علمتنا مدرسة الحج ...
إبراهيم بن صالح العجلان
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ خُبْرًا، نحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَعْمَائِهِ ونزيدُهُ شُكْرًا، وَنشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ، وَنشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ إِلَى الْخَلَائِقِ عُذْرًا وَنُذْرًا، فَدَعَا إِلَى اللهِ سِرًّا وَجَهْرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- حَقَّ التَّقْوَى وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَحَقِّقُوا عُبُودِيَّتَهُ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَمَضَتْ أَيَّامٌ مَشْهُودَةٌ، وَمَوْسِمٌ مَذْكُورٌ فَازَ فِيهَا أَقْوَامٌ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وَحَازَ فِيهَا رِجَالٌ رِضَا عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، مَضَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِخَيْرِهَا، وَخَيْرَاتِهَا، وَبِرِّهَا، وَمَنَافِعِهَا، وَأَغْلَقَتْ مَعَهَا مَدْرَسَةُ الْحَجِّ أَبْوَابَهَا لِيَعُودَ فِيهَا مَنْ عَادَ بِوَجْهٍ جَدِيدٍ، وَرُوحٍ مُشْرِقَةٍ، وَصَفْحَةٍ بَيْضَاءَ ، فِي رِحْلَةٍ إِيمَانِيَّةٍ مِنْ أَرْوَعِ الرِّحْلَاتِ الْعُمْرِيَّةِ.
عَادَ ضُيُوفُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ عَجَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالتَّلْبِيَاتِ، وَزَخَّتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمَعَاتِ، وَأَنِسَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِالطَّاعَاتِ.
عَادُوا فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، مُسْتَبْشِرِينَ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ، وَحَجِّ بَيْتِهِ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
يَقْدَمُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَعْرِضَ إِسْلَامَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فَهَشَّ لَهُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَشَّ، وَبَسَطَ يَمِينَهُ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ،وَلَكِنَّ عَمْرًا قَبَضَ يَدَهُ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(مَالَكَ عَمْرُو؟) قَالَ : (أرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ)، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (تَشْتَرِطُ مَاذَا؟) قَالَ: (تَشْتَرِطُ أَنْ يُغْفَرَ لِي)، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ).
فَهَنِيئًا لِمَنْ رَحَلَ تِلْكَ الدِّيَارَ، فَأَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ، أَبْشِرُوا يَا مَنْ حَجَجْتُمْ وَأَمِّلُوا؛ فَقَدْ دَعَوْتُمْ رَبًّا عَظِيمًا، وَرَجَوْتُمْ بَرًّا كَرِيمًا، لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، وَلَا فَضْلٌ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ، وَبَالِغُوا فِي إِحْسَانِ الظَّنِّ؛ فَعَطَاءُ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ آمَالِكُمْ، وَجُودُهُ أَوْسَعُ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ. اِمْلَئُوا صَحَائِفَكُمْ وَقَدِ ابْيَضَّتْ بِمِدَادِ الْأَعْمَالِ، وَابْدَءُوا أَعْمَارَكُمْ بِفَجْرٍ جَدِيدٍ؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ مَا مَضَى، فَأَحْسِنُوا وَشَمِّرُوا فِيمَا بَقِيَ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ دَرْبَ الطَّاعَةِ لَا نِهَايَةَ لَهُ دُونَ الْأَجَلِ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
عِبَادَ اللهِ:
وَإِذَا قُضِيَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ وَمَضَتْ فَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ لَنَا أَنْ نَسْتَذْكِرَ شَيْئًا مِمَّا قَدْ تَعَلَّمْنَاهُ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحَجِّ مِنْ فَوَائِدَ، وَمَا جَنَيْنَاهُ خِلَالَ أَيَّامِهَا مِنْ عَوَائِدَ.
لَقَدْ عَلَّمَتْنَا مَدْرَسَةُ الْحَجِّ حُسْنَ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ الْخَالِيَاتُ مَوْسِمًا يَزْدَادُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ ارْتِبَاطًا بِهَدْيِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَرَى الْحَاجَّ يَتَحَرَّى وَيَسْأَلُ، وَيَتَتَبَّعُ وَلَا يَحِيدُ؛ حَتَّى يَكُونَ حَجُّهُ كُلُّهُ وَفْقَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ هَذَا الِاقْتِفَاءَ، وَذَاكَ الِاتِّبَاعَ مَنْهَجَهُ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا؛ فِي عِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، فِي مَظْهَرِهِ وَمَخْبَرِهِ، فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَسِلْمِهِ وَحَرْبِهِ، فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ مُتَعَلِّقًا بِهَا.
وَإِذَا رُزِقَ الْعَبْدُ اقْتِفَاءً حَسَنًا فَتَحَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ أَبْوَابَهَا، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الرَّحَمَاتُ الْإِلَهِيَّةُ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
وَعَلَّمَتْنَا مَدْرَسَةُ الْحَجِّ أَنَّ اسْتِشْعَارَ ثَوَابِ الْعَمَلِ هُوَ أَعْظَمُ مُحَرِّكٍ نَحْوَ الْعَمَلِ؛ فَمَا تَعَنَّى مَنْ تَعَنَّى، وَفَارَقَ الْأَهْلَ وَالْأَحْبَابَ ، إِلَّا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ ثَوَابٍ.
لَقَدِ اسْتَحْضَرَ الْحُجَّاجُ (أَنَّ الْحَجَّ الْمَبْرُورَ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ) فَأَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ، وَضَحُّوا بِأَوْقَاتِهِمْ، وَتَحَمَّلُوا مَا تَحَمَّلُوا بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَقُلُوبٍ رَاضِيَةٍ.
إِنَّ اسْتِشْعَارَ ثَوَابِ الْعَمَلِ يُعْلِي الْهِمَّةَ، وَيَطْرُدُ الْكَسَلَ، وَيُرَبِّي فِي الْمُسْلِمِ الْحِرْصَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْتِزَامَهَا طِيلَةَ الْحَيَاةِ.
أَمَا وَاللهِ لَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَنِ اسْتَشْعَرَ فِي قَلْبِهِ حَقًّا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوُعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) ، وَقَوْلَهُ: ( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ).
أَمَا وَاللهِ لَنْ تَنْقَبِضَ يَدٌ عَنِ الصَّدَقَةِ، وَلَنْ تَشِحَّ نَفْسٌ عَنِ الْبَذْلِ إِذَا مَا اسْتَحْضَرَتْ صِدْقًا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَعَلَّمَتْنَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ تَرْبِيَةَ الضَّمِيرِ، وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْعَفَافِ {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ،يَتْرُكُ الْعَبْدُ فِي نُسُكِهِ الْفُسُوقَ وَاللَّمَمَ؛ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَخَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ أَجْرِهِ.
مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الْأَوْزَارِ، وَارْتِكَابِ الْخَطِيئَاتِ، وَلَوْ تَأَمَّلْنَا مَنْسَكًا وَاحِدًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَهُوَ الطَّوَافُ، لَرَأَيْنَا كَيْفَ يَغْرِسُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مَبْدَأَ الْخَشْيَةِ وَالْعَفَافِ؛ فَالْحَاجُّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لَا يُرْسِلُ طَرْفَهُ إِلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يُتْبِعُ نَظَرَهُ نَحْوَ امْرَأَةٍ، مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَعْظِيمٌ لِمَقَامِ رَبِّهِ، وَخَشْيَةُ تَدْنِيسِ نُسُكِهِ، وَهَكَذَا تَصْنَعُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي نُفُوسِ أَهْلِهَا مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ.
وَهَلِ الْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِقَدْرِ تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
وَعَلَّمَتْنَا مَدْرَسَةُ الْحَجِّ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، يَرَى الْحَاجُّ بِعَيْنِهِ نُفُوسًا خَاشِعَةً، وَأَعْيُنًا دَامِعَةً، وَابْتِهَالَاتٍ صَادِقَةً، يَرَى الْكُلَّ مَشْغُولًا بِرَبِّهِ؛ فَهَذَا يَتْلُو، وَآخَرُ يَدْعُو، وَثَالِثٌ يُصَلِّي، وَرَابِعٌ يَتَصَدَّقُ؛ فَتَدْفَعُهُ هَذِهِ الْمَنَاظِرُ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِمْ وَيُشَاكِلَهُمْ.
وَالْإِنْسَانُ فِي دُنْيَاهُ مَفْطُورٌ عَلَى التَّأْثِيرِ بِمَنْ حَوْلَهُ، وَمَنْ يُصَاحِبُ، وَقَدِيمًا قِيلَ: "الطَّبَائِعُ سَرَّاقَةٌ"، وَأَصْدَقُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ).
فَيَا أَخِي الْحَاجُّ، اِجْعَلْ مِنْ حَجِّكَ هَذَا مَحَطَّةً لِأَنْ تُعِيدَ النَّظَرَ فِي صُحْبَتِكَ وَرِفَاقِكَ، هَا أَنْتَ قَدْ ذُقْتَ طَعْمَ الْإِيمَانِ،وَلَذَّةَ الِاسْتِقَامَةِ،فَابْحَثْ عَنْ أَهْلِهَا؛لِتَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.
تَذَكَّرْ -بُورِكَتْ أَيَّامُكَ- أَنَّ أَوَاصِرَ الْعَلَاقَاتِ وَالْأُخُوَّةِ هُنَا سَتَبْقَى بَاقِيَةً أَمَامَكَ هُنَاكَ، إِنْ كَانَتْ لِخَيْرٍ وَفِي خَيْرٍ فَنِهَايَتُهَا مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَنِهَايَتُهَا عَضٌّ عَلَى الْأَيَادِي وَزَفَرَاتٌ وَحَسَرَاتٌ {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}.
وَعَلَّمَتْنَا مَدْرَسَةُ الْحَجِّ أيضاً: قِصَرَ الْأَمَلِ، لَقَدْ خَرَجَ الْحَاجُّ مِنْ دِيَارِهِ مُصَبِّرًا نَفْسَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، حَابِسًا هَوَاهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ طِيلَةَ أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَاتٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا سَاعَاتٌ مَعْدُودَاتٌ وَيَأْتِي الرَّحِيلُ عَمَّا قَرِيبٍ.
فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْحَاجُّ قِصَرَ أَيَّامِ عُمْرِهِ، وَأَنَّ الْمُكْثَ فِي هَذِهِ الدَّارِ قَلِيلٌ، وَالْبَقَاءَ فِيهَا يَسِيرٌ، وَهَذَا مَبْدَأٌ رَبَّىَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَابَتَهُ الِكْرَامَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ).
هَذَا -عِبَادَ اللهِ- شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الْحَجِّ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْمَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، وَصَدَقَ اللهُ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ.
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى، أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
هَا نَحْنُ قَدْ وَدَّعْنَا مَوْسِمًا فَاضِلًا مَلِيئًا بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَأُمَّهَاتِ الطَّاعَاتِ، فَحَرِيٌّ بِنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نُكَاشِفَ أَنْفُسَنَا وَنَسْأَلَهَا: مَاذَا بَقِيَ فِي نُفُوسِنَا مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْخَالِيَاتِ؟
إِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ صَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَقَبُولِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعَمَلِ، تَرَى ذَلِكَ فِي سَمْتِهِ، وَقَوْلِهِ، وَخُلُقِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِهِ، لَا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُجَرَّدَ طُقُوسٍ اعْتِيَادِيَّةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي وَاقِعِ صَاحِبِهَا.
فَمَا قِيمَةُ الصَّلَاةِ -يَا عِبَادَ اللهِ- إِذَا لَمْ تَنْهَ صَاحِبَهَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، مَا قِيمَةُ الصَّوْمِ إِذَا لَمْ يَكُفَّ صَاحِبُهُ عَنِ الزُّورِ وَفُحْشِ الْقَوْلِ، وَمَا قِيمَةُ الصَّدَقَةِ إِذَا اتَّبَعَهَا صَاحِبُهَا بِمَنٍّ أَوْ أَذًى، وَمَا قِيمَةُ الْحَجِّ أَيْضًا إِذَا لَمْ تُوَقَّرِ الشَّعَائِرُ وَتُعَظَّمُ الْحُرُمَاتُ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَأَنَّهَا تَصَّدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ).
فَمَا أَجْمَلَ -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نُتَرْجِمَ عَمَلَنَا الصَّالِحَ فِي الْحَيَاةِ إِلَى كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَابْتِسَامَةٍ، وَصِلَةٍ وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ، بِذَلِكُمْ نَرَى أَثَرَ طَاعَاتِنَا وَاقِعًا مَحْسُوسًا، وَشَاهِدًا مَلْمُوسًا، وَنَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ الْعَامِلِينَ.
صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ؛ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات
علمتنا مدرسة الحج.doc
علمتنا مدرسة الحج.doc
المشاهدات 5147 | التعليقات 6
اسال الله ان يكتب أجرك ياشيخ على هذة الخطببة التي والله نحن بحاجة لتدبر مافيها من الدرر
الى الامام ....كماعهدانك ..
جزاك الله خير على هذا الطرح الرائع
بورك فيك وفي قلمك شيخ ابراهيم ..
وجزاك الله خيراً على هذه الخطبة الرائعة ..
دمت موفقاً مسدداً ..
تيحاتي لأحبتي الشمراني ، الشهري ، عرجان ، عبدالله الطوالة
دمتم موفقين مسددين ، شاكر لكم إحسان ظنكم ،
ولا نستغني عن ملاحظاتكم
جزى الله الشيخ إبراهيم العجلان خير الجزاء وجعلها في ميزان حسناته ،،
الشمراني الشمراني
وتقبل الله منا ومنك..
تعديل التعليق