علاج الهم والحزن والغم

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتقوى الله جل وعلا هي رأس السعادة وسبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة وهي خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله.
إخوة الإيمان والعقيدة ... سئل الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه ما أعظم جنود الله؟ قال : إني نظرت إلى الحديد فوجدته أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى النار فوجدتها تذيب الحديد فقلت النار أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى الماء فوجدته يطفئ النار فقلت الماء أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى السحاب فوجدته يحمل الماء فقلت السحاب أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى الهواء فوجدته يسوق السحاب فقلت الهواء أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى الجبال فوجدتها تعترض الهواء فقلت الجبال أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى الإنسان فوجدته يقف على الجبال وينحتها فقلت الإنسان أعظم جنود الله ، ثم نظرت إلى ما يُقعد الإنسان فوجدته النوم فقلت النوم أعظم جنود الله ، ثم وجدت أن ما يُذهب النوم فوجدته الهم والغم فقلت الهم والغم أعظم جنود الله ، ثم نظرت فوجدت أن الهم والغم محلهما القلب فقلت القلب أعظم جنود الله ، ووجدت هذا القلب لا يطمئن إلا بذكر الله فقلت أعظم جنود الله ذكر الله.
وصدق الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )
عباد الله ... إن العبد في هذه الحياة قد يصاب بآلام متنوعة وقد يرد على قلبه إرادات متعددة تؤرق قلبه وتؤلم نفسه وتجلب له الهم والحزن والغم، فهذه أمور مقدرة وأشياء مكتوبة لابد أن يراها العبد في هذه الحياة، إلا أن الله عز وجل جعل للعبد أسبابًا عظيمة وأمورًا مهمّة إذا اعتنى بها واعتنى بتطبيقها زال عنه همُّه وانجلى غمه وذهب حزنه وانشرح صدره وتحققت له سعادته في هذه الحياة.
فهناك أمور عديدة ترد على القلب تؤلمه منها أمور تتعلق بأمور ماضية وذكريات لأشياء قد مضت وانقضت فيحزَنُ القلب عند تذكرها ويصيبه آلام متنوعة باستحضارها، وهناك آلام تتعلق بأشياء في المستقبل ترد على قلب العبد فيصيبه الهم بسبب أمور قادمة وأشياء آتية لا يدري ما يكون له فيها ويهتم قلبه لذلك. وهناك الغم وهو الذي يصيب العبد في أمر يتعلق بحاضره وواقعه وحاله فهذه أمور ثلاثة حزن وهو يتعلق بما مضى، وهم وهو يتعلق بالمستقبل وغم وهو يتعلق بحاضر الإنسان، وهذه الأمور الثلاثة إنما تنجلي عن القلب وتزول عنه بالعودة الصادقة إلى الله جل وعلا، والانكسار بين يديه والتذلل له والخضوع له سبحانه والدخول في طاعته والاستسلام لأمره والإيمان بكتابه وتدبره والعناية بقراءته وتطبيقه، فبذلك - عباد الله - لا بغيره تزول هذه الأمور وينشرح الصدر وتتحقّق له السعادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما أصاب أحدًا قط همٌّ و لا حزنٌ ، فقال : اللهمَّ إني عبدُك ، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك ، ناصيتي بيدِك ، ماضٍ فيَّ حكمُك ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك ، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك ، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك ، أو أنزلتَه في كتابِك ، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك ، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ، ونورَ صدري ، وجلاءَ حزني ، وذَهابَ همِّي ، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه ، وأبدلَه مكانَه فرجًا قال : فقيل : يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها ؟ فقال بلى ، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها )
فهذه كلمات عظيمة ينبغي على المسلم أن يتعلمَّها وأن يسعى في قولها عندما يصاب بالهمّ أو الغم أو الحزن، وليعلم أن هؤلاء الكلمات إنما تكون نافعة له إذا حقَّق مدلولها وطبَّق مقصودها وعملت بما دلت عليه.
وعندما نتأمل هذا الدعاء العظيم الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليقوله العبد عندما يصاب بالهم أو الغم أو الحزن نجد أنه يتضمَّن أربعة أصول عظيمة لا تتحقق للعبد السعادة ولا ينجلي عنه الهم أو الغم أو الحزن إلا بتحقيقها والإتيان بها:
أما الأصل الأول: فهو تحقيق العبادة لله جل وعلا وتمام الانكسار له والذّل بين يديه والخضوع له سبحانه ... وهذا نأخذه من قوله عليه الصلاة والسلام ( اللهمَّ إني عبدُك ، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك ) فهذا اعتراف من العبد بأنه مملوك لله مربوب لله مخلوق له سبحانه وتعالى هو وآباؤه وأمهاته إلى آدم وحواء، فالكل مماليك لله والكل مربوبون له هو خالقهم وهو سيدهم وهو مولاهم وهو مدبر شؤونهم لا مالك لهم إلا الله ولا خالق لهم إلا الله ولا مدبِّر لشؤونهم إلا الله سبحانه وتعالى ولهذا فإن العبد يذل لله ويخضع بين يديه وينكسر لعظمته وجلاله وجماله وكماله.
الأصل الثاني: - عباد الله - فهو أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه سبحانه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) وهذا مستفاد من قوله (ناصيتي بيدِك ، ماضٍ فيَّ حكمُك ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك) فناصية العبد وهي مقدَّمة رأسه بيد الله عز وجل يتصرف فيه تبارك وتعالى كيف يشاء ويحكم فيه بما يريد لا معقِّب لحكمه سبحانه ولا راد لقضائه ولهذا قال (ماضٍ فيَّ حكمُك ) فحكم الله ماض وقضاؤه ماض ولا يرده راد مهما فعل العبد، فما قدره الله كان ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا لابد على العبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره وبمشيئته النافذة وقدرته الشاملة التي شملت كل مخلوق.
والأصل الثالث: - عباد الله - أن يؤمن العبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة الواردة في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويتوسل إلى الله بها ويدعو بها ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ويقول تعالى ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم (أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك ، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك ، أو أنزلتَه في كتابِك ، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك ) والعبد كلما كان عظيم المعرفة بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى زادت خشيته لله وعظمت مراقبته له وازداد بعداً عن معصيته والوقوع فيما يسخطه كما قال بعض السلف: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
أما الأصل الرابع: - عباد الله - فهو العناية بالقرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي فيه الهداية والشِّفاء والغنية والكفاية والسداد ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) وكلما كان العبد عظيم العناية بالقرآن الكريم تلاوة وحفظا ومذاكرة وتدبرا وتطبيقا كان ذلك من أعظم أسباب انشراح صدره وذهاب همه وانجلاء حزنه وغمّه وهذا مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام (أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ، ونورَ صدري ، وجلاءَ حزني ، وذَهابَ همِّي )
فهذه عباد الله أصول أربعة مستفادة من هذا الحديث العظيم ينبغي علينا أن نتأملها وأن نسعى في تطبيقها وأن نحفظ هذا الدعاء المبارك الذي أرشد إليه نبينا صلى الله عليه وسلم ودل الأمة عليه بل رغّب في حفظه وتعلمه،
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يهدينا سواء السبيل وأن يشرح صدورنا ويزيل همومنا وغمومنا وأن يكتب لنا السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله عظيم الإحسان واسع الجود والفضل والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... اعلموا رحمكم الله أن سعادة العبد في هذه الحياة وزوال الكرب عن قلبه إنما يتحقق بتوحيد الله وإخلاص الدين له سبحانه وتعالى، تقول أسماء بنت عميس رضي الله عنها : علَّمَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كلِماتٍ أقولُهُنَّ عندَ الكَربِ: اللَّهُ، اللَّهُ ربِّي لا أشرِكُ بِهِ شيئًا.
فهي كلمة عظيمة يقولها المسلم عندما يصاب بالكرب وهي توحيد وإخلاص وإيمان وإذعان وبعد عن الشرك كله صغيره وكبيره ولهذا - عباد الله - ما زالت الكربات عن العبد بمثل توحيد الله وإخلاص الدين له وتحقيق العبادة التي خُلِق العبد لأجلها وأوجِد لتحقيقها، فإن القلب عندما يعمر بتوحيد الله وإخلاص الدين له تذهب عنه الكربات وتزول عنه الغموم والشدائد ويسعد غاية السعادة.
فنسأل الله عز وجل أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بتوحيد الله وإخلاص الدين له وأن يوفقنا لكل خير وأن يؤت نفوسنا ونفوسكم تقواها وأن يزكيها فإنه سبحانه خير من زكاها وهو وليها ومولاها.
صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] وقال صلى الله عليه وسلم: " من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا ".

المشاهدات 1383 | التعليقات 0