علمتنا مدرسة يوسف 2

إبراهيم بن صالح العجلان
1439/06/13 - 2018/03/01 23:58PM

علمتنا مدرسة يوسف 14/6/1439هـ

إخوة الإيمان:    ويستمرُّ الحديثُ مع خَبَرِ الكريمِ بنِ الأَكَارمِ، مَعَ مَنْ وَهَبَهُ اللهُ جمالَ المظْهَرِ، وَحُسْنَ المخْبَرِ.

فدعونا نستلهم من مدرسةِ يوسفَ هداياتٍ وعِبَراً، فلقد كان خبره آيةً وعَجَباً (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين).

بدأتْ القصةُ برؤْيا يوسفَ، وانتهتْ بوقوعِ تأْوِيلها، وبين الرُّؤيا ووقوعها سنين طويلة، خُنق فيها صوتُ الحقِّ، وغابت براءةُ يوسفَ في ظلماتِ السجن، وصُدِّقَ الكاذبُ وَنُفِّذَ حكْمُه، وخوِّن الأمينُ وكُذِّبَ قولُه، ونطقتْ الرويبضةُ وتسلَّقت على القامات، وعاشَ الناسُ سنواتٍ خَدَّاعات، وكانَ الفرجُ فقطْ في الصبرِ والتقوى، وليسَ في الحماسِ والاندفاع، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

صلى الله عليك يا نبي الله فمن سيرتك تعلمنا: الصبرَ على الإيذاء، وبالأخصِ إيذاءُ الأقارب، فالقريبُ مهما جفا وأساءَ يظل قطعةً منك، ومنْ مأثورِ حِكَمِ العربِ: لَا تَقْطَعِ الْقَرِيبَ وَإِنْ أَسَاءَ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَإِنْ جَاعَ.

ومنْ أهم عبر القصة: خَطَرُ أمراضِ القلوبِ إذا تُركتْ وما استُدْفِعَتْ، فهذه الأحقادُ في صدورِ إخوةِ يوسفَ كانتْ نَزَغَات، فتركت حتى تنامت وتضخَّمت، فكانت حمماً وأفراناً، لم تُطفئها إلا الجريمة، (اقتلوه أو اطرحوه أرضاً)، فالجرائم الكبرى وراءها خواطر صغرى، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

وأفادتنا القصة أيضاً: خطر مرض الحسد تحديداً، وأنه يُهوِّن العَظائمَ، ويُصخِّمُ الصغائر، فتأمل هذا الحسدَ كيفَ هوَّنَ في أعين الإخوة إزهاقَ روحِ طفلٍ بريءٍ لا ذَنْبَ له، وكيفَ تَضَخَّمَ في قلوبَهِم شِدَّةَ محبةِ أَبِيْهم ليوسف، وميل القلب لا يسيطر عليه الإنسان.

 وعلمتنا قصة يوسف: أنَّ الحسدَ إذا عَشْعَشَ في الصدورِ فإنَّه لا يَزُولُ مع الأيام، فإخوة يوسف حسدوه، ثم في البئر قذفوه، ولم ينطفئ حقدهم رغم ما فعلوه، فبعد سنين طويلة تحرَّكتْ فيهم عقاربُ الحقدِ فقالوا: (إنْ يَسْرق فقد سرق أخ له من قبل).

وعلمنا يوسف في خبره: أنَّ مراقبةَ الله، واستحضارَ رؤْيَتِه للعبد، واستشعار فضله ونعمه، هو أعظم واعظٍ ورادع، فحين حضرتْ لحظةُ الشهوةِ والمعصيةِ قال يوسف عليه السلام: (مَعَاذَ اللهِ إنَّه رَبي أَحسنَ مَثْواي).

ومن إشاراتِ القصةِ الدقيقة: أنَّ المجاهرةَ بالمعاصي وإشاعةَ الفاحشةِ سببٌ لتهوينها من القلوب، فقد تبجحت امرأة العزيز أمام النسوة أنها راودت يوسف عن نفسه، حتى حرَّكتْ عند بعضِ النسوةِ الميلَ ليوسفَ، وفي قوله:  (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إشارةٌ إلى أن يوسفَ قد واجه التحرُّشَ والتَغزُّلَ من غيرِ امرأة العزيز أيضًا، وإلا لقال: (تدعوني إليه).

ومن قصةُ يوسف عرفنا: أنَّ المفتون هو من سار وراءَ شهواته، وترك نواهي ربِّه خلفه ظهرياً، وأنَّ الموفَّقَ من نهى النَّفسَ عن الهوى، والمعصومُ من عَصَمَهُ الله.

وعلمنا خبرُ يوسفَ: أنَّ الشهوات بريدٌ لفسادِ المجتمعات، فبالشهوة يتخلى الإنسان عن دينه، ويتعرى من أخلاقه وقيمه، وهل فسدتْ المجتمعاتُ يوم فسدت إلا حينما هاجت فيهم نار الشهوات، فامرأة العزيز اسكرتها الشهوة، فلم تحتفظ بحيائها، والحياء مركوز في المرأة، ولم تقدِّر مكانة زوجها وهو عزيز مصر، وهكذا هي الشهوات تعمي وتصم.

وفي قصة يوسف إشارة: أنَّ كلَّ معصيةٍ ومخالفةٍ لله فحقها أن توصف بالجهل، حتى ولو ألبسها أهلها بالتطور والمدنية، ولذا قال يوسف: (وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، وفي محكم التنزيل: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ)، فكل من خالف وعاند وباهى بالعصيان ففيه وصف من هذا الجهل.

شكراً نبي الله، فقد تعلمنا منك: أن من حمل همَّ دينه، عاش معه في كل مكان وحال، فلم تمنع مرارةُ السجنِ يوسفَ أن يكون داعياً، ولم يَشغل بريقُ المنصب أن يكون يوسف مصلحاً.

شكراً شكراً نبيَّ الله فقد علمتنا: أن نتعامل مع الآخرين بأخلاقنا نحن لا بأخلاقهم هم.

وعلمتنا قصة يوسف: فضيلة السَّتر، وبالأخص عن أقارب العصاة، فقد قال يوسف عليه السلام للرسول: ( ارجع إلى ربِّك فسأله ما بال النِّسوة اللاتي قطَّعن أيديهنَّ إن ربي بكيدهنَّ عليم)، ولم يقل ما بال زوجتك، وما ذاك إلا إمعاناً في الستر عليها، ونسيان موضوعها.

سلام عليك نبي الله فقد علمتنا: أن نستذكر العطايا الموجودة، ولا نتوجع على النعم المفقودة، فقد عاش يوسف عليه السلام في السجن ظلماً وقيداً، وغربة وقهراً، ومع هذا استحضر النعم الحاضرة، والتي من أعظمها صحة المعتقد، وسلامة الدين، فقال: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وعلمتنا قصة يوسف: أن الدليل العقلي من أقوى الأدلة في إيضاح الحق وتفنيد الباطل وتفكيكه، وقد استخدم يوسف دليل العقل في دعوته للتوحيد، وبيان ضلال من ضل من قومه، فقال: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

ودرس عظيم تعلمناه من مدرسة يوسف، عنوانه: لا عقل مثل التدبير، فإذا لاحت الأزمات، وقلَّ الدخل فينبغي على كل عاقل في المجتمع أن يقتصد ويتقنع، فالتنافس في الكماليات، والتكثر من المظهريات نهايتها همٌّ بالليل، وذل بالنهار، ولذا حين أشار يوسف في رؤياه أن يقتصدوا ولا يجذوا كل الحصاد، فكانت ثمرة هذا: أيامٌ فيها يُغاث الناسُ وفيها يعصرون.

وعلمتنا قصة يوسف: أن التخوفَ من العين، وفعلَ الأسباب الواقية جائز ومشروع، فإن كانت العين من قدر الله، فكذلك فعل السبب من قضاء الله، كيف لا وقد خاف يعقوب على بنيه من العين فقال: (يا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ).

وعلمتنا قصة يوسف: جواز الحيلة لإحقاق حق أو تحقيق مصلحة الشرعية، فقد أمر يوسف المؤذن أن ينادي: (أيتها العير إنكم لسارقون)، وهم في الحقيقة لم يسرقوا شيئاً، ولكن يوسف أراد بهذه المكيدة مصلحة إبقاء أخيه معه، قال تعالى: ( كذلك كدنا ليوسف).

 بارك الله ولكم في الآيات والأثر، ونفعنا بما فيهما من العلم والعبر، أقول ما تسعون واستغفر ربي، إنه كان للأوابين غفوراً

 

الخطبة الثانية

أما بعد فيا إخوة الإيمان: وعلمتنا قصة يوسف:

أن لا نتكلم في قضية إلا بعلم، فكن يا أخا الإسلام كما قال القائل:

إذا ما قتلتَ الشَّيءَ عِلمًا فقلْ بهِ ..... وإيَّاكَ والأمرَ الذي أنتَ جاهِلُهْ

فتعبير الرؤيا علم، (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيه إلا بعلم، فيوسف عليه السلام وهو البصير في هذا الفنِّ تريث وتأمل ولم يستعجل تفسير رؤيا السجينين، ووعدهما بتعبير الرؤيا قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن، فقال: (لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا)، فإذا كان العابر مطالب بأن يتأمل ولا يستعجل، فما بالكم بمن لا يحسن تعبير الرؤيا، فهو أحق أن يمسك عن جهله فيما لا يعلم.

وعلمتنا قصة يوسف: أنْ تُستغل المهارات والمواهب في خدمة الدين، فيوسف عليه السلام خصه الله بتعبير الرؤى، فما فاخر ولا استكثر، ولا جمَّع بها ولا استدرر، وإنما سخرها في الدعوة إلى الله، فما أجمل أن نُسَخِّرَ المواهب في خدمة الدين، وفي تحسين صورة المسلمين، فهي عمل صالح، وهي من شكر الله على هذه النعمة.

سلام عليك نبي الله فمنك قصتك تعلمنا: روحَ التفاؤلِ مهما كانت سوداويةُ الواقع، فلا يأسَ ولا قنوطَ من أيِّ حال، وأنَّ تغييرَ الحالِ ليسَ من المحال (إنه لا

 ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

وعلمتنا مدرسة يوسف: منزلة الصبر في الحياة، وأن الإنسان لا تصلح حياته إلا إذا قابل صدمات الحياة بالصبر، سواء أكان صبراً اضطرارياً وهو الصبر على أقدار  الله المؤلمة، أم صبراً اختيارياً وهو الصبر عن الشهوات والصبر على الطاعات.

وعلمتنا قصة يوسف: جواز الاستعانة بالمخلوق في الأمور العادية التي يقدر عليها، ولا يدخل هذا في الاستعانة بغير الله، فقد قال يوسف عليه السلام لصاحب الرؤيا الذي نجى: (اذكرني عند ربك).

وتعلمنا من سورة يوسف: أن لا نغتر بالكثرة، وإنما نستبصر الحقَّ فحيثما كان كُنَّا، ولذا جاء التعبير القرآني بعد هذه القصة: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

صلى الله عليك يا نبي الله، فقد تعلمنا منك: أن الكرم وحسن الضيافة من أخلاق المرسلين، وهي من شيم العرب المذكورة، وهذا ما كان عليه يوسف عليه السلام، فقد قال لإخوته: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ).

وعلمتنا مدرسة يوسف: أنَّ الفساد في البلاد يكون غالباً من سوء الإدارة، وليس من قلَّة الموارد، فيوسف عليه السلام اخرج أهل مصر من أزمة عاصفة بعقلية إدارية فذَّة ناجحة، وليس بموارد جديدة.

وعلمتنا المدرسة اليوسفية أيضاً: أن تَصَدُّرَ الأُمناء والأَكْفاء في إدارة شئون الناس سبب

 في استقرار العيش والتطور، وصلاح المآل، وإصلاح ما فسد من الحال.

اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين ....

المرفقات

مدرسة-يوسف-عليه-السلام-2

مدرسة-يوسف-عليه-السلام-2

المشاهدات 2683 | التعليقات 0