علو الهمة

فهد عبدالله الصالح
1439/04/24 - 2018/01/11 10:34AM

الحمد لله تفرد بالعز والبقاء , أكرم عباده فجعل بعضهم لبعض سخريا وكتب الأرزاق وقسمها بين خلقه بقدره وحكمته , لا إله إلا الله يعز من يشاء ويذل من يشاء, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فأيها المسلمون: ألزموا أنفسكم تقوى الله عز وجل فهي موئل العز ومناط الكرامة وهي سبيل النجاة وشرط القبول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ),( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

 عباد الله : الإسلام دين العزة والمجد ، دين الجد والنشاط , فلا كسل ولا خمول ولا ذلة في الإسلام , إن الله يقول (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ), ويقول سبحانه (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ), وفي الحديث الصحيح عن الحسن بن على رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرفها, ويكره سفسافها), هذا الحديث وتلك الآيات فيها إعلاء لههم المسلمين لكي يتصفوا بما يحبه الله من معالي الأمور , حتى تزكى النفوس وترتقي إلى الدرجات العلا , وتبتعد عن حقير الأمور وسيئ الأخلاق , ذلك إن الإنسان هو من يختار طريقه وأخلاقه ومنهجه في الحياة قال تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

أيها المؤمنون : معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية , فطريق العز شاق وطويل والجنة محفوفة بالمكاره .

فالهمة العالية خلق سام ومسلك رائع تحبه النفوس وتهفوا إليه القلوب , وكما أن الطائر يطير بجناحيه , كذلك يطير المرء بهمته وعزيمته فتحلق به إلى أعلى الآفاق .

على قدر أهل العزم تأتي العزائم **** وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتكبر في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم

إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته وتحقيق بغيته , لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بالمشقة , ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب , قال ابن القيم (وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم , وأن من آثر الراحة فاتته الراحة , فلا فرحة لمن لا هم له , ولا لذة لمن لا صبر له , ولا راحة لمن لا تعب له , بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً , وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد), انتهى كلامه رحمنا الله وإياه .

أم تروا- أيها الأحبة – إلى ما صار إليه طلاب العلم الراسخون والتجار الناجحون والأطباء والصيادلة والمهندسون وحملة الشهادات العالية إنهم لم يرثوا ذلك عن آبائهم ولم يحصلوا عليها محض الصدفة إنما وصلوا إليها بعد جهد جهيد وهمة عالية وسهر طويل وصبر جميل لقد مكث بعض حملة الشهادات شطراً من حياتهم في الدراسة والبحث , ولقد بدا بعض رجال الأعمال تجارتهم بمشروع صغير تطور حتى صار شركة عملاقة أو مصنعاً كبير ومنهم من كان في وظيفة بسيطة وبتوفيق الله ثم بجهده واجتهاده وبروزه واثبات وجوده ترقي حتى كان في منصب عالي وهكذا يقال في كل من حاز شهادة أو مال بل إن كل ما فيه أهل النعيم المقيم في الجنات ما هو إلا بالعمل الصالح في عمر الإنسان القصير .

أيها المسلمون : إن الله العلي الكبير يدعوا المؤمنين إلى علو الهمة فمن أسمائه سبحانه وتعالى العلي , قال ابن الأثير رحمه الله (العلي الذي ليس فوقه شيء في الرتبة), ولقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام علو الهمة في كل شيء حتى في الدعاء , جاء في الحديث انه قال (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)رواه البخاري , ويوجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سؤاله لربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه (سل يا ربيعة), فلم تكن همة ربيعة لتنصرف إلى سقط الأرض ومتاع الدنيا الزائل بل كانت همته أعلى ومقصده أسمى , فقال : أسالك مرافقتك في الجنة . رواه مسلم .

ومن أجمل ما قيل في فضل الهمة ما جاء في كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله قال (النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبةً , والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار , فالنفوس العلية لا ترضي بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة ولا بالخيانة , لأنها أكثر من ذلك والنفوس الحقيرة بالضد من ذلك ) ويقول أيضاً رحمه الله ( الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة , فعلى قدر ذلك تكون سعادة المرء , وقال بعض السلف رضوان الله عليهم : قدر الرجل على قدر همته في الثرى يعنى التراب كناية عن الدنو, ومنهم من همته في الثريا كناية عن العلو.

ونختم الحديث – أيها الأحبة – بذكر بعض الأسباب التي تساعد على كسب علو الهمة

منها قوة الإيمان بالله عز وجل , وعظيم الثقة فيه وكبير التوكل عليه , ودعاؤه سبحانه بالتوفيق والنجاح , وكذا تلاوة القران الكريم بتدبر وتمعن , وقراءة سير الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام والتمعن في حياة العظماء والناجحين ،والبعد عن الترف والنعيم الذي يلهى المرء عن طاعة ربه وعن الجد والاجتهاد , ومن ذلك الاستفادة من الأخطاء والإخفاقات لتصحيح المسار وأخذ العبر والدروس , فلا يصيب من لا يخطئ , والنملة لا تصل إلى قمة الشجرة إلا بعد أن تسقط المرات تلو المرات .

ومن وسائل تحقيق الهمة العالية , قبول النقد البناء والنصيحة الهادفة , وكثرة القراءة وحضور الدورات , ومصاحبة الجادين المثابرين فإن المرء بالمرء يقتدي فجدوا واجتهدوا وفقني الله وإياكم لصالح العمل وخذوا الأمر بجد وحزم وقوة واصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

 

المشاهدات 813 | التعليقات 0