علِّق قلبك به!
سامي بن محمد العمر
القلوب المتعلقة
أما بعد:
فإنكم لن تروها بأعينكم واقعاً وحساً، ولكنها موجودة.
ولن تمسوها بأيديكم استشعارا ولمساً، ولكنها مربوطة فيه ومشدودة.
في المساجد قناديل لا ترى، تلازم المسجد فلا تبرح منه، وتتعلق به فلا تنفك عنه.
إنها القناديل المميزة بالحب والشوق والتعلق واللهفة.
إنها القناديل القلبية المعلقة المتعلِّقة؛ التي تظل في بيت ربها وإن خرجت أجسادها للخارج، وتستشعر فيه لذة الصعود إلى أعلى المعارج.
القلوب المعلقة.. قلوب تكابد عواصف الدنيا وملذاتها، وتصارع زخارفها ولذاتها، فلم تنجرف في أوديتها السحيقة لعباً ولهواً، ولم تستسلم لسراق الأوقات فيها خمولاً وضعفاً.
القلوب المعلقة.. قلوب مجاهدة: كفت نفسها عن رديء أهوائها، ومنعتها من سيءِ شهواتها، وحين دخلت داراً تجد فيه سعادتها، وتحصل فيه متعتها؛ آثرت ألا تخرج منه، وعزمت على التعلق به، وجاهدت على البقاء فيه..
إنها دارُ محبوبها، وبيت إلهها الذي أذِن لها ولغيرها بالبقاء، وأسعدها بشرف القرب والالتقاء.
فلا عجب أن تكون قلوب المحبين ببيت المولى متعلقة، وأقدامهم إلى بيت المعبود مترددة:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
المسجد بيت الطهر والنقاء، والراحة والصفاء فلا يقبل إلا الأرواح التي غَسلت أطرافَها من درن الدنيا قبل أن تدخله، وطهّرت دواخلها من مفسدات القلوب المتعفنة.
ولذا فإن قلب المؤمن فيه كالسمك في الماء، إن أُخرج منه مات، وإن أعيد إليه سريعاً عادت له سعادته وراحته.
ومن القلوب قلوبٌ تعلقت بغير بيوت ربها، وأحبت من بيوت الدنيا ما فيه شقاؤها وعذابها... فلا تراها في المسجد إلا كالطير في القفص ينتظر فرصة الهرب ليهيم في شهواته، ويستمتع بلذاته.
فلا عجب أن يباهي رب الدار بزواره، وأن يكرم ضيوفه وهو أكرم الكرماء
عن عبد الله بن عمرو، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا، قد حفزه النفس، وقد حسر عن ركبتيه، فقال: " أبشروا، هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى "([1]).
وبعد هذه المباهاة ستُمْطَر تلك القلوب بغيث الدعوات وجميل الصلوات:
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه، خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد، كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي - يعني عليه الملائكة - ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه)([2]).
وأي قلب يستشعر آثار تلك الفضائل ثم لا يتعلق قلبه بالمساجد فهو قلب مريض، لا ينال وسام الشرف؛ ولا يرتقي لمنزلة التكريم يوم القيامة
الخطبة الثانية
أما بعد
عباد الله:
إن في القيامة موقفاً يَغبطُ الناسُ عليه أصحابه أيما اغتباط، ولو أُذن لهم أن يتسارعوا إليه ويتصارعوا عليه لاقتتلوا أيما اقتتال.
ولكنها أماكن محجوزة، لأرواح معروفة، تَسْلم فيها من الشدة والأهوال، وتسْعد فيها بظل عرش الكبير المتعال...
إنها الأماكن المشهودة لسبعة أصناف من المؤمنين صارعوا أهواءهم ولذاتهم وصبروا وصابروا حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم فنالوا وسام الشرف، وحازوا أماكن التكريم..
وهم المذكورون في الحديث الشهير: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. وذكر منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد)
فأين أنتِ أيتها القلوب التائهة؟
أين أنتِ أيتها القلوب المغرورة الضائعة؟
التكريم والشرف والعلو والرفعة والطمأنينة والراحة والسعادة واللذة مكانها من هنا في المساجد.
والهداية والتوفيق والنجاح لا تكون إلا لأصحاب القلوب المعلقة بالمساجد، التي تديم فيها الصلاة والذكر والقراءة:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]
([1]) [أخرجه ابن ماجه « 801 » و أحمد « 2 / 186 »، السلسلة الصحيحة" 2 / 269].
([2]) صحيح البخاري (1/ 103)
المرفقات
1734629540_القلوب المتعلقة.docx
1734629553_القلوب المتعلقة.pdf