على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات عبد الوهاب آل غظيف

على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات

عبد الوهاب آل غظيف


سلسة من الإجراءت التي تصنف في دائرة التضييق تم إيقاعها مؤخرا بعدد من رجالات العلم والدعوة ، تمثلت في حجب مواقع ، وإيقاف قنوات ، وخدمات تواصلية كرسائل الجوال وغير ذلك ، وربما نسمع مزيدا في قابل الأيام ، وقد كانت مثارا لكثير من الأسئلة ، وكثير من التعليقات التي تمحورت حول هوية هذه الإجراءات وهل كانت بدافع من الغيرة على الدين وصيانة الفتوى ( فأينها عن عبث الليبراليين بالدين ؟ ) وما علاقتها بموقف المشايخ أنفسهم من الحريات والحجر على الآراء ، وكذلك التنبؤ بمآلاتها بعد صدور الآلية التطبيقية للتوجيه الملكي من قبل سماحة المفتي بعد العيد كما وعدنا ، في أشياء أخر كانت حديث الناس بعد هذه الوقائع .

وبين يدي وقفة متواضعة : لأمهد بما هو ذكرى للمؤمنين ، محذراً من التعلق بالماديات والأسباب بعيدا عن مسببها سبحانه ، فليس شيء من العقبات المادية كفيلا بأن يفت في عضد أهل الحق أو يخذلهم عن الحق الذي معهم أو يعيق همتهم في الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ، فإن مما يحمده الرب ويحبه أن يغالب عباده المشاق ويتحملون الأذى في سبيل الدعوة إليه ، ولقد كلفهم سبحانه بذلك ووعدهم في كتابه وعلى لسان رسوله بمضاعفة الثواب ، ولم يطلب منهم ولا كلفهم أن يسيطروا على الناس أو يضمنوا قبولهم الدعوة وأخذهم بها ، ولذا كانت هذه المعوقات المادية كلها بأمر الله الكوني وتحت تدبيره ، ليرى من أوليائه صدق الإيمان والثبات على الحق وقوة التمسك به والثقة بالله وليرى منهم اطراح التعويل على الماديات وعدم الركون إليها .

هذا الحديث الناظر بعين الإيجابية لواقعِ مقدر ٍ ، يجري في نسق واحد مع الحديث الإيجابي في الجهة الأخرى ، الجهة التي تكون فيها الحصانة لأهل الحق كما هي لأهل الباطل ، التي يساوى فيها بين الحق والباطل في ضمانات التعبير ، جهة الحرية الوضعية التي يبررها أصحابها بقولهم : إنه ( لا خوف على الحق منها ، لأنها ستكون مجالا للتدافع وفي النهاية لن يسبق الباطلُ فيها الحقَ ) ، حسنا .. نفس الكلام يردده المناوئون للحرية الوضعية حال فرضها ، وهو - كسابقه المسلي حال القمع - ينظر بعين الإيجابية للواقع الذي تختلط فيه الأفكار ، وكما لا يحتمل الكلام الأول أي قدر من تبرير أو تشريع حالة القمع ، فكذلك الثاني لا يحتمل تبريرا للحرية الوضعية ولا تشريعا لها ، هو كلام متجه لوصف الحسن من الحالتين فحسب ، ولا يعني أنه لا توجد حالة ثالثة أفضل منهما ، تكون هي المشروعة والمبررة ، يطرح فيها ما لا يحتمله الشرع من رأي ، ويكفل فيها حق التعبير لكل رأي لا يخالف الشرع ، تمييزا للحق عن الباطل ، ودفعا للباطل عن الحق .

انخرط البعض في تدبيج مواعظ ( الحريات ) التي تنطوي على قدر لا بأس به من لوم المشايخ و تأنيبهم كونهم لم يطالبوا بالحريات ولم يكفلوها في خطابهم الدعوي ، بل ساغ فيه قمع الآراء المخالفة لهم ، فكان ما يتجرعونه الآن نتيجة لهذا الخطاب ، ونتيجة لمطالباتهم بالحجر على الآراء ، وصاحب ذلك اللوم روح من الثقة دفعتهم إلى التلويح بالحل السحري الذي يملكونه وهو الكفيل بإنهاء أزمة المشايخ ، والمتمثل في ضمان الحرية ، لا حرية التعبير بالحق فحسب ، بل ( الحرية للجميع ) كما كتبوها في تعويذاتهم .

ونحو الوقوف على حقيقة الدعوى بطرفيها ( أن خطاب المشايخ هو سبب ما حصل لهم وأن الحل يكمن في الحرية ) لا بد لنا من تمييز موقف هؤلاء إلى مستويين :

الأول : المطالب بضمان الحرية للجميع في الخطاب الدعوي وتبديل الموقف من الحرية .

الثاني : المطالب بضمان حرية الاختلاف الفقهي ، ويعزوا ما حدث إلى المطالبة بالحجر على الأقوال الشاذة .

وفي إطار المستوى الأول نقول : إننا لا زلنا نسمع منهم أنه لا وجود للحرية المطلقة ، وأن التزاحم يدفع باتجاه تحديد الحريات ، عليه فلا اعتراض على مبدأ التحديد ، وإذا جئنا للمعيار الذي تحدد الحريات على ضوءه فهو عند المشايخ يكون في الشريعة فما تحتمله الشريعة من رأي فهو مكفول ، وما يصادمها فباطل مردود ، فإذا كنتم لا توافقون على هذا المعيار وتفترضون معيار آخر يحد الحريات فأنتم في النهاية تحدون الحرية ، فليس نصبكم عقبة الحرية كفيلا بإلغاء التحديد الشرعي إلا إذا كان كفيلا بإلغاء تحديدكم ، وأنتم تقرون أنها ليست مطلقة !

أما أن تروا الحل يكمن في تنازل المشايخ عن تحديدهم للحرية مقابل أخذهم بتحديدكم فإنهم يقولون لكم :

لا فرق عندنا بين منع المحقين، وبين حصانة المبطلين ، فكلاهما يضران بالمبدأ الشرعي الذي نراه حقا ، فحالكم في زعمكم أن الحل في حريتكم كحال المستجير من الرمضاء بالنار ، وليس الحل في أن يكون الحق الذي دلت عليه الشريعة مكفولا بإزاء الباطل الذي مع أهل الضلال ، ليستويا في الميزان كبديل عن قمع الحق وإسكاته ، من دون أن يكون الحل في الحق المهيمن على غيره والحاكم عليه .

ومن يتحدث عن (الحق الذي لا يضره الباطل) ، وعن (التدافع بين الحق والباطل) ، وعن (الرأي الذي يدفع برأي) لا مكان لحديثه هنا ، إذ كل هذه المقررات لم تكن كفيلة بإتاحة الأحكام الجاهلية الأخرى لتنافس الحكم بالإسلام داخل الدولة المسلمة ، ولا تكفل توفير بيئة للكفار للدعوة إلى عقائدهم والصدع بشعائرهم من داخل المجتمع المسلم بزعم التدافع ، وإن كنا نرددها ونمتثلها حال التعاطي مع الدول الأخرى التي لا تحكم بالإسلام ، ومع الكفار الذين ينشرون عقائدهم من بلادهم ، فهي عبارات جميلة تتجه لمحاسن واقع معين مفروض والتعاطي معه لا تحتمل تشريع هذا الواقع ولا تبريره كما سلفت الإشارة بذلك .

أما في إطار المستوى الثاني : فإني لا أعرف أحدا من المشايخ صادر الخلاف الفقهي أو قال بعدم احترامه ، و دعوتهم للحجر على أصحاب الفتاوى الشاذة لا يمكن جعلها مصادرة للخلاف الفقهي ، لما يلي :

أنها متوجهة إلى الأقوال الشاذة والمفردات المرجوحة ، التي استقر أمر الناس على خلافها من الآراء الأشهر أو الأقرب للدليل التي إن لم تكن حقا فليست بباطل قطعا ، والتعبير بما يخالف هذه الآراء أحدث بلبلة وشوش على الناس ، ولربما عاد بضعف هيبة الشريعة في نفوسهم ، فسوغوا المنع هنا فقط ، فآل إلى كونه منعاً ضيقاً لا منعاً للخلاف الفقهي كما يطلقون ، قابل مسوغوه بين مصلحة الفرد في التعبير عن رأيه ، ومصلحة الجماعة في توحيد العمل على الأرجح بعيدا عما يشوش عليهم ، فقدموا مصلحة الجماعة ، وهذا من جنس التنظيم الذي يقر به أرباب الحرية حال التزاحم ، وليس في معنى ما وقع على المشايخ من مصادرة تعبيرهم مطلقا ومنعهم عن قول الحق إلا بإذن .

ولعلي أختم – بعد هذه الوقفة المتواضعة – بتلخيص يتمثل في :

أن ما ادعاه البعض من كون المشايخ تجرعوا ما نادوا به غير دقيق ، فإن ما نادوا به من حجر – وأنا هنا أبرره لا أوافقه – لا يحتمل منع الخلاف المعتبر السائغ اجتماعيا ( كيف وهم يختلفون في آرائهم الفقهية ويشهرون هذا الاختلاف ؟ ) فضلاً عن أن يحتمل المنع من قول الحق كما هو الذي وقع عليهم .

كما أن ما يزعمه البعض من كون الحل يكمن في تشريع الحرية وضمانها بدل مناوئتها وإبطالها ، هو زعم متهافت ، لا يعدوا أن يكون استغلالا للأزمة ، لتمرير المبدأ المخالف في تحديد الحرية تحت ستار الحل ، والحل ممكن بالتحديد الشرعي للحرية الذي يتمثله المشايخ .
والله أعلم

المصدر: لجينيات
المشاهدات 1405 | التعليقات 0