على ضفاف العشر (استقبال عشر ذي الحجة)

سامي بن محمد العمر
1441/11/25 - 2020/07/16 05:17AM

على ضفاف العشر

أيها المؤمنون:

في طريق السفر إلى الله عقباتٌ ولذاتٌ وملهياتٌ... تُؤخر المسير، وتُقصِّر الخُطا، وتغري بالإقامة والبقاء،

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)

والكل منا لا بد أن يتأثر بشيء من تلك اللذات والمغريات وينجرف وراء اللعب والملهيات ... ولكنّ ربَّنا أرحمُ بنا، وفضله أوسعُ لنا... وقد جعل لنا خطوطَ عودةٍ ، وطُرقَ أوبةٍ ،  وأزمنةَ رجوعٍ وتوبةٍ.

وكلما ضعُفت النفوسُ وقصّرت في حرث الآخرة... جاءها الله بمواسم الخير، وأمطر عليها من سحب الفضل والبر والإحسان.

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)

وعلى مشارف نهاية كل عام... يُعقد موسمُ أكبرِ وآخرِ فرصةٍ للزرع والإنتاج.

بضعة أيام .. تتطلب جهدًا مضاعفًا وهمةً عالية.

بضعة أيام.. نتائجُ الزرع فيها عظيمةٌ ومذهلةٌ.

بضعة أيام.. تعوّضُ خسارة كلِ الأيامِ الماضية.

فلا عجب بعد ذلك أن يُشمِّر لها أصحابُ العقولِ الحية والأنفسِ الرضية ... لعلمهم بأن ما يمضي ويفوت .. لا يمكن أن  يعود.

أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر - أي: عشر ذي الحجة - ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء» .

ومن هنا: علمنا أن الله قد اختار له من أيام السنة عشرة أيام .. عظّمها وفضّلها ( وربك يخلق ما يشاء ويختار)..

وجعل أحب عملٍ يُتقرب به إليه: هو ما أقبل به العبد فيها، وما فعله أثناءها.

والمحب يُقدِّر كل ما يُحبه المحبوب من الزمان والمكان ،، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحرون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها لعلمهم بحب النبي صلى الله عليه وسلم لها.

عباد الله:

تُقبِل علينا أيام العشر محملةً بالمنحِ والعطايا، والفضائلِ والهدايا، وتقول بلسان الحال:

شمِّروا واجتهدوا... فإن كان الله قال عن شهر كامل (أيامًا معدودات)، فماذا يقال يا ترى عن الثلث من عدده؟؟

إنها عشرٌ تنطوي على أسرارٍ عجيبةٍ وحكمٍ بليغةٍ:

فمنها: إن الله قد فرض الحج وهو يعلم سبحانه أن تلك البقاعَ المقدسةَ لن تحتوي بسعتها كل المسلمين القادرين على الحج في كل عام، وأنّ منهم من سيمنعه عذرٌ مّا ، وهو يتقطع ألمًا ويذوب شوقًا إلى البيت العتيق؛ فعوضه ربه بهذه العشر ليزرع فيها ما يسره في القيامة أن يراه، ووعده بالمضاعفة والمزيد تطييبًا لخاطره وإسكانًا لشوقه وألمه.

ومنها: أن العباداتِ على أنواع: قلبية، وقولية، وفعلية: بنوعيها المالي والبدني، 

وقد احتوت العشرُ دون غيرها تلك الأنواعَ كلَّها:

ففيها مظاهرُ التوحيد وشعائرُ الذكر والتهليل والتحميد،

وفيها نوافل الصلاة والصيام،

وفيها بذل المال في الصدقات والأضاحي،

وفيها ما شمل بذلَ المال وجهدَ البدن: الحج والعمرة.

ومنها: أن من طبيعة البشر عند قرب نهاية كل مشروع من مشاريعِ حياتهم أن يندموا على ما فرطوا في مقتبل أمرهم، ويتمنوا أن لو عاد الزمان ففعلوا وفعلوا ... 

فكانت هذه العشر العظيمة في هذا الموقع بالذات من نهاية العام ... كآخرِ فرصةٍ لتعويض ما فات، وتدارك ما بقي.

ومنها: أن من أهل الغفلة من ملأ طريقه إلى الآخرة بمئات المعوقات والعقبات؛ من الذنوب الماحقات والمعاصي المهلكات ... فكان من رحمة الله له أن يُعطى مهلةً أخيرةً في كل عام ، ليُزيل فيها معوقاتِ الطريقِ إلى الجنة بالتوبةِ والإنابةِ والعملِ الصالح.

أيها المؤمنون:

فضائل عشر ذي الحجة معروفة مبثوثة، وكل الأعمال الصالحة فيها محبوبة مطلوبة، وإنما الشأن في همة العاملين، وإقبال العابدين ..

كان سعيد بن جبير إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يُقدر عليه، وكان يقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر" - تعجبه العبادة -.

ألا وإن من الحرمان ... أن يُضيِّع المرء تلك الدقائقَ وذاك الزمانَ اشتغالاً بالقيل والقال، وتتبعاً للأخبار والأحوال، فيُعرض عن الحق اشتغالاً بالخلق فيُسلب حلاوةَ المناجاةِ ولذةَ التعبد.

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فمن الأمثال السائرة والحِكَمِ العابرة:

أن نملةً أحبت فيلاً ، وحين دعته لبيتها وأقبل على باب الجحر الصغير قال لها :إمّا أن تتخذي بيتًا يليق بمحبوبك، أو تتخذي محبوبًا يليق ببيتك.

ونحن مع هذه العشر الحبيبة: علينا جميعًا أن نتخذ همةً وعزماً وأعمالاً صالحة تليق بمكانة الزمان وفضله عند الله، وإلا فإننا نفوِّت المحبوب وربما لا نجد مثله أبدًا.

فلله در أَقوام علمُوا قرب الرحيل فهيأوا آلةَ السّفر، وهانت عندهم الدنيا فقنعوا مِنْهَا بما حضر.

هَذِهِ الأَيَّامُ مَطَايَا فَأَيْنَ الْعُدَّةُ قَبْلَ الْمَنَايَا، أَيْنَ الْعَزَائِمُ؟ أَرَضِيتُمْ بِالدَّنَايَا؟

 إِنَّ بَلِيَّةَ الْهَوَى لا تُشْبِهُ الْبَلايَا، وَإِنَّ خَطِيئَةَ الإِصْرَارِ لا كَالْخَطَايَا

 فيا عبد الله : لُذْ بِالْجَنَابِ ذَلِيلا، وَقِفْ عَلَى الْبَابِ طَوِيلا، وَاتَّخِذْ فِي هَذَه الْعَشْرِ سَبِيلا، وَاجْعَلْ لك في التَّوْبَةِ مَقِيلا، وَاجْتَهِدْ فِي الْخَيْرِ تَجِدْ ثَوَابًا جَزِيلا.

وا خجلَ المتخلف وا أسفَ المسوِّف... إذا عاد الموفق من عشره وقد قبلت توبته، وغفرت حوبته، وسعِدت سفرته، وحمد سعيه، وزكا عمله.

عباد الله:

ومن صور صدق الطاعة والامتثال ما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي: فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي»  وفي رواية (( فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئا)) رواه مسلم.

 

اللهم وفقنا لإدراك العشر والفوز فيها بعظيم الثواب والأجر....

المشاهدات 1109 | التعليقات 0