عفو الرب العظيم
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحمد لله العفو الغفور، لا تنقضي نعمه ولا تحصى على مر الدهور، وسع الخلائق حلمُه مَهما ارتكبوا من شرور، سبقت رحمته غضبه من قبل خلق الأيام والشهور، يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب ويجبر المكسور، نحمده تبارك وتعالى حمد القانع الشكور، ونعوذ بنور وجهه الكريم من الكفر والفجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك جعل الظلمات والنور، خلق سبع سمواتٍ طباقاً ما ترى فيها من تفاوت أو فطور، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المرفوع ذكره في التوراة والإنجيل وفي الزبور، المزمل بالفضيلة والمدثر بالطهر والعفاف و المبرأ من الشرور، إمام العفو ﷺ وعلى آله وصحيه أجمعين.
أُوصِيكم ونفسي بتقوى الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).
إخوة الإيمان والعقيدة ... جاء في الحديث العظيم – وكل أحاديث المصطفى ﷺ عظيمة – عن عائشة رضي الله عنها قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ – وفي رواية - أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ ( قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى ).
عفوُ الله – يا عباد الله - كلمةٌ تبعثُ السَّكينةَ في النفس، والطُّمأنينةَ في القلب، والثقةَ فيما عند الله ( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) يعفُو عن المُذنِب، ويغفِرُ للمُسيء، ويتجاوزُ عن الخطَّائين ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ).
عفوُه – سبحانه – الذي وسِع الورَى، يُنبِئُ عن السَّتر، ويشملُ محوَ السيئات. فمن جميل عفوِ الله ... أنه يحبُّ التوابين، ويفرَحُ بأوبَتهم إليه؛ فماذا يُريدُ العاصِي من ربِّه بعد ذلك !! قال رسولُ الله ﷺ ( للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه المؤمن ).
من سعَة عفوِ الله ... مُضاعفةُ الحسنات، والثوابُ على الهمِّ بها دون السيئات؛ قال رسول الله ﷺ ( إن الله كتبَ الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عندَه حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له سيئةً واحدةً ).
من جميل عفوِ الله ... أن يُبدِّلُ السيئات إلى حسنات، فإذا أقلَع العبدُ عن الحرام، وباشَرَ أسبابَ التوبة والطاعة؛ ازدادَ إيمانًا مع إيمانِه؛ فتقوَى شواهِدُ الإيمان في قلبِه، فيُكرِمُه الله بجميلِ عفوِه ( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )
فما أوسعَ وأجملَ عفو الله سبحانه، المرءُ يعصِي ويُذنِب، وربنا يعفو ويغفر، بل ويُبدِّل الله السيئات حسنات، أيُّ كرمٍ هذا؟! وأيُّ فضلٍ أعظمُ من هذا الفضل؟ ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ).
ومن سعَة عفوِ الله ... أن رحمتَه تسبِقُ غضبَه، وعفوَه يسبِقُ عقابَه، قال رسولَ الله ﷺ ( إن الله لما قضَى الخلقَ، كتبَ عندَه فوقَ عرشِه: إن رحمتِي سبقَت غضبِي ) وجاء في حديث الشفاعة في إخراج أقومٍ من النار، فيقول الله: شفَعَت الملائكة، وشفَعَ النبيُّون، وشفَعَ المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين. فيقبِضُ قبضةً من النار، فيُخرِجُ منها قومًا لم يعمَلوا خيرًا قطُّ، قد عادُوا حممًا، فيُلقِيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يُقال له: نهرُ الحياة، فيخرُجون كما تخرُج الحِبَّة في حَميل السَّيل ).
ومن سعَة عفوِ الله ... إمهالُ عبادِه قبل مُؤاخَذَتهم؛ فهو سبحانه يُقابِلُ جهلَ العباد بالحِلمِ، والذنوبَ بالمغفرة، والمُجاهَرةَ بالسَّتر، والجُحودَ بالإنعام، كما في الحديث: «لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله عز وجل؛ إنه يُشرَكُ به، ويُجعلُ له الولد، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقُهم ) ولذلك من عظيم سعة عفوِ الله ... مُناداةُ الكافرين إلى التوبة ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، فإذا كان يُغفَرُ للكفار ما قد سلَف؛ فكيف بعُصاة المؤمنين إذا تابُوا!!
عباد الله ... عفوُ الله جلاءٌ للهُموم والغُموم؛ ففي غزوةِ أُحُد أصابَ الصحابةَ غمٌّ وحُزنٌ بعد مُخالفة الرُّماةِ لأمرِ النبي ﷺ فقال تعالى ( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ) عفا عنكم لكي لا تحزَنوا، ولتكون حلاوةُ عفوِه تُزيلُ عنكم ما فاتَكم من غمِّ القتل والجرحِ.
واعلموا – يا عباد الله – أن من هديِ النبي ﷺ الحِرصُ على طلبِ العفوِ والعافية من ربه، فكان يسألُ الله حين يُصبِحُ وحين يُمسِي ( اللهم إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في ديني ودُنياي، وأهلي ومالي ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالِحات، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه على جزيلِ العطيَّات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ البريَّات، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه هو قدوتُنا وأُسوتُنا في المُدلهِمَّات، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أُولِي الفضل والمكرُمات.
معاشر المؤمنين ... وطلب العفوِ في المواسِم الفاضِلة، ومواطِن الإجابة أولَى وأعظم، ونحن موسِمٍ عظيم في الليالي العظيمة العشر الأواخر من رمضان، فيها ليلة عظيمة ليلة هي ( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) ليلة مشهودة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: يا رسولَ الله! أرأيتَ إن علِمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقولُ فيها؟ قال ( قُولي: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي ).
وإذا أراد العبدُ أن ينالَ العفوَ فعليه بالصدقِ مع الله، مع الذين صدقَت نيَّاتُهم، واستقامَت قلوبُهم وأعمالُهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
ومن داومَ على طاعة الله فازَ بعفوِ الله، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: أرأيتَ مَن عمل الذنوبَ كلَّها ولم يتركْ منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجةً ولا داجةً إلا أتاها، فهل لذلك من توبةٍ؟ فقال ﷺ ( فهل أسلمتَ؟ ) قال: أما أنا فأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وأنك رسولُ اللهِ، قال ﷺ ( تفعل الخيراتِ، وتترك السيئاتِ، فيجعلهنَّ اللهُ لك خيراتٍ كلِّهنَّ )قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟ قال ﷺ ( نعم ) قال: اللهُ أكبرُ .. فما زال يُكبِّرُ حتى تَوارَى.
نعم، تفعلُ الخيرات، وتترُك السيئات، فيجعلهنَّ الله لك خيراتٍ كلهنَّ. فأي عفوٍ أعظم من هذا!!
فينبغي في هذا الأيام الفاضلة والليالي العظيمة أن نكر من فعل الخيرات .. ونتجنب السيئات ونظهر شعائر الإسلام. ولنكثر من قولنا (اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي ) ومن أراد أن ينال عفو الله تعالى فليعف عن الناس، فلن يندم من عفا مهما خسر في ظنه من أمور الدنيا، فالعاقبة الحميدة والذكر الحسن لأهل العفو، جميل الذكر وطيب الكلام وأزكاه لأهل العفو.
اللهم ألِّف بين قلوبِ المُسلمين، ووحِّد صفوفَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا.
اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفاف والغِنَى.
عباد الله ... صلوا سولموا على من أمركم الله ....