عِلمٌ وعَمَل
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَيُّها المُسْلِمُون: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
العِلْمُ نُوْرٌ وَالجَهَالَةُ ظُلْمَةٌ ** شَتَّانَ بَيْنَ النُّوْرِ وَالظَّلْمَاءِ
عِلمٌ يُضِيءُ لِلمَرْءِ الدُّرُوْبَ، وَمَنْ يَكُ جَاهِلاً بِضَلالِهِ يَتَخَبَّطُ، وعَلى قَدْرِ عِلْمِ المَرْءِ يَزْدادُ نُورُهُ. ولَنْ يَبْلُغَ العَلْياءَ مَنْ كانَ جاهِلاً. وأَشْرَفُ العُلُومِ عِلْمُ العَبْدِ في أَمْرِ دِيْنِه، عِلْمُهُ بِشَرائعِ اللهِ التي أَوجَبَها عليهِ، وعِلْمُهُ بحُدودِ اللهِ التي حَرَّمَها عليهِ. فَيُقِيْمُ وجْهَهُ إِلى اللهِ على بَصِيْرَةٍ، ويَسْتَقِيْمُ في عِبادَتِهِ على هُدى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أَرْشِدْنا ودُلَّنا ووَفِقْنا لِلُزُومِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ وثَبِّتْنا عَلِيْهِ. الصِراطِ الذِيْ بَعَثْتَ بِهِ رُسُلَكَ، وأَنْزَلْتَ بِهِ كُتُبَكَ، وارْتَضَيْتَهُ لِعِبادِكَ. فَلا سَبِيْلَ يُوصِلُ إِليكَ سِواه، ولا طَرِيْقَ تُدْرَكُ بِهِ رَحْمَتُكَ غَيْرُه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، ومَنْ لَحِقَ بِهِم مِمَّنْ أَطاعَكَ وأَطاعَ رَسُولَك. اهدِنا طَرِيْقَهُم الذِيْ سارُوا عَلِيْهِ إِلَيْكَ. فَهُو صِراطُكَ المُسْتَقِيْم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} غَيْرِ طَرِيْقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم، وهُمُ الذِيْنَ عَرَفُوا الحَقَّ وتَرَكُوه. {وَلَا الضَّالِّينَ} الذِيْنَ تَركَوا الحَقَّ بِـجَهْلٍ وَضَلالٍ. ولَنْ يَسْلُكَ العَبْدُ الطَرِيْقَ المُسْتَقِيْمَ إِلا بِعْلْمٍ يُبْصِرُ بِهِ الحَقَّ، وعَزِيْمَةٍ يَنْهَضُ بِها إِليه. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
وعِلْمٌ لا يُتْبَعُ بِعَمَل، حُجَّةٌ تُلازِمُ صَاحِبَها. عِلْمٌ لا يُتْبَعُ بِعَمَل، حِمْلٌ لا نَفْعَ فِيْه. العِلْمُ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ ما كانَ بِهِ عَامِلاً، فَإِنْ تَخَلَّى عَنِ العَمَلِ بِهِ مُسِخ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وعِلْمٌ لا يُتْبَعُ بِعَمَل، حَسْرَةٌ مَضاعَفَةٌ وخَسارٌ أَكِيْد، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقَولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلمٍ لا يَنْفَعُ) رواهُ مُسْلِمٌ
العِلْمُ إِمامٌ مَتْبُوع. فَمَنْ تَعَلَّمَ أَحْكامَ اللهِ رُفِع، ومَنْ جَهْلَها خُفِض، ومَنْ لَمْ يَعْمَلِ بِما عَلِمَ وَرَدَ مَنازِلَ الحَسْرَة. العِلْمُ نُورٌ، ولَنْ يَنْفَعَ النُورُ مَنْ في عَيْنَيْهِ عَمَى. يُسأَلُ العَبْدُ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ، ماذا عَمِلَ فيهِ؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} مَاذا عَمْلْتُمْ بِعِلْمٍ عَلَّمُوكُم؟ وماذا أَجَبْتُمُ الرُّسُلَ إِذْ بَصَّرُوْكُم؟
مَنْ عَلِمَ حُكْماً شَرْعِياً وَجَبَ عليهِ القِيامُ بِه. يَفْعَلُ ما بِهِ أُمِرَ، ويَنْتَهِيْ عَما عَنْهُ نُهِي. تِلْكَ سَبِيْلُ المُرْسَلِيْن، وتِلْكَ طَرِيْقُ الفَائِزِيْن {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} سَمْعٌ تَتْلُوْهُ طَاعَةٌ، وعَلْمٌ يَتْلُوهُ عَمَل. ومَنْ لَمْ يَرْفَعَ بِما عَلِمَ رَأَساً، فأَيُّ سَلامَةٍ يَرْجُو، وأَيُّ فَوزٍ يُؤَمِل؟! (عَرَفْتَ فَالزَمِ) عَرَفْتَ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ فالزَمْه، وَعَرَفْتَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ فاحْذَرْهُ، تَسْلُكُ بِذلِكَ سَبِيْلَ الفائِزِيْن. قَامَتْ عَلَيْكَ الحُجَّةُ وَاتَّضَحَ لَكَ الدَّلِيْلُ، فَما يُغْنِيْ التَحايُلُ ولا تُغْنِيْ المُراوَغَةُ في التأَوِيْل.
(عَرَفْتَ فَالزَمِ) مَالَكَ فِي طَرِيْقِ العُبُوْدِيَّةِ تَتَوانَى؟! ومَالَكَ في سَبِيْلِ المسارَعَةِ تَتَقَهْقَر؟! لِمَ الفُتُوْرُ ولِمَ التَّسْوِيْفُ؟ ولِمَ التَّذَبْذُبُ وَلِمَ التَّطْفِيْفُ؟ إِنْ وَافَقَ الشَّرْعُ هَوَىً في القَلْبِ أَقْبَلْتَ، وَإِنْ وَقَفَ فِيْ وَجْهِ الهَوَى أَدْبَرْت !
أَيُ إِيْمَانٍ تُقِيْمُ عَلَيْهِ؟ وَأَيُّ عِلْمٍ تَتَقَرَّبُ به إِلَيْه؟! أَيْنَ اسْتِسْلامُكَ للهِ وانْقِيادُكَ لَه؟! أَيْنَ عُبُودِيَّتُكَ للهِ ورِضاكَ بِه؟! {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}
كُنْ عَبْداً للهِ كَما أُمِرْتَ، لا كَما اشْتَهِيْتَ، فَما عُبِدَ اللهُ بِوَحِيٍ مِن الهَوى، ولَكِنْ عُبِدَ اللهُ بوَحِيٍّ مِنْ عِنْده {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ادْخُلُوُا في شَرائِعِ الدِيْنِ كُلِّها، لا تَتْرُكُوا مِنْها شَيئاً. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
عِلْمٌ اقْتَرَنَ بِهِ عَمَلٌ، واسْتِجابَةٌ نَهَضَتْ بِها تَقوَى. سَبيْلُ سَبَقَ إِليهٍ الصَّدْرُ الأَوَلُ مِنْ هذهِ الأُمَةِ ولَحِقَ بِهِمْ على الهَدْيِ اقْتَفَى. جِيْلٌ تَرَبَى على القُرآنِ فَهُو بالقُرآنِ يَعْمَل. جِيْلٌ تَرَبَى عَلى السُّنَةِ فَهُو بالسُّنَةِ يَقُوم.
جِيْلٌ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِهِ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّم فَهُم مِنْ خَيْرِ القُرُون. وقَدْ أَحْسَنَ (أَبُو الحَسَنِ) في وَصْفِهِ لِحَالِهِم، إِذْ قَال: (انْحَلَّتِ العُقْدَةُ الكُبْرَى، عُقْدَةُ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ، فَانْحَلَّتْ العُقَدُ كُلُّها، وَجَاهَدَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِهَادَهُ الأَوَّلُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلى جِهَادٍ مُسْتَأنَفٍ لِكُلِّ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَانْتَصَرَ الإِسْلامُ عَلَى الجَاهِلِيَّةِ في المَعْرَكَةِ الأُوْلَى، فَكَانَ النَّصْرُ حَلِيْفَهُ في كُلِّ مَعْرَكَةٍ، نَزَلَ تَحْرِيْمُ الخَمْرِ وَالكُؤُوْسُ المُتَدَفِّقَةُ عَلَى رَاحَاتِهِم، فَحَالَ أَمْرُ اللهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّفَاهِ المُتَلَمِّظَةِ، وَالأَكْبَادِ المُتَّقِدَةِ، وَكُسِرَتْ دِنَانُ الخَمْرِ فسالتْ في سِكَكِ المدينةِ).
جِيْلٌ يَتَعَلَّمَ العِلْمَ لِيَعْمَل، ويَتَفَقَّهُ في الدِيْنِ لِيَنْقَاد، فَلا يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى. يَقِفُ عِنْدَ حُدُودَ اللهِ لا يَتَجَرّأَ، ويَسْتَجِيْبُ لأَوامِرِ اللهِ لا يَتَخَلَّف.
في الغَضَبِ أَمْضَى الصِّدِيْقُ صَدَقَتَه على مِسْطَح، وفي الغَضَبِ كَظَمَ الفَارُوقُ غَيْظَهُ عَنْ عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، حِيْنَ تُلِيَتْ عَلِيْهِ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا جاوزَهَا عُمرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، (وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى) رواه البخاري عَمَلٌ بِالعِلْمِ فِيْ وَقْتِ الغَضَبِ، فَمَا الظَّنُّ بِالعَمَلِ بِهِ في وَقْتِ الرِّضَا ؟! {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون
أيها المسلمون: العَمَلُ بالعِلْمِ رأَسُ التَوْفِيْقِ، وغَايَةُ الفَلاح. وَأَسْوَأُ النَّاسِ حَالاً، وَأَبْأَسُهُمْ مآلاً، مَنْ عَلِمَ مِنَ الشَّرِيْعَةِ عِلْماً فَجَانَبَ العَمَلَ به، قَالَ أَبُوْ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ إِذَا وَقَفْتُ عَلَى الْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ لِي: قَدْ عَلِمْتَ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)
العَمَلُ بالعِلْمِ مِنْ أَسْمى صِفاتِ المُرْسَلِيْن. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنه حِيْنَ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ) أَيْ: يَتَخَلَّقُ بِالقُرْآنِ يَعْمُلُ بِه، يأتمِرُ بِأَمْرِه، وَيَنْتَهِيْ عَنْ نَهْيِهِ. يُسَارِع إِلى مَا يَدْعُو إِليهِ القُرآنُ مِنْ فَضائِلَ، ويَكُفُّ عَما يَنْهَى القرْآنُ عَنْهُ مِنْ رَذائِل. وأَكْرِمِ بِعَبْدٍ تَخَلَّقَ بأَوامِرِ القُرآن، وعَمِلَ بِه {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}
عباد الله: ومَنْ تَأَمَلَ في حَالِ كَثِيْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ رأَى عَجَباً. اسْتِهانَةٌ بالمُحَرَماتِ مَعَ عَلْمِ بِحْرَمِتِها، وتَهاوَنٌ بأَداءِ الوَجِباتِ مَعَ عِلْمٍ بِوُجُوبِها، وتَفْرِيْطٌ بعَمَلِ المُسْتَحَبَّاتِ مَعَ مَعْرِفَةٍ بِعَظِيْمِ ثوابِها. عِلْمٌ وافِرٌ بأَحْكامِ الحَلالِ والحَرامِ، واسْتِجابَةٌ مُتَدَنِّيَةٌ وانْقِيادٌ مُتَرَدِّد.
مُنْكَراتٌ تَعْصِفُ بالأَفْرادِ وبالمُجْتَمَعات، لَمْ يَكُنِ الدَلِيلُ في شَأَنِها خِفِيٌّ، ولَمْ تَكِنْ البَيِّنَةُ في حُكْمِها غَائِبَةٌ. ولَكِنَّ الهَوَى في مَحارِبِ العُقُولِ مُقَدَّمٌ، والدُّنْيا في سُوَيْداءِ القُلُوبِ مُتَرَئِسَةٌ، والغَفْلَةُ عَنِ الآخِرَةِ مُسْتَحْكِمَةٌ. ولَنْ يَقُوَى العِلْمُ على النُهُوضِ بالمرءِ إِلى العُلا، ما لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ مِنْ الإِيْمانِ يَرْفَعُه، وقُوَةٌ مِنْ الرَّغْبَةِ تُنْهِضُه، وإِخْلاصٌ وصِدْقٌ ومُراقَبَةٌ للهِ وتَقوى. وعِلْمُ لا يَحمْلُ صَاحِبَهُ على العَمَلِ والخَشْيَةِ، عِلْمٌ يُؤَخِرُ لا يُقَدِّم، ويُوبِقُ لا يُنْجِي، ويَخْفِضُ لا يَرْفَع. ضَعْفُ الاسْتِجابَةِ لأَمْرِ اللهِ ورَسُولِه، لَنْ يَجْنِ المرْءُ مِنْها إِلا حَسْرَةً وأَسَى.
(عَرَفْتَ فَالْزَم) أَقِمْ بِبابِ الذُّلِ مُعْتَرِفاً بِضَعْفِكَ، مُعْتَرِفاً بِذَنْبِك، مُعْتَرِفاً بِعَجْزِك. واسْأَلِ اللهَ هِدايَةً ومَغْفِرَةً وعَوناً، لا يَمِلْ بِكَ الهَوى إِلى زَمَرِ الغَافِلِيْن، فَإِنْ دَعْوَكَ لِفِتْنَةِ أَعْرِضْ وقُلْ: مَالِيْ وَلَكُم {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
جَاهِدْ النَّفْسَ على القِيامِ بِما بِهِ تُؤْمَرُ، وجَاهِدها على الانْتِهاءِ عَما عَنْهُ تُنْهَى، واحْمِلْها بعَزِيْمَةٍ وصَبْرٍ وإِصْرار. وقَوِّمْها بِمُحاسَبَةٍ ومُجاهَدَةٍ وتَوْبَةٍ واسْتِغْفار. واعْمَلْ بِما عَلِمْتَ، يُوْرِثُكَ اللهُ عِلْمَ ما لَمْ تَعْلَم {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
وأَعْظَمُ عِلْمِ عَلِمْتَهُ، عِلْمُكَ بالتَوْحِيْدِ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عِلْمُكَ بأَنَّهُ اللهُ الذِيْ لا إِله إلا هُو الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الذِيْ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحد. عِلْمُك بأَنَهُ اللهُ العَلِيُّ العَظِيْمُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولا ولَداً، عِلْمُك بأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ في كِتابِهِ: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ..} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..}
عِلْمُكَ يُوجِبُ عَلِيْكَ الانْقِيادَ للهِ والتَعْظِيْمَ، فَلا تُقِرُّ النَصَارَى بأَعْيادِهِم، ولا تُشارِكُهُم فيها، ولا تُهَنِّئُهُم بِها. بَلْ تَكْفُرُ بِهِم وَبِمُعْتَقَداتِهِم، وتَتَبَرَّأُ مِنْهُم ومِنْ طُقُوسِهِم. فما عِيْدُ الكِرِيْسماس الذي يُعِيْدُهُ النَصارَى في كُلِّ عامٍ، إِلا عِيْدٌ يَحْتَفِلُونَ بِهِ بِمُولِدِ المَسِيْحِ عِيسى ابنِ مَرْيَمَ عليه السلامُ ويَزْعُمُونَ أَنَّ المَسِيْحَ ابنُ الله!! تَعَالى اللهُ، وجَلَّ اللهُ، ولا إله إلا اللهُ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} عِلْمُكَ باللهِ، يُوجِبُ عَليْكَ تَعْظِيْمَ اللهِ، والكُفْرَ بِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِه. اللهم اهدنا ..
المرفقات
1735214221_علمٌ وعَمَل ــ 26 ـ 6ـ 1446هـ.docx