علم الإسناد من مفاخر الأمة، وعظمة البخاري وكتابه

عبد الله العلي
1442/04/11 - 2020/11/26 20:27PM
الحمد لله الذي أرسلَ رسولَه بالهدى ودينِ الحقِ لِيُظهرَه على الدينِ كلِّه، وكفى باللهِ شهيدًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له ناصرُ أوليائه ومذلُّ أعدائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربُّه بالهدى بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابِه النجباءِ، والتابعينَ الأماجدِ الفضلاءِ، من حفظوا سنةَ نبيهم وبلغو إلينا دينَ ربهم.
 
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، فإن تقوى الله هي النجاحُ والفلاحُ.
معشرَ الكرامِ:
إن دينَ محمدٍ ﷺ هو الدينُ المهيمنُ على الأديانِ قبلَه، وهو الناسخُ لكلِّ ما سبقه: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ]
فاللهُ سبحانهُ قد قضى أن يكون هذا الدينُ باقيًا دائمًا إلى يومِ القيامة، فتكفَّل سبحانَه بحفظِه، وأخزى كلَّ رائمٍ لهدمه:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
وقد تعرَّض الإسلامُ على مرِّ الأزمانِ لمحاولاتٍ من قِبلِ الأعداءِ المتربصينَ، من كفارَ ومنافقينَ حاقدين، للنيلِ من هذا الدينِ أو تحريفِه، أو تغييرِه أو تشويهِه، فانقبلوا خائبينَ مخسوئينَ.
كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْماً ليوهنها     فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
معشر الكرام:
لمَّا أراد اللهُ سبحانه لهذا الدينِ أن يكونَ هو الباقي، هيَّأ لذلك سبلًا وأسبابًا.
ومن هذه الأسبابِ سببٌ عظيمٌ لا زالَ ولا يزالُ مفخرةً لهذه الأمةِ لَمْ يُشارِكْها فيه أمةٌ من الأممِ.. ألا وهو علمُ الإسناد.
علمُ الإِسناد، وهو سلسلةُ الرواةِ المتصلةِ، كلُّ راوٍ يروي عمَّن فوقَه ممَّن سمِع منهُ أو كتبَ إليه حتى ينتهيَ إلى النبيِّ ﷺ، في سِلْسلةٍ منتظِمةٍ، ليس فيها تخبيطٌ ولا تخريصٌ.
فكلُّ حديث يُروى لابدَّ أن يكونَ لهُ إسنادٌ متصلٌ، بَدأً من الراوي الأخير ثمَّ مَن فوقَه ثمَّ مَن فوقَه حتى يصِلَ إلى النبيِّ ﷺ، فإنْ لم يكُن إسنادُه متصلًا هكذا، فهو حديثٌ مردودٌ.
ثم إذا جاء حديثٌ ظاهرُه الاتصالُ تناولَهُ علماءُ الحديثِ الجهابذِ النقادِ، فوضَعوهُ على طاوِلةِ الفحصِ والاختبارِ:
فيفحصون إسناده:
  • هل ثَبَت إدراكُ أو سماعُ كلِّ راوي عمَّن روى عنه؟
  • ثم يفحصون كلَّ راوٍ في هذا الإسنادِ وهذه السِّلسةِ، كيف قوةُ حفظِه؟ كيف أمانتُه؟ كيف تَدَيُّنُه؟ كيف صلاتُه؟ كيف عبادتُه؟ كيف صِدقُه في أمور حياتِه كلِّها؟ فإن تجاوزَ الاختبارَ فهو ثِقةٌ يُقْبَلُ حديثُه، وإلا فهو ضعيفٌ.
  • ثم ينظرون في كلِّ راوٍ: هل تفرَّد بهذا الحديثِ الذي رواهُ أم شارَكَه غيرُه؟
ثم ينتقلون متنه:
  • فيفحصون حروفَه وكلماتِه.
  • ويفحصون معناهُ هل هو مخالِفٌ لغيرِه من الأحاديثِ أم لا؟ فإن كان متعارضًا علِموا أن الخللَّ من قِبَل إسنادِه، إذْ يستحيلُ التعارُض التامُّ بين الأحاديثِ الصحيحةِ.
  • ثم يدقِّقُون فيه: هل هو مُتوافِقٌ مع أصولِ الشريعةِ أم لا؟ فإن كان غير متوافِقٍ علِموا أن أحدَ الرُّواةِ قد وَهِم فيه.
فإذا تجاوز الحديثُ أدواتَ الفحصِ هذهِ وغيرِها، وهذا الاختبارَ الشديدَ فإنه حديثٌ صحيحٌ، وإلا فهُو ضعيفٌ.
نعم أيها الكرام، هل رأيتُم أمةً من الأممِ تفعلُ هكذا؟
يقول الحافظُ أبو عليٍّ الغسانيُ:
خصَّ اللهُ هذهِ الأمةَ بثلاثةِ أشياءَ لم يُعطِهَا من قبلَها: الإسنادُ، والأنسابُ، والإعرابُ.
أيها الكرام:
لقد ضربَ علماءُ الحديثِ أروعَ الأمثلةِ وأغربَها وأعجَبها في التضحيةِ بالنفسِ والمالِ والوقتِ لأجل حِفظِ سُنةِ النبيِّ ﷺ وكتابتِها وتدوينِها وتمييزِ الصحيحِ والسقيمِ منها.
فبعضُهم يسافرُ يقطعُ آلافَ الأميالِ لأجلِ سماعِ حديثٍ واحدٍ، وبعضُهُم يضربُ أكبادَ الإبِل فيرحلُ المسافاتِ البعيدةِ لغرضِ امتحانِ وفحصِ راوٍ من الرواةِ والتأكُّدِ من حفظِه وضبطِه، وبعضُهم يرثُ من أبيه آلاف الدنانير فيُنفقَهَا كلَّها في سبيلِ طلبِ الحديثِ فيعودُ فقيرًا لا يجدُ ما يُشبِعه، وبعضُهم يفارِقُ بلدَه وأهلَه وأحبابَه لأجلِ لُقيا الشيوخِ والسماعِ منهم، وبعضُهم يبيعُ أبوهُ أو أمهُ أغلى ما يملكون لأجلِ تجهيزِ ابنِهِمُ الصغيرِ للسفرِ والنبوغِ في الحديث.
ومن هؤلاءِ الأعلامِ الإمامُ الجبلُ أبو عبد الله، محمدُ ابنُ إسماعيلَ البخاريِّ: نشأ يتيمًا فتولُّته أمُّه، وحببَّ اللهُ إليه طلبَ العلمِ والحديثِ وهو صغيرٌ، فحفظ آلافَ الأحاديثِ وهو لا يزالُ غلامًا، وقد صحَّحَّ لشيخِه غلطًا وعمرُه لم يتجاوزِ الحاديةَ عشرةَ، ثم لمَّا بلغ ستةَ عشرَ عامًا سافر لتحصيلِ العلمِ وطلب الحديثِ.
ثم لمَّا استوى عودُه بدأ يصنِّفُ كتابَه الجليلَ: الجامعُ المسندُ الصحيحُ المختصرُ من أمورِ رسولِ اللهِ ﷺ وسننهِ وأيامِه، وهو ما يسمى بـ: صحيحِ البخاري.
واستغرق في تصنيفِ هذا الكتابِ العظيمِ وجمعِ أصحِّ أحاديثِ النبيِّ ﷺ ومكثَ في هذا العملِ الشاقِّ ستَ عشرةَ سنةً، يقولُ رحمهُ الله: ما أدخلت في كتابيَ الصحيحِ حديثًا إلا بعد أنِ استخرتُ الله تعالى وتيَقنتُ صِحَّتَه.
وبعدُ يا كرام:
فالمؤمنُ لا يرتابُ ولا يخامرُه شكٌّ بأن هذا الدينَ محفوظٌ، ولكنَّ هذه الأخبارَ تَزِيدُه غِبطةً وفخرًا بهذا التراثِ العظيمِ وهذهِ الحضارةِ العلميةِ الفريدةِ.
 
فرحم الله -تعالى- أولئك الأئمةِ الأعلامِ الذين سخرهم اللهُ تعالى لحفظِ الدين، بتدوينِ السنةِ، وجمعِها وتنقيتِها، وجَمَعَنا بهم في جنات النعيم.
الخطبة الثانية: 
الحمد للهِ الوليِّ الحميدِ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الورى وأشرفِ العبيدِ، أما بعدُ: فيا معشرَ الكرامِ:
فإنَّ أصحَّ الكتبِ بعد كتابِ الله تعالى صحيحُ البخاري، وقد أجمع العلماءُ على ذلكِ.
ولم ينل صحيحُ البخاريِّ هذهِ المنزلةَ اعتباطًا أو مجاملةً لصاحِبهِ.
بل وضع العلماءُ عبرَ العصورِ المتعاقبةِ صحيحَ البخاريِّ على مَشرحةِ النقد، وشرحوهُ وفحصوهُ حديثًا حديثًا، وجُملةَ جُملةَ، وكلمةً كلمةً، وإسنادًا إسنادًا، وراويًا راويًا، وما تركوا شارِدَة ولا واردِة يُنتَقَدُ فيها البخاريُّ إلا فحصوها ودرسوها حتى وصلوا لحُكمِهم بالاتفاقِ على أنَّهُ أصحُّ الكتبِ بعد القرآنِ.
كما أن البخاريَّ -رحمه الله تعالى- وضَعَ من معاييرِ قبولِ الحديثِ وشروطِه ما لو طُبِّق على العلومِ الإنسانيةِ المعاصرةِ لمَا احتَملَتْها، وانهارتْ أمامَ شِدَّتِها.
معشر الكرام:
لقد أدرك الأعداءُ والمنافقونَ أنَّ الطريقِ إلى هدمِ الإسلامِ هو التشكيكُ بناقليه، والطعنُ في الكتبِ التي جمعتْ أحكام الدينِ.
ولكن هيهات، فدينُ اللهِ محفوظٌ، وأمرُه غالبٌ.
قبضَ الخليفةُ هارونُ الرشيدُ على زِنديق كان يضعُ الأحادِيثَ ويكذِبُ على النبي ﷺ، فأمر بضربِ عُنَقِه فقال له الزنديقُ: لِمَ تضربْ عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أرُيحُ العبادَ منكَ. قال: فأين أنتَ من ألفِ حديثٍ وضعتُها على رسول الله ﷺ كلُّها ما فيها حرفٌ نطقَ بهِ رسولُ اللِه؟
قال الرشيدُ: فأين أنتَ يا عدوَّ اللهِ من أبي إسحاقٍ الفَزاري، وعبدُ اللهِ بنِ المباركِ ينخُلانها فيُخرجانِها حرفًا حرفًا.
 
دعاء
 
المشاهدات 484 | التعليقات 0