عشر في العشر

حسين الحضرمي
1437/12/01 - 2016/09/02 07:59AM
عشر في العشر

الحمد لله الذي بيده الأمر، فضل أيام العشر، وخصها بمزيد الأجر، وجبر لأهلها الكسر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، ويعلم الجهر والإسرار، ويقلب الليل والنهار، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبي اليسر، أنزل الله عليه خير ذكر، صلى الله وسلم عليه ما طاف طائف وسعى، ولبى ملبٍ ودعا، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الحشر.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278].. أما بعد:
فما أجمل أيامٍ دخلت علينا بالصالحات، وأقبلت إلينا وفيها لله نفحات، "فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم"، تتسارع الليالي والأيام؛ لينطوي بأعمالنا العام، فطوبى لعبد أحسن صلاته وصدقته وصومه وحجه فحسن له في سنته الختام، " بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل"، رواه الإمام مسلم.‌

إن حديث خطبتنا هذه سيحمل عنوان: عشرٌ في العشر، هي عشر نصائح في خير عشرة أيام، فيها الترغيب الذي نحث عليه، وفيها الترهيب الذي نحذر منه، ومنها أحكام نتفقه فيها، ومنها وصايا نتواصى بها.

وأول العشرة: أن نتذكر ما فضل الله به هذه الأمة، فلما قصرت أعمارها ضاعف الله أجورها، فالعمل الصالح القليل يؤجر به العبد أجر العمل العظيم، صلاة الخمس بصلاة خمسين، وصيام شهر وست بصيام سنة، وليلة القدر بألف شهر، وعشر ذي الحجة أفضل أيام الأعمال الصالحة عند الله، فاشكروا الله على فضله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغارب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل من غدوة إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين قيراطين، فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء" رواه البخاري.

وثاني هذه الوقفات: أن شكر هذا الفضل الذي خصت به الأمة إنما يكون بالاجتهاد في الأعمال الصالحة، وهل تنال ولاية الله إلا بذلك؟ روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته"، أخي الحريص على الخير والأجر، أتريد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، إن أردت ذلك فاعمل بوصيته، سأله شاب من الأنصار أن يكون رفيقه في الجنة، فقال له: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"، أخرجه مسلم، وفي رواية أخرى: "عليك بالسجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة"، أخرجه ابن ماجه، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (382).

وثالث العشر: أن أعظم الأيام التي نتقرب فيها إلى الله تعالى بالعمل الصالح، هي هذه العشر التي دخلت علينا، عشر ذي الحجة، هي العشر التي أقسم الله عليها فقال: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]؛ كما هو قول جمهور المفسرين، وهي الأيام المعلومات في قوله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهي العشر المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، كما هو قول بعض المفسرين، قال أبو عثمان النهدي كما في لطائف المعارف: "كانوا - أي السلف - يعظّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم".

هي أفضل أيام الدنيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل أيام الدنيا العشر"، رواه البزار عن جابر بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى بإسناد صحيح ولفظه: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة"، وهو في صحيح الترغيب (1150)، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان: أيهما أفضل؟ فأجاب:" أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"، مجموع الفتاوى (25 /287)، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله معللاً فضل هذه العشر: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازات لِمَكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها"، انتهى؛ ففيها ترفع الأصوات بالشهادة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وفيها يُكثر من الصلاة في المسجد الحرام وفي غيره من بقاع الأرض، وفيها تذبح الهدايا والأضاحي ويطعم المسكين وتعظم الصدقات، وفيها تصام تسع ذي الحجة ومنها يوم عرفة، وفيها أداء ركن الحج العظيم، الذي لا يُؤدى إلا فيها، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؛ يعني أيام العشر من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء"، رواه البخاري، ورواه الدارمي بلفظ: "ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير تعمله في عشر الأضحى".

ورابع العشرة: أن نحرص ما استطعنا على الإكثار من الأعمال الصالحة فيها؛ فأكثِروا فيها من التكبير والتهليل والدعاء، وقراءة القرآن ونوافل الصلوات، وبر الوالدين وصلة الأرحام، وتفريج الكرُبات وقضاءِ الحاجات وسائرِ أنواع الطاعات، قد كان الصحابة رضي الله عنهم يحيُونَ في العشر سُنّةَ التكبير بين الناس، كان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان إلى السوقِ في أيام العشرِ، فيكبران ويكبِّر الناس بتكبيرهما، رواه البخاري، كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يُقدَر عليه، كما في صحيح الترغيب (1148)، استحب قيام لياليها الإمام الشافعي رحمه الله، وقال بعض السلف: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر"، فاجتهدوا في الطاعات، واستعدوا بالإكثار من القربات، "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟"، "من تبع منكم اليوم جنازة؟"، "من أطعم منكم اليوم مسكينًا؟"، "من عاد منكم اليوم مريضًا؟"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"، واعلموا أن أفضل الأعمال أعمال القلوب؛ فلنطهر قلوبنا من أدران الشرك والرياء والعجب، ولنعمرها بمحبة الله وتعظيمه والخوف منه والتوكل عليه، واعلموا أن الله "لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب".

والوقفة الخامسة: ما يتعلق بخلاف أهل العلم رحمهم الله في صيام تسع ذي الحجة، فعند أبي داود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، صححه الشيخ الألباني، قال النوويّ رحمه الله: "فليس في صومِ هذه التسعة كراهةٌ شديدة، بل هي مستحبّة استحبابًا شديدًا"، وأما ما رواه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قطّ، فقد قال ابن القيّم رحمه الله بعد أن أورد هذه المسألة: "والمثبت مقدم على النافي إن صح"، وقال ابن حجر رحمه الله: "ولا يرِد على ذلك حديث عائشة لاحتمال أن يكون ذلك لكونه صلى الله عليه وسلم، وهو الرحيم المشفق، كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يُفرض على أمته".

والسادسة: ألا ننسى رحمكم الله أن نكثر في هذه الأيام من التكبير ومن ذكر الله تعالى؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، وهؤلاء هم السلف، يخبرنا عنهم ميمون بن مهران فيقول رحمه الله: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير، أخرجه أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9 /9)، والتكبير فيها قسمان: مطلق ويكون في العشر كلها، ومقيد بدبر الصلاة المكتوبة ويبدأ من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وأصح ما ورد في صيغ التكبير ما أخرجه عبدالرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: "كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا، وصح عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".

أيها المؤمنون عباد الله: يقول ربكم تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، قلت ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
• • •
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه.
وسابع ما نقف عليه من الوصايا في هذه العشر المباركة: ما ذكره بعض أهل العلم أن السيئة تتضاعف في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]، فاتقوا السيئات، ولا تتبغضوا إلى الله بمعاصيه.

وثامن الوقفات: أن من لم ييسر له حج هذا العام، فليحرص آكد ما يكون الحرص على صيام يوم عرفة، وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والتي بعده"، رواه مسلم، فاسعوا إلى العتق من النار، يقولصلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء"، أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، وأكثروا فيه من الدعاء والتهليل:"خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، أخرجه الترمذي.

والتاسعة: تعظيم يوم النحر، فهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم لنا النعمة، وهو يوم الحج الأكبر، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر"، رواه أبو داود بسند صحيح، وصلاة العيد فيه واجبة على الصحيح من أقوال أهل العلم، ويشرع فيه وفي أيام التشريق إظهار الفرح والاجتماع على الأكل والشرب، لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:" أيام التشريق أيام أكل وشرب"، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى 25/298: "الاجتماع مع الناس للطعام في العـيدين وأيام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين".

والعاشر: أن مما يتأكد في يوم النحر وأيام التشريق بعده ذبح الأضاحي بعد صلاة العيد، فقد ضحّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملَحَين أقرنين، سمى وكبر وذبحهما بيده، متفق عليه، والأضحية هديٌ مؤكد فحافظ عليه؛ عن كل بيت شاة واحدة سلمت من العيوب، وأفضلها أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها، ويحرُم على من أراد أن يضحي أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره إلى أن يضحي، لما روته أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئًا حتى يضحي"، رواه مسلم، فاكثروا من الصالحات، وتقربوا لله بعظيم القُربات، وانظروا في هذه العشر بأي شيءٍ لله تتقربون؟ وماذا أنتم صانعون؟ اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى...

هذه خطبة لشيخنا الدكتور طالب بن عمر الكثيري حفظه الله تعالى وهي منقولة من هذا رابط الموضوع: http://www.alukah.net/web/alkathiri/0/98925/#ixzz4J5CpxJ9q
المشاهدات 1203 | التعليقات 0