفاءً له أن قلوبنا تحبه، وتفرح لذكره، ودراسة سيرته.
نحبه والله من قلوبنا، وأنى لمؤمن ألا يحبه وقد روى الإمام مسلم في فضائله قوله رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمَة، إنه لعهد النبي الأميإليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) ونتقرب إلى الله بحبه.
ولد علي رضي الله عنه قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في حجر النبيّ الأمين وفي بيته الكريم، أول من أسلم بعد خديجة وكان عمره عشر سنوات، فهو أول غلام في الأرض يعلن لا إله إلا الله محمد رسول الله، أسلم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام.
فلما أسلم عليضمه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى حنانه، إلى قلبه، إلى بيته، فأعطاه الرسولكل ما يملك أعطاه الحب أولاً، أعطاه العلم والهداية، زوجه بابنته الزهراء، ولاه المبارزة أمام الأبطال، مجده بالكلمات، ذبّ عنه وعن عرضه، وقف معه حتى ماتوبقي علي.
كان علي يلقب حيدرة، وكنّاه النبيّأبا تراب. أبو السبطين الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة.
شهد علي رضي الله عنه المشاهد كلها مع النبيّإلا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسولفي أهله وقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي))
فأي شرف بعد هذا؟! وأي مكرمة تُطلب بعد هذا الفضل والكرم؟!
ولقد أجاد ضرار الكناني في وصف أخلاق علي الباهرة عندما سأله معاوية أن يصف عليًا رضي الله عنهما، فمما قاله ضرار: (كان –والله- شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان –والله- غزير الدمعة، طويل الفكرة فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، يضطرب ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلي تعرضت؟! إلي تشوفت؟! هيهات هيهات غُرّي غَيري، قد طلقتك ثلاثًا)، فسالت دموع معاوية رضي الله عنه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
أيها الإخوة الكرام: سيرة علي رضي الله عنهـ تبعث في النفوس المنهزمة روح الشجاعة والبطولة، وتقف صامدة أمام كل ظالم ظلوم تفت ظلمه تحثه على العدل في أبهى صوره، تري النفس المتكبرة حقيقتها عندما تشاهد فقره وتواضعه، لا توفي خطبة أو اثنتان أو ثلاثة بعض سيرته رضي الله عنه، وإنما نقف وقفات سريعة مع بعض سماته والحر تكفيه الإشارة.
فهل سمعتم بأول فدائي في الإسلام؟! وهل رأيتم غلاما يُضحّي بنفسه لله ورسوله؟! لقد وضع هذا البطل الشجاع نفسه على سرير الموت، وقدَّمها قربة لدين الله وحماية لرسول الله ، أما كان يعرف الموت ويسمع صليل السيوف؟! بلى، ولكن هانت عليه نفسه في ذات الله. شاب صغير له عواطف وطموحات، وله مباهج وأمنيات، ولكنها تلاشت عندما فاض النور عليه وتغشته حلية الإيمان، فقام متحديًا الكافرين ومخاصمًا الظالمين وحاميًا لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
فقد أجمع كفار قريش على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأَمر عليّا -رضي الله عنه- أن ينام في فراشه تلك الليلة فقال له: نم في فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فرقد عليّ على فراش رسول الله يواري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعليّ، فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي أمرتموه بالخروج فخرج فتأكدوا من نجاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فغاظتهم تلك الإجابة الجريئة فانتهروا علياً وضربوه، وأخذوه إلى المسجد فحبسوه هناك ساعة فتحمّل ذلك في سبيل الله، وكان فرحه بنجاة رسول الله أعظم عنده من كل أذى نزل به، ولم يضعُف ولم يخبِر عن مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فتركوه، وانطلق عليّ في مكة باحثاً عن أصحاب الودائع التي خلّفه رسول الله من أجلها وردها إلى أصحابها.
وصلَت الأحزاب المتجمعة إلى الخندق في السنة الخامسة من الهجرة، فاندهشت لما رأت من تحصّن المسلمين بالخندق،. فلم يحصل القتال، وإنما تراشقوا بالنبل، واستطاعت فوارس من المشركين أن تجتاز الخندق، فكان من هؤلاء فارس كبير ضخم يدعى: عمرو بن عبدود العامري، فدعا إلى النزال وقال:
ولقد بححْتُ من النداء *** لجمعِهِم هل من مبارز
من يبارز أيها المسلمون؟! فيسكتون، من يتقدم ليبارزني؟ فلا يبرز أحد، ولكن علياً لا يرضى بذلك، فيقول: أنا يا رسول الله، يقدم روحه رخيصة لنصرة الدين، وإعلاء راية التوحيد.
فقال عليه الصلاة والسلام: إنه عمرو بن ود!! قال: ولو كان عمرو بن ود، فنزل له علي، وقال:
لا تَعْجَلنَّ فقد أتاك *** مُجيبُ صَوتكَ غيرُ عاجز
فـي نيـة وبصيرة *** والصدق مَنْجَى كلِّ فائز
إني لأرجُـو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يَبقى *** ذكرها عند الهزائز
وتبارز البطلان، وبرقت السيوف، وارتفع الغبار، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله لينصر علياً، وانجلى الغبار، فإذا بعلي واقف على صدر عمرو، وقد قطع رأسه، وسيفه يقطر دما، فكبر الرسول عليه الصلاة والسلام، الله أكبر، وانطلقت هتافات المسلمين: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. فرجعت خيل الباغين منهزمة.
وفي غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة يغزو المسلمون اليهود، فيتحصن الجبناء في حصونهم المنيعة، فيتأخر النصر ، فيبشر النبيّ أصحابه بالفتح، ويبين لهم أن النصر لن يأتي بسهولة ولا بد من قائد مؤمن صادق متوكل على الله، فذكر من صفته ما جعل الصحابة الكرام يشتاقون للإمارة تلك الليلة. فقال: ((لأُعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتحُ الله على يديه))، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللهكلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟!)) فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: ((فأرسلوا إليه))، فأُتي به فبصق رسول اللهفي عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فأخذ أبو الحسن رضي الله عنه الراية، فانطلق إليهم في شجاعة وَمضاء، فخرج إليه مرحب اليهودي، فنزل يختال ويرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مَرحَبُشاكي السلاح بطل مجرَّبُ
إذا الحروب أقبلت تَلهَّبُ
فخرج له من المسلمين عامر بن الأكوع رضي الله عنه، فقتله مرحب، ثم بَرز له علي رضي الله عنه فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدرهكلَيث غاباتٍ كريهِ المنظره
أكيلهم بالسيف كيلَ السندره
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
تلك ـ يا مسلمون ـ هي الشجاعة والبطولة التي يصنعها الإيمان: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
أيها المؤمنون، لقد كان علي رضي الله عنه مع سابقيه من الخلفاء الراشدين على الأخلاق التي رباهم عليها رسولُ الله ، يحبهم ويبجِلهم، ويسمي أبناءه بأسمائهم، ويعترف بفضلهم على رؤوس الأشهاد، ويبذل لهم رأيه ومشورته الناصحة، ويقف معهم صفًا واحدًا أمام الملمات والمواقف العصيبة.
ولقد فُجِع بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فوقف يرثيه متوجعًا، وقال: (رحمك الله يا أبا بكر، كنت –والله- أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدَهم يقينًا، صدّقتَ رسول اللهحين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، كنت والله للإسلام حصنًا، وللكافرين ناكبًا، لم تَهِن حُجَتُك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك). بل إن عمر الخليفة العظيم كان يأتي إلى عليٍ يطلب منه الموعظة والتذكير، ولما قتل عمر رضي الله عنه وغسل وكفن وسجي بثوبه نظر إليه علي رضي الله عنه وقال: (ما أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى).
ولما قُتل عثمانُ وجاء الخبرُ عليًا قال: (تبًّا لهم آخر الدهر). ودخل على عثمانَ فوقع عليه، وجعل يبكي حتى ظنّ منْ هناك أنه سيلحقُ به.
أقول قولي هذا ..










الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: أختير عليّ -رضي الله عنه- للخلافة وبويع عليها، بعد استُشهاد عثمان بن عفان -رضي الله عنه، فبعد أن قتلوه -رضي الله عنه- ظلماً وعدواناً، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمبايعة عليّ -رضي الله عنه- بالخلافة؛ وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، ولم يكن حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة، وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها.
إن أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، هو عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة الذي يجب اعتقاده.
ولقد ساس الناس بالعدل والحلم والنصح والعلم
فقد ذُكر أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يُرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال، ويذكرهم الله بالقرآن.
قال الشعبي رحمه الله: وجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه عند رجل يهودي، فأقبل به إلى القاضي شريح يخاصمه، قال: يا شريح، هذا الدرع درعي، ولم أبِعْ ولم أهَبْ، فقال شريح لليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال اليهودي: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟ فقال ما لي بينة، فقضى بها شريح لليهودي، فأخذه اليهودي ثم مشى، ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يُدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع ـ والله ـ درعك يا أمير المؤمنين، فقال علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك، وحملَه على فرس.
الله أكبر أي عدل هذا.
أيها الإخوة: تولى علي الخلافة قرابة الخمس سنوات، ولكنه ظل فقيراً، حتى أنه من فقره باع سيفه ذا الفقار ليتحصل على الطعام وهو خليفة المسلمين فقال: من يشتريه مني بطعام ليلة!!.
لا يجد قوت يومه وهو الذي ذهب إلى بيت المال، وكان مملوءاً بالطعام والمال والسلاح، فوزع ما فيه في يوم واحد وقال: اللهم اشهد أني ما أبقيت لنفسي منه درهماً ولا ديناراً، ولا حبة ولا تمرة ولا زبيبة.
ولقد قال لأبي فضالة في مرض موته: إني لست ميتاً من مرضي هذا، إنه عهد إلي النبيأني لا أموت حتى تخضب هذه من هذه[6]، يعني تخضب لحيته من صدغه .
خرج عليقبل صلاة الفجر ليوقظ المسلمين للصلاة، ثم دخل المسجد، فوجد عبد الرحمن بن مُلْجم الخارجي الخبيث، وجده منبطحاً على بطنه، وقد جعل سيفه مما يلي الأرض مسلولاً، فقال له علي: لا تنم على بطنك، فإنها نومة أهل النار، وافتتح علي ركعتين، فوثب عليه الخارجي عدو الرحمن، فضربه بالسيف على صدغه فانفلق، فقال علي: الله أكبر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، فسقط على وجهه، وسالت لحيته دماءً غزيراً، وحمل إلى البيت، وبكى المسلمون جميعاً، وتحولت بيوت المسلمين إلى مناحات، يبكون عليا رضي الله عنه.
أبا حسن لهفي لذكراك لهفةيباشر مكواها الفـؤاد فينضـج
متى تستعيد الأرض جمالهافتصبح فـي أثـوابهـا تتبهـرج
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرهفليـس بهـا للصـالحين معـرّج
ولما جاء خبر قتل عليّ إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟! فقال: "ويحكِ!! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم"
وكانت وفاته شهيداً في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة.
المرفقات

علي بن أبي طالب.docx

علي بن أبي طالب.docx

المشاهدات 4830 | التعليقات 4

جزاك الله خيرا


لا فض فوك شيخ أبا نبراس صياغة رائعة وأعتقد أن المتصفح ليتذوق حلاوة الحديث ويسترسل معه من خلال الوصف الجاذب والأسلوب الشيق كما يتذوق أحدنا طعامه.

نفع الله بك وكتب أجرك راجين مزيدا من الحضور وآملين مزيدا من العطاء


بارك الله في قلبك ولسانك . خطبة مؤثّرة تحمل على عمق الاقتداء والتأسّي بصحابي جليل جبل من جبال العلم والعمل .
و إنّ تربية المجتمع بالسلاسل الخطابية المتميّزة - كهذه السلسلة المباركة - أبلغ في التأثير التربوي و أرسخ في الإفهام والتعليم . فجزاك الله كل خير .


جزاكم الله خيرا شيوخنا الكرام ولعل هذا من حسن ظنكم بأخيكم
وشاكر لكم تفاعلكم ومنكم نستفيد