عطلة وإجازة
الخطيب المفوه
1433/07/18 - 2012/06/08 07:33AM
عطلة وإجازة
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبد العزيز الدريهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله؛ فَلا مُضلَّ له ، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أيها الأحبة في الله ، هناك عطلة وهناك وإجازة ، وهما لفظان لمعنى واحد ، وهي الفترة التي تقبع بعد انتهاء الامتحانات النهائية ، وقد يتحقق للطالب في الفترة التي تعقب الامتحانات المعنيان ؛ فتكون إجازته ذاتَ عطالة وبطالة ، وقد تتحقق له الإجازة دون البطالة ؛ فتكون إجازتُه ذاتَ نشاط وجد واجتهاد ، والناس منقسمون بين هذين المعنيين في الإجازة أو العطلة ، والغلبة لو تأملنا لمن أهلك إجازته في الأباطيل على اختلاف تنوعها، ومنهم المقل من ذلك ومنهم المستكثر .
عندما ننعم النظر أيها الجمع الكريم ، في حالنا وحال أبنائنا لا نجد الجديد ، ولا نجد كذلك المفيد ، بل نجد أعماراً تهدر وحياة تضيَّع ، لا في عمل الدنيا ولا في سعيٍ للآخرة ، وإنما عكوف على بنيات الطريف وسفاسف الأوهام ، ولا يخفى عليكم أننا هنا لا نريد حياة الجد الصِّرفة حتى في إجازاتنا ، ولكن ساعةً وساعة ، فنأخذ من لذات الدنيا ما حل ولم يله ، ونأخذ من معاقد الجد مايبلغنا بحبوحة الجنان ، والعاملُ في لذة لو تأمل أهل البطالة ، بل لذاتهم تفوق لذات أهل العطالة أضعافاً مضاعفة .
أيها الجمع الكريم ، لا يحس الإنسان أو الطالب بمغبة التفريط في أوقات الفراغ إلاَّ عندما يتقدم به العمر ؛ فيجد الأقران قد بلغوا شأواً ومنزلة عظيمة ليس له أن يصلها ، ولا ينبغي له أن يصلها بعد تفريطه ، وكل ذلك لو تأمل وتفكر بسبب استغلال أولئك أوقات إجازتهم في المفيد ، فذاك جاهد نفسه وتعب وحرم نفسه شهواتها ، وهذا انغمس في ميعة الدنيا وزخرفها ، ورأى أنها الحياة ففاتته الخيرات ، ويا حسرته على ما فات !
عجيب أيها الجمع الكريم ، صنيع أهل الهمم العالية ؛ إذ تلحظ منهم التوازن بين مطالب الجسد والروح ، وكذلك مطالب النفس ورغبات الأهل، فهو قد أرضى ربه ، وكذلك كسب ثناء أهله ، وهذا ما لا يستطيعه من أضاع ذلك ممن ليس من أهل هذا السياق ، وهنا تحضرني تجربة أحد الدعاة الموفقين مع الإجازة ، فهو بعد أن تبدأ الإجازة يجلس محل أبيه في دكانه ليريحه ، وأثناء مكوثه في هذا الدكان يتعاطى القراءة وتقييدَ الفوائد ، حيث يجعل الكتاب داخل الدفتر المسمى الإستاد ، وهو المعد لحساب البيع والشراء ؛ لئلا ينتبه له أحد ، فيقول عن نفسه : في إجازة واحدة أنهيت ما يقارب سبعين كتاباً ، فهذا الشاب بر والده، وأحسن إلى نفسه ، وجعل وقوده إلى ذلك الصبر والمصابرة، ولم تمض الأيام حتى بلغ ذاك الشاب منزلة عظيمة في العلم ، ومكانة كبيرة ليس في هذه البلاد وحسب ، بل وفي شرق العالم الإسلامي وغربه ، بل ربما استمع له في لقاء تلفازيٍّ واحد الملايين من الناس ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، والمعالي لا تنال براحة الجسد أو البطالة ، بل بالجد والاجتهاد والمثابرة ، ووصل كلال الليل بكلال النهار .
إن الشاب أيها الأحبة في الله ، لا يصل هذه المرحلة من استغلال الفراغ والإجازات ، إلا بدعاء الوالدين والإنسان نفسه ، وكذلك بتوجيه الأقربين ، وكذلك بحصول الأقران الذين يعينونه على دروب الخير ويتنافسون معه ، وكم للمنافسة من أثر حسن في شحذ الهمم وتقويتها ، وهنا تحضرني تجربة لبعض الأقران في ذلك الأمر ، حيث اتفقوا على حفظ القرآن على أحد المشايخ ، فكانوا يقضون جل وقتهم مع كتاب الله ، وكان الواحد منهم إذا مل وأرادت نفسه التسويف تذكر منافسيه فعاد لكتاب الله حفظاً ومراجعة ، فكانوا في جهاد ، حتى تمكنوا من حفظ كتاب الله ، فكم للقرين من أثر حسن إن كان خيِّراً صالحاً ، وإن كان سيئاً فلا تسل عن ضيعة من يصاحبه ، والصاحب كما قيل ساحب ، فتفقدوا أيها الجمع الكريم ، صحابة ابنائكم ومن يجارون ، والوحدة كما قيل خير من صديق السوء ، وبين ذا وذاك لا تنسوا أبناءكم من دعوة صادقة ، ولا تنسوهم من منازل الرفعة في دعائكم )وَالَّذِيْنَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا قُرَّةَ أَعْينٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ( ، ولا أعظم من الإمامة في الدين ؛ لذا سألوها لأنفسهم وأهليهم وذرياتهم ، فلا عليك لو سألت الله لابنك منازل عالية ، فالله لا يتعاظمه شيء أن يكتبه .
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه ، ونشكره على توفيقه وامتنانه ، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه ، وسلم تسليماً .
أما بعدُ :
فيا أيها الأحبة في الله ، وبينا الناس يعالجون نتائج أبنائهم خاصة الشهاداتِ الثانوية منها ، سيُشغلون في مستقبل الأيام بالتقديم في الجامعات والكليات العسكرية ، وهنا أؤكد على الأولياء احترام رغبات أبنائهم ، فلا يكلفوهم ما لا يحبون ، وكذلك على الطلاب ألا يقحموا أنفسهم فيما لايرغبون بحجة توفر الوظيفة ، بل عليك بما تميل إليه نفسك ويهواه فؤادك ، ومن كان في المجال الذي يحبه ويرغبه ؛ فإنه قادرٌ على الإبداع والتميز ؛ ومن تميز حاز قصب السبق ورُزِق القبول وأقبلت عليه الدنيا .
وإذا أحببت أمراً أيها الطالب ، ورغبت فيه ولم يكتبه الله لك ، فعليك أن تسلم نفسك لخيرة ربك ، وما حرمك الله إلا ليعطيك ، وإن الله سبحانه ليمنع العبد أمراً ؛ لأن فيه هلاكَه ، والله سبحانه لطيف خبير ، وهنا تحضرني واقعة تتجه في هذا السياق . حيث يقول صاحبها : عندما تخرجت من الثانوية كانت رغبتي العسكرية ، لكني منعت من ذلك بسبب النظر ، حيث كان نظري ضعيفاً ، فظننت أن هذا الأمر سيحطمني وأصبت بالإحباط ، وما علمت أن ذلك بداية النجاح ، حيث طردتُ الهواجس ودخلت الجامعة ؛ فتفوقت فصرت معيداً ، وتبوأت بعد ذلك مكاناً علياً ، يقول : لو كنت عسكريا لما بلغت ما بلغت !
فأنت أيها المحب ، تريد وتخطط لما تريد ، لكن إرادة الله غالبة ، وخيرة الله لك خير من خيرتك لنفسك ، فالله سبحانه منعك الآلاف التي تريد ؛ ليعطيك عشرات الآلاف منها بل والمئات ، والله ذو الفضل العظيم .
وهنا أيها الطالب ، أوصيك ووالدك يسمع ، فأقول تقدم وابذل الجهد ، واستسلم للقدر بعد ذلك ؛ فلا تدري ما هو الأصلح ، ولكن سل الله الخيرة ، وقل وأنت تسعى : اللهم ألهمني رشدي قلها دائماً وأبداً ، وكم لهذا الدعاء من أثر حسن، يقول أحدهم ما قلت هذا الدعاء في أمر إلا وحققت ما أريد ! حتى في ذهابي للسوق عندما أقولها يكون ذهابي مباركاً ، ويكون ما أشتريه صالحاً ، وعندما أنسى هذه الدعوة كم تلومني أم العيال على رداءة ما أشتري؛ فنحن أيها الجمع ، في حاجة ربنا في كل شيء حتى ولو كان أمراً حقيراً ، فما دمنا مع الله فنحن على خير وفي خير وإلى خير ، فكن يا أيها الطالب مع الله وسل الله وتوكل على الله وفوض أمرك لله ، وسترى الرضا . والله نسأل أن يرزقنا الرضا ، وأن يبارك فينا وفي أهلنا وفي ذرارينا إنه جواد كريم ..