علو الهمة بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وشباب زماننا!!!
مريزيق بن فليح السواط
1433/11/12 - 2012/09/28 03:21AM
[font="] إن الحمد لله....[/font]
أيها المسلمون:
الإسلامُ دين العز والمجد، ودينُ الاجتهاد والجد، لا كسلَ فيه ولا خمول ولا ذُلّ، حث على علوِّ الهمة، وقوةِ العزيمة، لتزكوا النفوس، وتسمو الأخلاق، وترتقي في أعالي الجنان، وتنالَ رضى الرحمن، وتبتعد عن سفاسف الأمور ورديء الأخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها" وقال تعالى: " ونفس وما سواها. فألهمها فجورها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها".
حين تقْصُر الهمة ينقطعُ العمل، ويُفتح باب الشر، فيترُكُ العبد أعمالا صالحات، ويتكاسل عن فرائض وواجبات، وينشغل بأفعال لا تليق، ويُقبل على تصرفات تضر ولا تنفع، اهتماماته لا تخرج عن أمور تافهة من لهو ولعب، يقضي بها وقته، ويَمضي فيها زمانه، ويقطع بها مراحل حياته، فلا هو بشبابه انتفع، ولا هو في رجولته غنم، ضعُفت همته، وقصُرت عزيمته، فلا يجدي عند لقاء ربه الندم.
معالي الأمور لا يبلغها ألا أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، قال ابن القيم يرحمه الله: كمال الإنسان بهمة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه .
أعلى الناس همة، وأرفعهم قدرا، من رغبتهم في محبة الله ومعرفته، والسعيُّ إلى لقائه، وتقديمُ ما يحب على محبوبات النفس، وطلبُ رضا الرب ولو بسخط الناس، والعملُ بطاعة الله حتى لو صعب وشق وكان فيه إزهاق النفس والنفيس .
الهمة العالية، خلقٌ سام، ومسلكٌ عالي، ترنوا إليها النفوس الأبية، وتهفوا إليها القلوب السليمة، وإذا كان الطائر يطير بجناحيه إلى أعالي السماء، فالهمة العالية تطير بصاحبها فتحلق به في الأفاق .
عالي الهمة يجود بكل ما يملك لتحصيل غايته، وتحقيق رغبته، فهو يعلم أن المكارمَ منوطةٌ بالمكاره، والمصالحَ واللذاتَ لا تُنال إلا بالتعب والمشقة، قال ابن القيم يرحمه الله: وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيمَ لا يدركُ بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، فلا فرحَ لمن لا هم له، ولا لذةَ لمن لا صبر له، ولا راحةَ لمن لا تعب له. بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة.
عباد الله:
سلمانُ الفارسي رضي الله عنه علت به همته، فلم يقنع بنار تُعبد، لعلمه أنها لا تضر ولا تنفع، كان مع أبيه يحش النار، فأرسله في أمر، فمر على دَيْرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية، فأُعجب بهم، فلما عاد أخبر أباه بما رأى، فخاف عليه وسجنه، وقيده بالسلاسل، فراسل سلمان النصارى وهو في السجن عن أصل دينهم؟ فقالوا: بالشام. فاأرسل إليهم إذا أراد أحد أن يسافر إلى الشام فأعلموني!!! فلم علم بمجموعة منهم تريد الشام، حل القيد وهرب، وخرج معهم إلى الشام، وذهب إلى أُسْقُفٍ في كنيسة، وبقي معه يخدمه ويتعلم منه، ويبحث عن الحق عنده، فلما أدركت الرجل الوفاة أكتشف سلمان أنه رجل سوء!!! يأخذ الصدقات ويخزنها؟؟؟ فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه!!! وجعلوا رجلا صالحا مكانه، فلازمه سلمان يخدمه ويتعلم منه. فلما أوشك على الموت قال لمن توصي بي من بعدك؟؟ فأوصاه لرجل بالمُوصِل -مدينة بالعراق- فذهب إليه يتعلم منه، ويأخذ عنه، فلما دنا به الموت أوصاه إلى رجل بنيْصَبين -مدينة بتركيا- فلحق بنيصبين وبقي عند صاحبها، يتعلمُ منه ويخدمُه، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل في عمورية -أيضا بتركيا- وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد، تدفعه همته العالية، للبحث عن الحق، والوصول إليه، فلما نزل الموت بصاحب عمورية!! قال سلمان: توصيني بمن؟؟ فقال له: أيْ بُنيْ والله ما أعلم بقي أحدٌ على مثل ما كنا عليه. ولكن قد أضلَّك زمن نبي، يُبعث من الحرم، مُهاجَره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخيل -المدينة- وأن فيه علامات لا تَخفى!! بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فلما مات هذا الرجل واراه سلمان ودفنه، وجاء بكل ما يملك وأعطاه لرجال من تجار العرب الذين بالشام، وطلب منهم حمله إلى أرض العرب، لكنهم أخذوه وظلموه، ولما جاؤا به باعوه عبدا لرجل بوادي القِرى –العلا- فباعه على رجل يهوديٍ من بني قريظة فجئ به إلى المدينة عبد!!! بعد أن كان من أبناء دهاقنة الفرس أصبح عبدا يُباعُ ويُشترى!!! فأقام في الرق سنوات، وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بمكة، وسلمان لا يعرف عنه شيئا وألا لرحل إليه، يعمل عند اليهودي فيخْرصُ النخل، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، جاء ابن عم لليهودي سيد سلمان ليخبره بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وسلمان فوق النخلة يخرِصُها، يقول رضي الله عنه: فلما سمعت الخبر أخذتني رِعدة شديدة حتى ظننت أن اسقط على صاحبي!!! ونزلت مسرعا أقول لهم ما لخبر؟؟؟ فرفع مولاي يده فلَكَمني لكمة شديدة!! وقال مالك ولهذا!!! -آنت عبد خلك فالنخل- لكنها همة سلمان، وبحثه عن الحق!!! قال رضي الله عنه: فلما كان المساء أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بطعام، فقلت: هذا صدقة؟ فلم يأكل منه. فتركته!! وجئت في اليوم التالي بطعام فقلت: هذا هدية فأكل منه. فقلت: هذه واحدة. فدُرت من ورائه فعرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ماذا أُريد!! فأرخى الرداء عن ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتِفيه فعرفتُه فنكببت عليه أُقبله وأبكي!!! سنوات طويلة يبحث عن الحق، تركَ أباه وأهلَه، وفارقَ وطنَه، وتغرب ليخدم الرجال ويتعلم منهم، ثم أنفقَ كل ماله لأجل أن يسافر للمكان الذي يُبعث فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويُظلم ويُباع عبدا، ويبقى في الرق سنوات عددا، لكنه وصل إلى الهدف الذي أراد، وبلغ المنزلة التي خرج من أجلها، همتهُ العالية قادته إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و نيل شرف الصحبة، وأكرم بها من منْزِلة.
إنها الهمة العالية التي تشغلُ العبد بما يَعْنيه، وتدفعُهُ إلى محاب الرب ومراضيه، إنها الهمة التي تجعل العبد يتعب في الدنيا، لينال راحة الأبد، في جنات عدِن، قيل للأمام أحمد رحمه الله: متى يجد العبد طعم الراحة؟؟ قال: إذا وضع رجله اليمنى في الجنة. قال ابن الجوزي رحمه الله: من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدون دنيء. الحياة الطيبة، والسعادة الأبدية تُنال بالهمة العالية، والإرادة الخالصة، وقدْرُ المرء على قدْرِ همته، قال وهيب بن الورد رحمه الله: إن استطعت ألاّ يسبقك إلا الله أحد فافعل. سمت همةُ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني حتى قال رحمه الله: ما بلغني عن أحد من الناس، أن تعبد لله عبادة إلا تعبدت مثلَها وزدتُ عليها!!! صاحب الهمة العالية، يتطلع إلى جنةٍ وارفة الظلال، فهو في عبادة لا تنقطع، في صلاةٍ خاشعة، وقراءةٍ للقرآن دائمة، عينهُ دامعة، ويدهُ بالخير دافعة، وقته دعوةُ وجهاد، ووقوفٌ في وجه أهل الفساد، عزمه لا ينثني، وهمته لا تنقضي، تزجرهُ نفسُه عن مواقفِ الذل، واكتسابِ الرذائل، وحرمانِ الفضائل، يعمل بجد طمعا في أعلى المقامات، وبلوغ رفيع الدرجات، "وعَدَ اللهُ المؤمنينَ والمؤمناتِ جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ومساكنَ طيبةً في جنّاتِ عدْنٍ ورضوانٌ من الله أكبرُ ذلك هو الفوزُ العظيم ".
الحمد الله على إحسانه....
عباد الله:
دينُ الإسلام كله دعوةٌ إلى علو الهمة، والنهي عن سفولها، تُربي عقيدته وشريعته على العلو على المعصية التي هي رأس الدنايا، والتجمل بالطاعة التي هي رأس المعالي.
دين يمنح الأوصاف الجميلة لمن علت همته، وسمت نفسه، فأطاع ربه "في بيوتٍ أذِنَ اللهُ أن ترفعَ ويُذكرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ له فيها بالغدوِّ والأصال. رجالٌ لا تُلهيهمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يخافونَ يومًا تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار. ليَجْزِيَهُمُ اللهُ أحسنَ ما عملوا ويَزِيدَهُم من فضلهِ واللهُ يرزقُ من يشاءُ بغير حساب ".
دين يُثني على أهل العزائم العالية، والنفوس العظيمة، فيقول عن المهاجرين: " أولئك هم الصادقون" وعن الأنصار "أولئك هم المفلحون ".
دينٌ يُربي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُمتَّهُ إذا سألَ أحدهم ربه أن يُكثر، وإذا سأل نعيما أن يسأل أعلاه "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة" قد يقول قائل: أنا مذنب مقصر!!! ولا أستحق أعالي الجنان لكنها الهمة التي يُربي عليها دينُ الإسلام، فالله كريم لا يعجزه شيء. فمن الدعاء تتعلم علو الهمة، وفي العبادة تجدُها قال تعالى: " أَمَّنْ هو قانتٌ أناءَ الليل ساجدا وقائما يحذرُ الآخرةَ ويَرجُو رحمةَ ربه قل هل يستوي الذينَ يعلمونَ والذين لا يعلمون إنما يتذكرُ أولوا الألباب" وفي الإنفاق تنتظم في سلك أهلها قال تعالى: "لا يستوي منكم من أنفقَ من قبلِ الفتحِ وقاتلَ أولئكَ أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلًا وعدَ اللهُ الحُسنى".
عالي الهمة ليس كمن هو دونه!!! ولهذا جاءت الأوامر بالمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة في المكرمات، "فاستبقوا الخيرات" لكن من دنت همته، وأخلد إلى الكسل، فما عليه ألا أن يرفع يديه إلى السماء وليستعذ بالله من العجز والكسل.
مصيبة حين تكون همم أبنائنا ضعيفة، وعزائمُهم واهية، وأمالهُم قاصرة، هوايتهم لا تخرج عن لهو ولعب، هذا مغرم بالغزل، والآخر مفتون بالطرب، وثالث يهوى الرقص وهز الوسط، والأعجب من هوايته جمع الطوابع، ولعب الورق، بل وصل حال بعضهم أن صارت هوايته، ومبلغَ أمنيته ما هو سبب تلفه، وذهاب نفسه وماله، فاتجه إلى التفحيط والمخدرات، وأحسنهم حالا من يقضي الساعات أمام الشاشات، وعلى جانب الطرقات، وفي الإستراحات، فيضيع وقته في فضول الكلام، وكثرت الشراب والطعام!!! هذه همم أبنائنا وللآسف؟؟؟ وإذا نظرنا إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وجدناها ملئية بالأحداث العظام، والمهام الجسام، التي تبعث على الهمة، وتوقظ العزيمة، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها جهاد وصبر ودعوة وصدق عزيمة، فاجعل من نفسك أيها المسلم أحد خمسة لتُفقدَ إذا غبت، وتُكرم إذا حضرت، وتُذكر بخير إذا مُت، ولا تكن من غيرهم فتشقى وتخسر، كن عالما تقي، أو حاكما عادلا، أو منفقا في أبواب الخير، أو صاحبَ عبادةٍ وتبتلٍ وطاعة، أو فارسا مجاهدا، فهذا إبراهيم ابن أدهم رحمه الله كان يردد كثيرا هذه الأبيات :
أيها المسلمون:
الإسلامُ دين العز والمجد، ودينُ الاجتهاد والجد، لا كسلَ فيه ولا خمول ولا ذُلّ، حث على علوِّ الهمة، وقوةِ العزيمة، لتزكوا النفوس، وتسمو الأخلاق، وترتقي في أعالي الجنان، وتنالَ رضى الرحمن، وتبتعد عن سفاسف الأمور ورديء الأخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها" وقال تعالى: " ونفس وما سواها. فألهمها فجورها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها".
حين تقْصُر الهمة ينقطعُ العمل، ويُفتح باب الشر، فيترُكُ العبد أعمالا صالحات، ويتكاسل عن فرائض وواجبات، وينشغل بأفعال لا تليق، ويُقبل على تصرفات تضر ولا تنفع، اهتماماته لا تخرج عن أمور تافهة من لهو ولعب، يقضي بها وقته، ويَمضي فيها زمانه، ويقطع بها مراحل حياته، فلا هو بشبابه انتفع، ولا هو في رجولته غنم، ضعُفت همته، وقصُرت عزيمته، فلا يجدي عند لقاء ربه الندم.
معالي الأمور لا يبلغها ألا أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، قال ابن القيم يرحمه الله: كمال الإنسان بهمة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه .
أعلى الناس همة، وأرفعهم قدرا، من رغبتهم في محبة الله ومعرفته، والسعيُّ إلى لقائه، وتقديمُ ما يحب على محبوبات النفس، وطلبُ رضا الرب ولو بسخط الناس، والعملُ بطاعة الله حتى لو صعب وشق وكان فيه إزهاق النفس والنفيس .
الهمة العالية، خلقٌ سام، ومسلكٌ عالي، ترنوا إليها النفوس الأبية، وتهفوا إليها القلوب السليمة، وإذا كان الطائر يطير بجناحيه إلى أعالي السماء، فالهمة العالية تطير بصاحبها فتحلق به في الأفاق .
عالي الهمة يجود بكل ما يملك لتحصيل غايته، وتحقيق رغبته، فهو يعلم أن المكارمَ منوطةٌ بالمكاره، والمصالحَ واللذاتَ لا تُنال إلا بالتعب والمشقة، قال ابن القيم يرحمه الله: وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيمَ لا يدركُ بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، فلا فرحَ لمن لا هم له، ولا لذةَ لمن لا صبر له، ولا راحةَ لمن لا تعب له. بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة.
عباد الله:
سلمانُ الفارسي رضي الله عنه علت به همته، فلم يقنع بنار تُعبد، لعلمه أنها لا تضر ولا تنفع، كان مع أبيه يحش النار، فأرسله في أمر، فمر على دَيْرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية، فأُعجب بهم، فلما عاد أخبر أباه بما رأى، فخاف عليه وسجنه، وقيده بالسلاسل، فراسل سلمان النصارى وهو في السجن عن أصل دينهم؟ فقالوا: بالشام. فاأرسل إليهم إذا أراد أحد أن يسافر إلى الشام فأعلموني!!! فلم علم بمجموعة منهم تريد الشام، حل القيد وهرب، وخرج معهم إلى الشام، وذهب إلى أُسْقُفٍ في كنيسة، وبقي معه يخدمه ويتعلم منه، ويبحث عن الحق عنده، فلما أدركت الرجل الوفاة أكتشف سلمان أنه رجل سوء!!! يأخذ الصدقات ويخزنها؟؟؟ فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه!!! وجعلوا رجلا صالحا مكانه، فلازمه سلمان يخدمه ويتعلم منه. فلما أوشك على الموت قال لمن توصي بي من بعدك؟؟ فأوصاه لرجل بالمُوصِل -مدينة بالعراق- فذهب إليه يتعلم منه، ويأخذ عنه، فلما دنا به الموت أوصاه إلى رجل بنيْصَبين -مدينة بتركيا- فلحق بنيصبين وبقي عند صاحبها، يتعلمُ منه ويخدمُه، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل في عمورية -أيضا بتركيا- وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد، تدفعه همته العالية، للبحث عن الحق، والوصول إليه، فلما نزل الموت بصاحب عمورية!! قال سلمان: توصيني بمن؟؟ فقال له: أيْ بُنيْ والله ما أعلم بقي أحدٌ على مثل ما كنا عليه. ولكن قد أضلَّك زمن نبي، يُبعث من الحرم، مُهاجَره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخيل -المدينة- وأن فيه علامات لا تَخفى!! بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فلما مات هذا الرجل واراه سلمان ودفنه، وجاء بكل ما يملك وأعطاه لرجال من تجار العرب الذين بالشام، وطلب منهم حمله إلى أرض العرب، لكنهم أخذوه وظلموه، ولما جاؤا به باعوه عبدا لرجل بوادي القِرى –العلا- فباعه على رجل يهوديٍ من بني قريظة فجئ به إلى المدينة عبد!!! بعد أن كان من أبناء دهاقنة الفرس أصبح عبدا يُباعُ ويُشترى!!! فأقام في الرق سنوات، وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بمكة، وسلمان لا يعرف عنه شيئا وألا لرحل إليه، يعمل عند اليهودي فيخْرصُ النخل، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، جاء ابن عم لليهودي سيد سلمان ليخبره بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وسلمان فوق النخلة يخرِصُها، يقول رضي الله عنه: فلما سمعت الخبر أخذتني رِعدة شديدة حتى ظننت أن اسقط على صاحبي!!! ونزلت مسرعا أقول لهم ما لخبر؟؟؟ فرفع مولاي يده فلَكَمني لكمة شديدة!! وقال مالك ولهذا!!! -آنت عبد خلك فالنخل- لكنها همة سلمان، وبحثه عن الحق!!! قال رضي الله عنه: فلما كان المساء أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بطعام، فقلت: هذا صدقة؟ فلم يأكل منه. فتركته!! وجئت في اليوم التالي بطعام فقلت: هذا هدية فأكل منه. فقلت: هذه واحدة. فدُرت من ورائه فعرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ماذا أُريد!! فأرخى الرداء عن ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتِفيه فعرفتُه فنكببت عليه أُقبله وأبكي!!! سنوات طويلة يبحث عن الحق، تركَ أباه وأهلَه، وفارقَ وطنَه، وتغرب ليخدم الرجال ويتعلم منهم، ثم أنفقَ كل ماله لأجل أن يسافر للمكان الذي يُبعث فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويُظلم ويُباع عبدا، ويبقى في الرق سنوات عددا، لكنه وصل إلى الهدف الذي أراد، وبلغ المنزلة التي خرج من أجلها، همتهُ العالية قادته إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و نيل شرف الصحبة، وأكرم بها من منْزِلة.
إنها الهمة العالية التي تشغلُ العبد بما يَعْنيه، وتدفعُهُ إلى محاب الرب ومراضيه، إنها الهمة التي تجعل العبد يتعب في الدنيا، لينال راحة الأبد، في جنات عدِن، قيل للأمام أحمد رحمه الله: متى يجد العبد طعم الراحة؟؟ قال: إذا وضع رجله اليمنى في الجنة. قال ابن الجوزي رحمه الله: من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدون دنيء. الحياة الطيبة، والسعادة الأبدية تُنال بالهمة العالية، والإرادة الخالصة، وقدْرُ المرء على قدْرِ همته، قال وهيب بن الورد رحمه الله: إن استطعت ألاّ يسبقك إلا الله أحد فافعل. سمت همةُ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني حتى قال رحمه الله: ما بلغني عن أحد من الناس، أن تعبد لله عبادة إلا تعبدت مثلَها وزدتُ عليها!!! صاحب الهمة العالية، يتطلع إلى جنةٍ وارفة الظلال، فهو في عبادة لا تنقطع، في صلاةٍ خاشعة، وقراءةٍ للقرآن دائمة، عينهُ دامعة، ويدهُ بالخير دافعة، وقته دعوةُ وجهاد، ووقوفٌ في وجه أهل الفساد، عزمه لا ينثني، وهمته لا تنقضي، تزجرهُ نفسُه عن مواقفِ الذل، واكتسابِ الرذائل، وحرمانِ الفضائل، يعمل بجد طمعا في أعلى المقامات، وبلوغ رفيع الدرجات، "وعَدَ اللهُ المؤمنينَ والمؤمناتِ جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ومساكنَ طيبةً في جنّاتِ عدْنٍ ورضوانٌ من الله أكبرُ ذلك هو الفوزُ العظيم ".
الحمد الله على إحسانه....
عباد الله:
دينُ الإسلام كله دعوةٌ إلى علو الهمة، والنهي عن سفولها، تُربي عقيدته وشريعته على العلو على المعصية التي هي رأس الدنايا، والتجمل بالطاعة التي هي رأس المعالي.
دين يمنح الأوصاف الجميلة لمن علت همته، وسمت نفسه، فأطاع ربه "في بيوتٍ أذِنَ اللهُ أن ترفعَ ويُذكرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ له فيها بالغدوِّ والأصال. رجالٌ لا تُلهيهمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يخافونَ يومًا تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار. ليَجْزِيَهُمُ اللهُ أحسنَ ما عملوا ويَزِيدَهُم من فضلهِ واللهُ يرزقُ من يشاءُ بغير حساب ".
دين يُثني على أهل العزائم العالية، والنفوس العظيمة، فيقول عن المهاجرين: " أولئك هم الصادقون" وعن الأنصار "أولئك هم المفلحون ".
دينٌ يُربي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُمتَّهُ إذا سألَ أحدهم ربه أن يُكثر، وإذا سأل نعيما أن يسأل أعلاه "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة" قد يقول قائل: أنا مذنب مقصر!!! ولا أستحق أعالي الجنان لكنها الهمة التي يُربي عليها دينُ الإسلام، فالله كريم لا يعجزه شيء. فمن الدعاء تتعلم علو الهمة، وفي العبادة تجدُها قال تعالى: " أَمَّنْ هو قانتٌ أناءَ الليل ساجدا وقائما يحذرُ الآخرةَ ويَرجُو رحمةَ ربه قل هل يستوي الذينَ يعلمونَ والذين لا يعلمون إنما يتذكرُ أولوا الألباب" وفي الإنفاق تنتظم في سلك أهلها قال تعالى: "لا يستوي منكم من أنفقَ من قبلِ الفتحِ وقاتلَ أولئكَ أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلًا وعدَ اللهُ الحُسنى".
عالي الهمة ليس كمن هو دونه!!! ولهذا جاءت الأوامر بالمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة في المكرمات، "فاستبقوا الخيرات" لكن من دنت همته، وأخلد إلى الكسل، فما عليه ألا أن يرفع يديه إلى السماء وليستعذ بالله من العجز والكسل.
مصيبة حين تكون همم أبنائنا ضعيفة، وعزائمُهم واهية، وأمالهُم قاصرة، هوايتهم لا تخرج عن لهو ولعب، هذا مغرم بالغزل، والآخر مفتون بالطرب، وثالث يهوى الرقص وهز الوسط، والأعجب من هوايته جمع الطوابع، ولعب الورق، بل وصل حال بعضهم أن صارت هوايته، ومبلغَ أمنيته ما هو سبب تلفه، وذهاب نفسه وماله، فاتجه إلى التفحيط والمخدرات، وأحسنهم حالا من يقضي الساعات أمام الشاشات، وعلى جانب الطرقات، وفي الإستراحات، فيضيع وقته في فضول الكلام، وكثرت الشراب والطعام!!! هذه همم أبنائنا وللآسف؟؟؟ وإذا نظرنا إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وجدناها ملئية بالأحداث العظام، والمهام الجسام، التي تبعث على الهمة، وتوقظ العزيمة، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها جهاد وصبر ودعوة وصدق عزيمة، فاجعل من نفسك أيها المسلم أحد خمسة لتُفقدَ إذا غبت، وتُكرم إذا حضرت، وتُذكر بخير إذا مُت، ولا تكن من غيرهم فتشقى وتخسر، كن عالما تقي، أو حاكما عادلا، أو منفقا في أبواب الخير، أو صاحبَ عبادةٍ وتبتلٍ وطاعة، أو فارسا مجاهدا، فهذا إبراهيم ابن أدهم رحمه الله كان يردد كثيرا هذه الأبيات :
إذا ما ماتَ ذو علمٍ وتقوى *** فقد ثُلِمتْ من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المُولّى *** بحُكم الشرعِ منقصةٌ ونقمة
وموتُ العابدِ القـوّام ليـلاً *** يُناجي ربّه في كـلِّ ظُلمـة
وموتُ فتىً كثير الجودِ مَحـلٌ *** فإن بقاءَه خصـبٌ ونعمـة
وموتُ الفارسِ الضرغامِ هدمٌ *** فكم شَهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسْبُكَ خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيفٌ ورحمـة
وباقي الخلق هم همـجٌ رعـاعٌ ** وفي إيجادِهـم لله حكمـة[font="][/font]
وموتُ الحاكم العدلِ المُولّى *** بحُكم الشرعِ منقصةٌ ونقمة
وموتُ العابدِ القـوّام ليـلاً *** يُناجي ربّه في كـلِّ ظُلمـة
وموتُ فتىً كثير الجودِ مَحـلٌ *** فإن بقاءَه خصـبٌ ونعمـة
وموتُ الفارسِ الضرغامِ هدمٌ *** فكم شَهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسْبُكَ خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيفٌ ورحمـة
وباقي الخلق هم همـجٌ رعـاعٌ ** وفي إيجادِهـم لله حكمـة[font="][/font]
المرفقات
علو الهمة بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وشباب زماننا!!!.doc
علو الهمة بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وشباب زماننا!!!.doc