عشر ذي الحجة ( مجموعة خطب )
بدر راشد الدوسري
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه خطبة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في فضل ايام العشرة ذي الحجة اتمنى ان تفيدنا واياكم وتكون في ميزان حسناتنا وحسناتكم .
فإن قال قائل ما هي الحكمة في أن ينهى من أراد الأضحية أن يأخذ من شعره وبشرته وأظفاره فالجواب أن ذلك من أجل أن يكون للأضحية حرمة وأن يشارك من لم يحجوا حجاج بيت الله في عدم الترفه الكثير فإن كانت هي الحكمة فهذا من فضل الله ونعمته وإن لم تكن هي الحكمة فالحكمة هي امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يأخذ الإنسان من شعره وأظفاره وبشرته أيها الأخوة إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ألا وأن من البدع ما يفعله بعض الناس إذا مات لهم ميت ضحوا عنه أول سنة وقالوا هذه أضحية الحفرة فإن هذا لا أصل له في دين الله وهو بدعة لا يزيد الإنسان إلا ضلالة وقد لا ينتفع بها لا هو ولا الميت لأنها لم تكن على شريعة الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(3) وأن أفضل ما نفعله لأمواتنا ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (إذا مات الإنسان أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )(4) فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في نفع الولد لميتهِ في هذا الحديث إلا الدعاء لذلك لا ينبغي للإنسان أن يحرص الحرص الشديد على أن يهدي ثواب العبادات لأمواته بل الدعاء لهم أفضل أتباعا لهذا الحديث النبوي الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في صيام نفع الأعمال
اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم أرضى عن خلفائه الراشدين اللهم أرضى عن الصحابة أجمعين اللهم أرضى عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أرضى عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين اللهم أصلح ولاة أمورنا اللهم أصلح ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم يا رب العالمين اللهم هيئ لهم بطانة صالحة تدعوهم إلى الحق وتحثهم عليه وأبعد عنهم كل بطانة سوء يا رب العالمين اللهم خذ بأيديهم إلى الصلاح والفلاح إنك على كل شئ قدير ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غل للذين أمنوا ربنا إنك رءوف رحيم عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون و واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
(2) أخرجه مسلم ( 1977 ) من حديث أم سلمه رضي الله عنها .
(3) أخرجه مسلم ( 1718 ) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(4) أخرجه مسلم ( 1631 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
عبد العزيز القنام
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي))، فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين))، ((والصدقة بسبعمائة ضعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))، و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول ، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، والتي تستقبلونها إن شاء الله هذه الأيام؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدّم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له. مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لـذة الـدنيا إلا قيام اللـيل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذذ بالطاعات ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة وتنهزم البدعة ويقوى الإيمان ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطّ ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا ـ معشر اليهود ـ اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة). وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة، منها اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال : ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال : ((الحج عرفة))، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها الذكر، يقول تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعًا للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كلّ على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكَر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله بـه على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، فدونكم الفضائل فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات، عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
اللهم وفقنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يوفق لأرشدها إلا أنت، اللهم جنبنا سيئ الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يجنبنا سيئها إلا أنت، اللهم اهدنا وسددنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ الإهلال بالحج والتقرب إلى الله جل وعلا به، والتقرب إلى الله بصوم عرفة لمن لم يحج، وفضل الأضاحي، ولعل الله جل وعلا ييسر لنا الكلام عن فضلها في الجمعة القادمة.
ومن الأعمال في هذه العشر الإكثار من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله ، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها بابا من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبـه، ويتحرر من عبـودية الـدرهم والديـنار، ويحفـظه الله في نـفسـه ومـاله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئًا، فمن أراد منكم أن يضحي فثبت دخول شهر ذي الحجة فإنه لا يحلّ له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا، هكذا جاء الحديث عن رسول الله ، إذا دخل العشر وأراد الإنسان أن يضحي فلا يأخذن من هذه الأمور الثلاثة شيئا الشعر والظفر والبشرة يعني الجلد، وأما من يضحّى عنه وهم أهل البيت فلا حرج عليهم أن يأخذوا شيئا من ذلك لأن النبي إنما نهى من أراد أن يضحي وأهل البيت يضحى عنهم ولا يضحّون، ولهذا لا نعلم أن النبي كان ينهى أهله أن يأخذوا شيئا من ذلك مع أنهم كانوا يضحى عنهم، فقد كان رسول الله يضحي بأضحيتين: إحداهما عنه وعن أهل بيته، والثانية عن أمته جميعا، فجزاه الله عنا خيرا، وجعلنا من أتباعه ظاهرا وباطنا، وحشرنا في زمرته، وسقانا من حوضه، وجمعنا به في جنات النعيم، إنه هو الكريم الوهاب.
وأكثروا من الصلاة والسلام علي نبيكم محمد ، أكثروا من الصلاة عليه في كل وقت فإنه أعظم الناس حقا عليكم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم بذلك أمرتم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم تنالون بذلك أجرا عظيما، فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشره.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين.
المشاهدات 5399 | التعليقات 9
وظائف عشر ذي الحجة
الخطبة الأولى
الحمد لله ذِي الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الدهور والأعوام.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبِها تتحقَّق الخيراتُ وتحصل المسرَّات وتندفع الكُرُبات.
عبادَ الله، يُطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، وتحلّ بهم أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري[1]، وعند البيهقيّ: ((ما عملٌ أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خيرٍ يعمَله في عشر الأضحى))[2]، وروى البزّار في مسنده عن النبيّ أنه قال: ((أفضلُ أيّام الدّنيا العشر)) يعني عشرَ ذي الحجّة الحديث[3].
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى[4].
أيّامٌ يفِد المسلمون فيها إلى حجّ بيتِ الله الحرام، وقد وعَدَهم بالخير العظيمِ والثّواب الجزيل، قال : ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمُّه)) متفق عليه[5]، ويقول : ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنّهما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خَبثَ الحديدِ والذّهب والفضَّة، وليس للحجّة المبرورةِ ثوابٌ إلاّ الجنّة)) رواه الترمذيّ والنسائي وسنده صحيح[6]، وفي الصحيحين: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة))[7].
معاشرَ المسلمين، وهذه الأيّام الفاضلةُ يُشرع صومها، ويتأكّد فضلُه فيها، قالت حفصة رضي الله عنها: أربعٌ لم يكن يدَعهُنّ رسول الله : صيامُ يوم عاشوراء والعشرِ وثلاثةِ أيّام من كلّ شهر وركتا الفجر. أخرجه أحمد وفيه مجهول وباقي رجاله ثقات[8].
وعند أبي داود والنسائيّ عن بعض نساء النبي وفيه أنّه كان يصوم تسعَ ذي الحجة[9].
قال النوويّ رحمه الله: "فليس في صومِ هذه التسعة ـ يعني تسع ذي الحجّة ـ كراهةٌ شديدة، بل هي مستحبّة استحبابًا شديدًا" انتهى[10].
وأمّا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنّها قالت: ما رأيتُه ـ أي: [النبي] ـ صائمًا في العشر قطّ، أخرجه مسلم[11]، فقال ابنُ القيّم رحمه الله بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"[12]، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه ـ وهو الرحيم المشفِق ـ كان يترك العمَلَ وهو يحبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمّته" انتهى[13]، ويقول النوويّ رحمه الله: "فيُتأوَّل قولُها ـ أي: عائشة ـ: لم يصُمِ العشرَ أنّه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنّها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر" انتهى[14].
معاشرَ المسلمين، وفي خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد، أخرجَ الطبرانيّ في الكبير بإسنادٍ جيّد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما مِن أيّام أعظمُ عند الله ولا أحبّ إلى الله العملُ فيهنّ من أيّام العشر، فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير))[15]، قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" انتهى[16].
والتكبيرُ ـ عبادَ الله ـ عند أهلِ العلم مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.
وأصحُّ ما ورد في وصفِه ـ أي: التكبير المقيّد ـ ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق. أخرجه ابن المنذر وغيره[17]. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا)[18]، وصحّ عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)[19].
أيّها المسلمون، المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله لا سيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله جلّ وعلا، المأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل. فيا ويحَ من أدرك هذه الأيامَ ثمّ لم يغتنِمها، والويلُ لمَن أمضاها في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام، فيا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها.
فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه))[20].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[2] شعب الإيمان (3/354) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الدارمي في كتاب الصوم (1774)، وحسن سنده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1148).
[3] عزاه المنذري في الترغيب (2/127) للبزار عن جابر رضي الله عنه وحسن إسناده، وتبعه الهيثمي في المجمع (4/17)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1150).
[4] فتح الباري (2/460).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).
[6] سنن الترمذي: كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، سنن النسائي: كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو عند أحمد (1/387)، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[7] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (6/287)، وأخرجه أيضا النسائي في الصيام (2416)، وأبو يعلى (7041، 7048، 7049)، وابن حبان (6422) والطبراني في الكبير (23/205، 216)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/105، 246، 12/364)، وضعفه الألباني في الإرواء (954).
[9] سنن أبي داود: كتاب الصوم (2437)، سنن النسائي: كتاب الصيام (2372، 2417، 2418)، وهو عند أحمد (5/271، 6/288، 423)، وأعله الزيلعي في نصب الراية (2/157) بالاضطراب، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2129).
[10] شرح صحيح مسلم (8/71).
[11] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1176).
[12] زاد المعاد (2/66).
[13] فتح الباري (2/460).
[14] شرح صحيح مسلم (8/71-72).
[15] المعجم الكبير (11/82)، قال المنذري في الترغيب (2/127): "إسناده جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح"، وفي ذلك نظر فإن فيه يزيد بن أبي زياد متكلم في حفظه، وفي السند أيضا اختلاف، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[16] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[17] الأوسط (2209، 2210)، وأخرجهما أيضا ابن أبي شيبة في المصنف (1/488، 489)، قال الحاكم في المستدرك (1/439): "أما من فعل عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق"، ثم ساق أسانيده إليهم (1112، 1113، 1114، 1115) على الترتيب. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/313-315).
[18] جامع معمر (11/295 ـ المصنف ـ)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في الكبرى (3/316)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/462).
[19] أثر عمر رضي الله عنه أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2207). وأما أثر ابن مسعود رضي الله عنه فأخرجه ابن أبي شيبة (1/488، 490)، وابن المنذر في الأوسط (2208)، والطبراني في الكبير (9/307)، وحسن إسناده الزيلعي في نصب الراية (2/224).
[20] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّتُه اللاّزمة وفرضُه المتَحتِّم.
عبادَ الله، مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام الأضاحي، فمَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فإنّه يحرُم عليه أن يأخذَ مِن شعره وأظفاره أو جِلده حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ أنّه قال: ((إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي)) رواه مسلم[1].
ثمّ إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر عظيمٍ تزكو به حياتنا وتطيب به قلوبُنا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ المصطفى.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، اللهمَّ ارضَ عن صحابته أجمعين…
[1] صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1977).
عبد الملك القاسم
ملخص الخطبة
1- توالي مواسم الخيرات. 2- فضل الحرم. 3- فرض الحج وفضله. 4- الحج المبرور. 5- من آداب الحج. 6- أهمية التوحيد. 7- فضل التوكل على الله. 8- الحكمة من رمي الجمار. 9- فضل التوبة والاستغفار. 10- أصناف الناس في الحج. 11- فضل عشر ذي الحجة. 12- من أحكام الأضحية وآدابها.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرّ والنجوى.
أيّها المسلمون، مواسِم الخيراتِ على العباد تترَى، فما أن تنقضِيَ شعيرة إلا وتتَراءَى لهم أخرَى، ها هِيَ أفواجُ الحجيج قد أمَّت بيتَ الله العتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]. بيتٌ جعَلَه الله مثابةً للنّاس وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى من الكريم الرحماتُ والعطايا، حرمٌ مبارَك فيه هدًى وخيرات وآياتٌ ظاهرات، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:96، 97]، حجُّه مِن عمادِ الإسلام، قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
جاء الشّرعُ بالأمرِ ببلوغِ رِحابِه لأداءِ فريضةِ الدِّين، قال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، قد فرَض الله عليكم الحجَّ فحجّوا)) رواه مسلم. حجُّه من أجلِّ الأعمال عندَ الله، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: سئِل النبي : أيّ العمَل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله ورسولِه))، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور)) متفق عليه.
في أداءِ ركن الإسلامِ الخامِس غُفران الذّنوب وغَسل أدران الخطايا والعصيان، يقول المصطفَى : ((مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسق رجَع كيوم ولدَته أمّه)) رواه البخاري. ومن لازَم التقوى في حجِّه أعدَّ الله له الجنةَ نُزُلاً قال عليه الصلاة والسلام: ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) متفق عليه، قال النوويّ رحمه الله: "لا يقتصر لصاحبِه من الجزاءِ على تكفيرِ بعض ذنوبه، بل لا بدّ أن يدخلَ الجنة".
والأعمال توزَن بالإخلاص، وإذا شابَهَا شركٌ أو رِياء أفسدَها، قال جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. ولا يتمّ بِرّ الحجّ إلا بكسبٍ طيّب تنزَّه عن شوائبِ المحرمّات ودنسِ الشبهات.
والصّحبةُ الصالحة في الحجّ عونٌ على الطاعة وحسنِ العبادة، والإحسانُ إليهم عبادَة متعدّيةُ النفع، قال مجاهد رحمه الله: "صحِبتُ ابنَ عمر رضي الله عنهما في السّفَر لأخدمه فكان يخدِمني"، قال ابن رجب رحمه الله: "وكان كثيرٌ من السّلَف يشترط على أصحابِه في السفر أن يخدِمَهم اغتنامًا لأجرِ ذلك". وما قدَّم أحدٌ حقَّ الله على هوَى نفسه وراحتِها إلاّ ورأَى سعادةَ الدنيا والآخرة.
وخيرُ زادٍ يحمِله الحاجّ مع رفقته زادُ الخشيةِ والتقوى، قال جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
ومِن برِّ الحجِّ إطعامُ الطعام فيه وإفشاءُ السلامِ وطِيب الكلامِ ومُعامَلة الخلقِ بالإحسان إليهم، فلا تحقرَنَّ في حجِّك من المعروف شيئًا، فخيرُ الناس أنفعهم للناس، وأعزُّهم أصبرُهم على أذاهم، وخادِمُ الحجيج المخلِصُ لله في رعايَتِهم شريكٌ لهم في الأجرِ والثواب، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله ليدخِل بالسهم الواحدِ ثلاثةً الجنة: صانِعَه يحتسِب في صنعَتِه الخيرَ، والرامِي به، والممدَّ به)) رواه الترمذي.
ومن أمَّ البيتَ حقيقٌ بلزوم ثلاثِ خِصال: ورَعٍ يحجزه عن معاصِي الله، وحِلمٍ يكفّ به غضبَه، وحُسنِ الصحبة لمن يصحَبه.
أيها المسلمون، خير ما يتقرَّب به العبادُ إلى ربهم إظهارُ التوحيد في نسكِهم وإخلاص الأعمال لله في قرباتهم، قال جلّ وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وإظهارُ النسك بالقولِ فيه وحدانيّةٌ للخالق: لبّيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريك لك لبيك. وخيرُ ما نطق به الناطقون به يومَ عرفة كلِمةُ التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير)) رواه الترمذي.
والتوكّل على الله من أجلِّ العبادات؛ قال سبحانه فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]. واليأسُ ليس من دينِ الله في شيء، قال جل وعلا: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
هاجَر تلتمِس الماءَ لها ولرضيعها في وادٍ غيرِ ذي زرع بين جبلين، أنهَكها العطش وأضناهَا الإشفاقُ على صبيِّها، وبعد توكّلٍ على الله وبذلِ الأسبابِ وجدت نَبعًا متدفِّقًا لها وللأجيال بعدها، يقول النبيّ : ((رحِمَ الله أمَّ إسماعيل، لو تركَت زمزمَ لكانت زمزمُ عينًا معينًا)) رواه البخاري.
واللهُ جلّ وعلا بيده النّفعُ والضرّ، فارجُ الكروبِ وكاشِف الخطوب، متعالي على عباده، بيدِه مقاليدُ السماوات والأرض، متَّصف بالكبرياء والعظمة، يعلِن ذلك الحاجُّ بالتكبيرِ في أنساكه في الطوافِ والسعي ورميِ الجمار وفي يومِ النحر وأيّام التشريق، ليبقَى القلب مجرَّدًا لله، متعلِّقًا به، منسلِخًا عن التعلُّق بما في أيدِي المخلوقين.
وفي رميِ الجِمار تذكيرٌ لبني آدمَ بعدوٍّ متربِّص بهم يدعوهم إلى النّارِ، قال عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]. فكن على حذَرٍ من تقصيرٍ في واجبٍ أو وقوعٍ في معصية تورِدُك المهالك.
واعلَم أنّ لحظاتِ الحجّ عزيزة وساعاتِه ثمينة، قال جلّ وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فسابِق فيه إلى كلِّ خيرٍ وقربةٍ من الذّكر والاستغفارِ والتكبير وتلاوةِ القرآن، قال جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198].
وبعدَ انقضاءِ النُّسُك احمَده على الهدايةِ واشكُره على العبادة، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]. وفي ثنايَا النّسُك استغفارٌ ورجوع إلى الله، قال عزّ وجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الاستغفارُ من أكبرِ الحسنات، وبابُه واسِع، فمن أحسَّ بتقصيرٍ في قوله أو عمَلِه أو حَالِه أو رِزقِه أو تقلّب قلب فعليه بالتوحيدِ والاستغفار، ففيهما الشِّفاءُ إذا كانا بصدقٍ وإخلاص".
والعِبادُ في الحجِّ على قدرِ هِمَمهم، منهم من يطلُب الدنيا العاجِلة، ومنهم من يطلُب الآخرةَ ومرضاة ربِّه، قال سبحانه: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
والموفَّقُ من أدَّى حجَّه بنيّةٍ صالحة خالِصة ونفقةٍ طيّبة، وعطَّر لسانَه بذكرِ الله، وصاحب عبادَتَه إحسانٌ ونفعٌ للمَخلوقين. فكونُوا في حجِّكم كذلك، وأخلِصوا في دينِكم لله، واجتَهِدوا في الأعمالِ الصّالحة، وسارِعوا إلى جنّات ربّكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
بارَك الله لي وَلكُم في القرآنِ العَظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمينَ من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقِه وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأَشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسولُه، صلّى الله عَلَيه وعلَى آلِه وأصحَابه وسلّم تسليما مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، أظّلَتكم أيّامُ عشرٍ مباركة، الأعمالُ فيها فاضلة، يقول النبيّ : ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام))، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه فلم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
فأكثِروا فيها من التكبيرِ والتّحميدِ وقراءةِ القرآن وصِلةِ الأرحام والصّدقةِ وبِرّ الوالدين وتفريجِ الكرُبات وقضاءِ الحاجات وسائرِ أنواع الطاعات، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أيّامُ عشرِ ذي الحجّة أفضلُ من أيّامِ العَشر مِن رمضان، والليالي العشرُ الأواخر مِن رمضانَ أفضلُ من ليالي عشر من ذي الحجة"، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحيُونَ في العشر سُنّةَ التكبير بين الناس، كان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان إلى السوقِ في أيام العشرِ، فيكبران ويكبِّر الناس بتكبيرهما. رواه البخاري.
والخيرُ يتتابَع في العشر بذبحِ الأضاحي يومَ العيد وأيام التشريق، وقد ضحّى النبيّ بكبشَين أملَحَين أقرنين، سمَّى وكبَّر وذبحهما بيده. متفق عليه.
وأفضَلُ الأضاحي أغلاهما ثمنًا وأنفسُها عند أهلها، وتجزِئ شاةٌ واحدَة عن الرّجل وعن أهل بيته، ويحرُم على مَن يُضحِّي أن يأخذَ في العشرِ شيئًا من شعرِه أو أظفاره أو بَشرتِه إلى أن يضحّيَ، فطيبوا بها نفسًا، وكُلوا وأطعِموا وتصدّقوا، وتحرَّوا بصدقاتكم فقراءَكم، وبهداياكم منها أرحامَكم وجيرانكم، وصونوا أعيادَكم عمّا يغضِب خالِقَكم، وشاركوا الحجيجَ في الدعاءِ والتهليلِ والتكبيرِ، ومَن أقام في بَلَدِه وسَبقَه الحجّاجُ إلى المشاعِرِ شُرِع له صيامُ يومِ عرفه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((صيامُ يومِ عرفة أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنّةَ التي قبلَه والتي بعده)) رواه مسلم.
فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام معدودَة، والأعمارُ قصيرة.
ثم اعلَموا أنّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائهِ الراشدين...
عشر مباركة
ملخص الخطبة
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- نعمة موسم الخيرات. 3- فضل العشر من ذي الحجة. 4- ما يشرع في العشر من ذي الحجة. 5- من أحكام المضحي.
أيها المؤمنون، إن من حكمة الله تعالى ودلائلِ ربوبيته ووحدانيته وصفاتِ كماله تخصيصَ بعضِ مخلوقاته بمزايا وفضائل، وقد قال جل جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.
هيأ لعباده مواسم عظيمة وأيامًا فاضلة؛ لتكون مغنمًا للطائعين وميدانًا لتنافس المتنافسين، قال ابن رجب: "وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يعود برحمته وفضله عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعدَ بها سعادة يأمن بها من النار وما فيها من اللفحات".
أيها المؤمنون، أروا الله من أنفسكم خيرا، فإنكم على أبواب عشر مباركة، أقسم الله بها في كتابه، فقال: وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم.
وعشركم هذه هي خاتمةُ الأشهر المعلومات، أشهرِ الحج التي قال الله فيها: الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وعشركم هذه في قول جمهور العلماء هي الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج: 27، 28].
وعشركم هذه من جملة الأربعينَ التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142]. رواه عبد الرزاق عن مجاهد رحمه الله.
وعشركم هذه فيها يوم عرفة ويوم النحر.
وعشركم هذه قال فيها : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس .
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيام العشر أحبُ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحبَّ إلى الله فهو أفضل عنده، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضلَ وأحبَّ إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلِّها صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضلَ من العمل في غيره وإن كان فاضلاً".
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
وقال ابن رجب: "فإن قيل: قوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته؟ قيل: الظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضلُ من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان، فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".
فأيام عشر ذي الحجة خير أيام السنة بنص هذا الحديث، قال ابن رجب: "وأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي عشرِ رمضان أفضلُ من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدا.. قال: والتحقيق ما قاله أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلةٌ لا يفضل عليها غيرها".
واستدل على هذا بأمرين:
الأول: أن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعا، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعا.
والثاني: أن الله أقسم بلياليه فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ.
أيها المؤمنون، وفي عشر ذي الحجة أعمال فاضلة ينبغي الحرص عليها، فمن ذلك الصيام، فيسن للمسلم صيام تسع ذي الحجة، لأن النبي حث على الصيام فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وروي عن بعض أزواج النبي أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة.
وأمّا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ما رأيتُه ـ تعني النبي ـ صائمًا في العشر قط، أخرجه مسلم، فقال ابنُ القيّم رحمه الله بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه ـ وهو الرحيم المشفِق ـ كان يترك العمَلَ وهو يحبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمّته". قال النوويّ رحمه الله: "فيُتأوَّل قولُها: (لم يصُمِ العشرَ) أنّه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنّها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر، وقال: صيامها مستحب استحبابًا شديدًا".
الثاني: يسن التكبير أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة، ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا)، وصحّ عن عمر وابن مسعود صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، ويصح التكبير بكل صيغة.
الثالث من أعمال هذه العشر أداء الحج، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، وجعله ركنًا من أركان دينه، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وقال : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) متفق عليه. وقد حذرنا النبي من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال : ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب : (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيا)، قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى عمر ".
أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج، أو عرض له أمر من مرض أو فقر أو تغير في الأحوال في السنة القادمة فلم يستطع الحج. ألا ترونَ الكثير من المسلمين يأتون من المشرق والمغرب من بلاد بعيدة، قد تركوا الأهل والأوطان وعرضوا أنفسهم لمخاطر الطرق والأسفار، ليصلوا إلى بيت الله الحرام، مع ما هم فيه من فقر وحاجة؟! فما بالنا نحن الذين في بلاد الحرمين، وقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة، ومع ذلك نفرط في الحج رغم قربه وتيسر أموره؟!
الرابع من الأعمال: الإكثار من الأعمال الصالحة، فاعمر هذه الأيام بطاعة الله عز وجل، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وصدقة وصلة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأبواب الخير مشرعة.
الخامس: التوبة، وهي واجبة في جميع الزمان، متأكدة في هذه العشر المباركة، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال صالحة في زمان فاضل فذاك عنوان الفلاح، فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ [القصص: 67].
أيها المؤمنون، ومما يستحب في هذه العشر الأضحية، ومن أراد أن يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئًا، روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قال : ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)). والأمر للوجوب، والحكم متعلق بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والوكيل لا يتعلق به نهي. والحكم أيضا خاصّ بصاحب الأضحية، ولا يعمّ الزوجة والأولاد؛ لأن النبيّ كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.
والحكمة من النهي عن ذلك ـ كما قال ابن القيم ـ توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمالِ التعبد بها. وقد شهد لذلك أيضًا أنه شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حلق رأسه مع الذبح أفضل وأولى.
ومن أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها في أثنائها أمسك من حين الإرادة، وإن حلق أو قلم أظافره ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن الله تجاوز عن الناسي، ولو تعمد إنسان وأخذ فعليه أن يستغفر الله ولا فدية عليه، ولا حرج في غَسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر لأن النبي إنما نهى عن الأخذ.
الأيام العشر من ذي الحجة
سعد الحجري
1- الله يصطفى ما يشاء ويختار من خلقه. 2- بركة الطاعة وفوائدها. 3- فضائل عشر ذي الحجة. 4- فضل يوم عرفة. 5- فضل يوم النحر. 6- أعمال يندب لها في عشر ذي الحجة.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركاً في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبداً.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)) فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين))، ((والصدقة بسبعمائة ضعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)). و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة، عشر ذي الحجة؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى، تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات، قليلة السيئات، عالية الدرجات، متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها: أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها: أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: ((هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له))، مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله: تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لـذة الـدنيا إلا قيام اللـيل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها: أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات، والتلذذ بالطاعات، ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفساً مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شط ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا معشر اليهود اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة).
وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها: أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة منها: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها: أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم)، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وصومه تطوعاً يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضاً.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها: الذكر، يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))، قال الشيخ أحمد شاكر (7/224): "وإسناده صحيح"، وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعاً للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كل على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله بـه على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
ويكثر من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيماً رفيقاً، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبـه، ويتحرر من عبـودية الـدرهم والديـنار، ويحفـظه الله في نـفسـه ومـاله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعاً، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً، وأما من يُضحَّى عنه فلو أمسك لكان حسناً باعتباره يضحي في الأصل بأضحية وليّه، وإن لم يمسك فلا حرج عليه
وصايا في عشر ذي الحجة
ملخص الخطبة
1- التحذير من الغفلة. 2- الحث على الإكثار من قراءة القرآن. 3- فضل يوم عرفة. 4- فضل يوم النحر. 5- حكم صلاة العيد وشيء من أحكامها وآدابها. 6- من أحكام الأضحية.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فمن يتق الله يجعل له مخرجًا، اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، تمضي الأيام وتنقضي ونحن عنها غافلون، وعن الاستعداد ليوم المعاد لاهون، فهل نحن في هذه الحياة معمرون، أم نحن أبد الآباد خالدون؟! إن ضعفنا في العبادة وتكاسلنا عنها يدل على خلل في أنفسنا، لا بد من علاجه ومداواته، وإن القرآن لهو شفاء المؤمنين ورحمتهم، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا.
والقرآن هو الروح التي تحيا بها القلوب وتستعيد نشاطها به، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا، فأكثروا من قراءة القرآن ولا سيما في مثل هذه العشر المباركة؛ لعلكم أن تنالوا فضل آخرها، وتسعدوا بها في دنياكم وأخراكم.
عباد الله، ها هي أيام العشر قد أوشكت على الانتهاء، فماذا قدمنا فيها لأنفسنا؟! إن الله شرع في هذه العشر أعمالاً عظيمةً لا تجتمع في غيرها من أيام العام، والله قد فاضل بين الأيام لينشط المؤمن على العمل الصالح كلما زاد الفتور، جاء الزمان الفاضل، فينشط لعبادة ربه، ويتقوى على طاعته.
أيها المسلمون، إن في هذه الأيام العشر يومين هما أعظم أيامها وأشرفها وأجلها عند الله عز وجل، شرع فيها ما يشرع في بقية العشر من العمل الصالح.
أولها: يوم عرفة، صيامه يكفر سنتين: السنة الماضية والقادمة، والعمل الصالح فيه أحب العمل إلى الله، فأكثروا فيه من الذكر والصدقة والمعروف، واحذروا التفريط فيه، فإنكم لا تدرون أيعود مرة أخرى عليكم أم لا، والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاقل من استغرق أيامه في طاعة الله سبحانه.
وثاني هذه الأيام: يوم النحر، يوم الحج الأكبر، الذي يكمل المسلمون فيه حجهم، ويتقربون إلى الله بذبح قرابينهم، والتقرب إلى الله بصلاة العيد وذبح الأضاحي.
عباد الله، لا بد للمسلم أن يتنبه لعدد من الأمور في يوم العيد:
أولها: أن صلاة العيد واجبة، كما أفتى بذلك عدد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقول الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، ولأن النبي أمر النساء بالخروج إلى الصلاة حتى الحيّض، لكن يعتزلن المصلى، أمرهن بالخروج مع أن غير صلاة العيد بيوتهن خير لهن.
ووقت صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، ويسن تعجيلها، ويسن صلاتها خارج البلد، إلا إن وجد عذر من مطر أو برد أو نحو ذلك لفعل النبي .
ومن دخل المسجد لصلاة العيد فالسنة له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين، يبين فيهما أحكام الأضحية وشروط الأضاحي، ويحث الناس على تقوى الله والتزام أمره واجتناب نهيه، ولا يجب حضور الخطبة، فمن شاء جلس ومن شاء ذهب؛ لترخيص النبي .
ومن أحكام العيد أنه يسن للإنسان أن يتنظف ويغتسل ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب، ويمشي إليها بسكينة ووقار، ويكثر من ذكر الله وشكره وتعظيمه، ويتذكر بهذا اليوم يوم الحشر الأعظم إلى الله، فيحدث له ذلة وانكسارًا والتجاءً إلى الله سبحانه.
ومن أحكام الأضاحي أن لا يضحّي الإنسان إلا بعد الصلاة، لقوله : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد أخرى مكانها))، والأكمل أن لا يذبح إلا بعد الصلاة والخطبة؛ لفعله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل، وهدانا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا...
الحمد لله إليه، المرجع والمآب، أنزل على رسوله السنة والكتاب، وجعل فيهما الهداية لأولي الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المرجع والمآب، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن للأضحية أحكامًا ينبغي للمسلم أن يعمل بها، فمن ذلك أن من أراد الأضحية فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره ولا جلده شيئًا، لحديث أم سلمة في صحيح مسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره))، وفي لفظ: ((فلا يمس من شعره ولا بشره شيئًا حتى يضحي))، وإن نوى الأضحية في أثناء العشر أمسك من حين ينوي.
والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، وأما تخصيص الأموات بالأضاحي فليس من السنة؛ لأن النبي لم يضحِّ عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضحّ عن عمه حمزة، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، ولا عن زوجته خديجة، ولم يفعل ذلك أحد من أصحابه. بل ينبغي للمسلم أن يضحي عن نفسه، ويشرك فيها من شاء من الأحياء والأموات، أما الوصايا فتنفذ بمقتضى الوصية لقوله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عباد الله، أكثروا من التهليل والتكبير والتحميد في هذه العشر، فإنه سنة نبيكم محمد ، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون.
فضل عشر ذي الحجة
ملخص الخطبة
1- تنافس الناس على الدنيا. 2- حلول موسم عظيم. 3- غفلة بعض الناس عن مواسم الخيرات. 4- ما يستحب في العشر من ذي الحجة. 5- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.
تحل علينا هذه الأيام، أيام مباركات وذخائر نفيسات وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام عشر ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها تنويهًا بشأنها وإرشادًا لأهميتها: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2]، والتي قال عنها النبي كما في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)).
إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدّ والاجتهاد، فاحرصوا ـ يا مسلمون ـ على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن تدخل هذه الأيام والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا واجتاحتهم الغفلة واحتواهم الطمع.
إن الإنسان منا لينمّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبا! إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار بالنوم، وهم على أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبّهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجرى بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد لإقامته. فالغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما فرحوا لا مع خير، فكم فيكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنه قد حدا الحادي فلم يُفهم صوته من وقع الندم".
إخوة الإسلام، إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها، واعمروها بطاعة الله تعالى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف والطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات". قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
أيها الإخوة الكرام، يُستحب عمارة هذه العشر المباركة بالطاعات والأعمال الصالحة، ومن ذلك الصيام، فيسن صيام تسع ذي الحجة لأن النبي حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ((عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له))، قال النووي رحمه الله: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا". وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، ويعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصلَ له. وأما صوم يوم عرفة فهذا يتأكد صيامه لورود فضل خاص به كما في صحيح مسلم قال : ((يكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة)).
ومن أعمال هذه العشر التكبير، فيسن فيها التكبير والتحميد والتهليل لحديث ابن عمر في المسند: ((ما من أيام أعظم ولا أحب فيهن العمل من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))، ويستحب إظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات. قال في المغني: "قال القاضي: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان".
والتكبير في هذه الأزمنة صار من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به في مواضعه إحياء للسنة وتذكيرًا للغافلين، وقد ثبت في صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبّران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
ومن أعمال العشر أداء الحج والعمرة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ويستحب في هذه العشر الإكثار من الأعمال الصالحة مطلقًا كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء والصدقة والبر والصلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أعمال العشرة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ولا ينبغي للمسلم أن يدعها مع سعته وقدرته.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
الحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، ومن الأعمال الصالحة التي يجب المبادرة بها في هذه العشر وفي كل زمان التوجه النصوح والرجوع إلى الله والإقلاع عن المعاصي والذنوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم: 8]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]. والتوبة في هذه الأيام طريق للفوز والفلاح؛ لأنها من مواسم الخيرات، والنفوس فيها مقبلة وتباشر أعمالاً عظيمة كالصيام والتكبير والحج والأضحية.
فسارعوا ـ يا مسلمون ـ إلى التوبة الصادقة بالكف عن المحرمات والتحلل من المظالم ورد الحقوق والبعد عن الفواحش والمشاهد الخليعة، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ [القصص: 67].
إن التوبة إلى الله شرف العبد وعزه وكرامته، بها يسعد ويغنم، وبها يفرح ويربح، وإنها لباب عظيم من أبواب السعادة، تُنال بها الحسنات، وتُحطّ بها السيئات، ويتنزل بها الرزق، ويدوم الحظ والتوفيق، ويزول الشقاء والحزن. روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فسارع ـ أخي رعاك الله ـ إلى طاعة ربك بالتوبة والاستغفار وكثرة خصال الخير، فإنك في زمان المهلة، واحذر التسويف والتضييع، قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة))، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرضٍ فلاة)).
فالله ـ يا مسلمون ـ يفرح بتوبة عباده، وبرجوعهم إليه، فسارعوا في التوبة واغتنموا الزمان، واحذروا الغفلة والتأخير.
فيا من فكر في الحياة وتأمّل أحوال الناس وشاهد مصارعهم وشيع جنائزهم وعاش أفراحهم وأحزانهم، إلى متى تدخر التوبة؟! وإلى متى وأنت غافل عن الطاعة؟! وإلى متى وأنت في وضع غريب؛ تسارع في المعصية وتقهر في الطاعة ولا تحدث لله توبة؟! لقد سمعت المواعظ وتلوت القرآن، ورأيت هادم اللذات، فلِمَ تتقاعس عن إجابة الدعوة ولا تلبي النداء والخطاب؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم: 8].
يا مسلمون، إن وراءنا يوما ثقيلا عسيرا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أحكام عشر ذي الحجة
ملخص الخطبة
1- فضل الأيام العشر من ذي الحجة. 2- ما يشرع في هذه الأيام من الأعمال. 3- صفة العمرة.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات. ومن هذه المواسم أيام عشر ذي الحجة التي دخلتموها بفضل ربكم ونعمته، وهذه الأيام من أعظم الأيام عند الله يا عباد الله، ولا يخفى فضلها وشرفها إلا على أهل الغفلة والإعراض، أيام عظم الله فيها العمل وأجزل فيها الأجر، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فهذه الأيام أيام مباركة شريفة، قد نوه الله بها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، والمراد باليالي العشر عشر ذي الحجة، أقسم الله بها تعظيمًا لشأنها وتنبيها على فضلها.
ومما ورد في فضلها ما أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعنى العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)).
وهذه الأيام ـ يا عباد الله ـ يشرع فيها للمسلم أعمال ينبغي أن يحافظ عليها، ومن هذه الأعمال:
أولاً: أداء الحج والعمرة وهو أفضل ما يعمل، ويدل على فضله عدة أحاديث، منها قوله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج إلى الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ثانيًا: من الأعمال المشروعة في هذه العشر صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها، وبالأخص يوم عرفة، والصيام عمل مبرور وسعي مشكور، أهمله كثير من الناس، فتجد بعضا من المسلمين قد تهاون في هذه السُّنة العظمة، لا يصوم إلا شهر رمضان، أما صيام الاثنين والخميس أو الأيام البيض أو يوم عرفة فلا يصومها إلا من رحم ربي، وهذا جهل بعظيم الفضل ووافر الأجر. اسمعوا ماذا قال رسول الله في فضل الصيام، قال: ((ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)) متفق عليه. الله أكبر يا عباد الله. أما صوم يوم عرفة ففضله عظيم وأجره كبير، روى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)).
فأنت ـ أيها المسلم ـ إذ لم يتيسر لك الحج فعندك يوم عرفة، جعله الله لمن لم يحج غنيمة باردة، فلا يفوتنكم هذا اليوم يا عباد الله. أما الحاج فلا يصوم هذا اليوم كما ثبت في الحديث.
ثالثًا: من الأعمال المشروعة التكبير والتهليل والتحميد، لقوله تعالى: وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:27]، والأيام هنا العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه الإمام أحمد. وذكر البخاري رحمه الله أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. واليوم تدخل السوق والمسجد والدور والطرقات ولا تجد من يكبر أبدًا، وهذا جهل بالسنة وزهد في الأجر.
والتكبير ـ يا عباد الله ـ نوعان: مطلق يبدأ من دخول العشر إلى آخر أيام التشريق، ومقيد وهو الذي بعد الصلوات، يعني بعدما تصلي تكبر، وهذا يبدأ يوم عرفة بعد صلاة الفجر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
عباد الله، سنذكر كيفية الإحرام، فإذا أراد المسلم أن يحرم بعمرة أو حج فالمشروع له إذا وصل الميقات أن يتجرد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد من دهن وعود أو غيره في رأسه ولحيته لا في لباسه، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام، لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك. والاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء حتى النفساء والحائض؛ لأن النبي أمر أسماء بنت عميس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها وتستثفر بثوب وتحرم.
ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي ـ غير الحائض والنفساء ـ الفريضة إن كان في وقت فريضة أو يصلي نافلة كوتر أو الضحى، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أحرم، فإن كان عمرة قال: لبيك عمرة، وإن كان حجًا قال: لبيك حجًا، وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة ممتعًا بها إلى حج. وذهب البعض إلى أن الإحرام يكون بعد ركوب الدابة واستوائه عليها، وهذا هو اختيار شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
وإذا كان من يريد الإحرام خائفًا من عائق يعوقه عن إتمام نسكه فإنه ينبغي أن يشترط عند الإحرام فيقول عند عقده: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أي: إن منعني مانع عن إتمام نسكي من مرض أو تأخر أو غيرهما فإني أحل من إحرامي؛ لأن النبي أمر ضباعة بنت الزبير حين أرادت الإحرام وهي مريضة أن تشترط، وقال: ((إن لك على ربك ما استثنيتِ)). فمتى اشترط وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه فإنه يحل ولا شيء عليه.
وأما من لا يخاف من عائق يعوقه من إتمام نسكه فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي لم يشترط ولم يأمر بالاشتراط كل أحد، وإنما أمر به ضباعة بنت الزبير لوجود المرض بها.
وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصًا عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعًا أو ينزل منخفضًا أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار.
والتلبية مشروعة في العمرة من الإحرام إلى أن يبتدئ بالطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة يوم العيد. ولفظها ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). وله أن يزيد على ذلك مما ورد عن الصحابة، ومن ذلك ما نقله نافع قال: كان عبد الله بن عمر يزيد فيها: (لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء ـ أي: المسألة ـ إليك والعمل). وهناك صفات أخرى.
فإذا دخل المحرم المسجد الحرام قدم رجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. ثم يقدم رجله اليمنى ليبتدئ الطواف فيستلم الحجر بيده اليمنى ويقبله ويسجد عليه، فإن لم يتيسر تقبيله استلمه بيده وقبلها، فإن لم يتيسر استلمه بشيء معه وقبله بيده، فإن لم يتيسر فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده ولا يقبلها، والأفضل أن لا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم، لما في الحديث عن النبي أنه قال لعمر: ((يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم الناس على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر)).
ويقول عند استلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد . ثم يأخذ ذات اليمين ويجعل البيت عن يساره، فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل، فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه، ويقول بينه وبين الحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ولا يصح من الدعاء الثابت عن رسول الله في الطواف غير هذا، وأما تلك الكتب التي يدعو بها بعض الحجاج ويشترونها والتي فيها تحديد دعاء لكل شوط فهي لا تجوز؛ بل بدعة؛ فإن النبي حج وحج معه جم غفير ولم يحدد لهم مثل هذا.
وكلما مر بالحجر الأسود كبر، ويقول في بقية طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة القرآن، فإنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الطواف أعني الطواف أول ما يقدم ينبغي للرجل أن يفعل شيئين:
أحدهما: الاضطباع من ابتداء الطواف إلى انتهائه، وصفة الاضطباع أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد رداءه إلى حالته التي قبل الطواف؛ لأن الاضطباع محله طواف القدوم فقط.
الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطوات، وأما الأشواط الأربعة الباقية فليس فيها رمل وإنما يمشي كعادته.
فإذا أتم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ثم صلى ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بقل هو الله أحد بعد الفاتحة.
فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه إن تيسر له.
ثم يخرج المحرم إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]. ثم يرقى الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه على هيئة الدعاء، فيكبر ثلاثاً ويحمد الله، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يكرر ذلك ثلاث مرات ويدعو بين ذلك بما شاء.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا، فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضًا شديدًا بقدر ما يستطيع ولا يؤذي، فقد روي عن النبي أنه كان يسعى حتى ترى ركبتاه من شدة السعي ويدور به إزاره، وفي لفظ: وإن مئزره ليدور من شدة السعي. فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل المروة فيرقى عليها، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة إلى الصفا فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، فإذا وصل الصفا فعل كما فعل أول مرة، وهكذا المروة حتى يكمل سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر.
ويقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة، فإذا أتم سعيه سبعة أشواط حلق رأسه أو قصر إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة فإنها تقص من كل قرن أنملة. ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس، وكذلك التقصير يعم به جميع جهات الرأس، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة، إلا أن يكون وقت الحج قريبًا بحيث لا يتسع لنبات شعر الرأس فإن الأفضل التقصير ليبقى الرأس للحلق في الحج، بدليل أن النبي أمر أصحابه في حجة الوداع أن يقصروا للعمرة؛ لأن قدومهم كان صبيحة الرابع من ذي الحجة.
وبهذه الأعمال تمت العمرة فتكون العمرة: الإحرام ثم الطواف ثم السعي ثم الحلق أو التقصير، ثم بعد ذلك يحل منها إحلالاً كاملاً، ويفعل كما يفعله المحلون من اللباس والطيب وإتيان النساء وغير ذلك.
خطبة (عشر ذي الحجة والأضحية)
أما بعد .. نعيش وإياكم هذه الأيام، آخر موسم من مواسم الخير والرحمة .. أيام تضاعف فيها الحسنات، وتفتح فيها أبواب الرحمات، وتقال فيها العثرات .. يغفر الله فيها للمستغفرين، ويجيب فيها السائلين .
عشر ذي الحجة .. الأيام الفاضلة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه، فقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} فالليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة .
وقد أخبر النبي (عليه الصلاة والسلام) أن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله(عليه الصلاة والسلام) : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ (عليه الصلاة والسلام) : "أَفْضَلُ أَيَّامِ الْدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، يَعْنِي عَشْرُ ذِي الحْجَّةِ". أخرجه البزار وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وصححه الألباني .
فطوبى لعبد استقبل هذه الأيامَ بالتوبة الصادقة النصوح .. طوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح ، الذي يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة .
ومما يشرع في هذه الأيامِ المباركة، الصيام، فعن بعض أزواج النبي (عليه الصلاة والسلام) أنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام) يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أول اثنين من الشهر وخميسين) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وهذا الحديث وإن كان قد صححه الألباني، فقد ذهب بعض أئمة الحديث إلى أنه ضعيف، بل هو منكر بدليل ما جاء في مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله (عليه الصلاة والسلام) صائماً في العشر قطّ .. وعلى كل حال، هذا الخلاف العلمي في صحة الحديث وكون النبي (عليه الصلاة والسلام) صام أو لا، لا يؤثر على التشريع العملي، فقد اتفق العلماء على استحباب صيام العشر إلا يوم العيد لإنه لا يصام، فمن قال بعدم مشروعية صيام العشر كما يقول بعض أنصاف المتعلمين، فقد خالف إجماع العلماء .. يكفي أن النبي (عليه الصلاة والسلام) حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال .
وآكد هذه الأيام يوم عرفةَ، فيشرع صيامه لغير الحاج، فقد سُئِل النبي (عليه الصلاة والسلام) عن صومه فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) أخرجه مسلم في صحيحه .
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، فقد جاء في حديث ابن عمر رض أن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: (ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح) أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.
وأما التكبير فهو نوعان: الأول: تكبير مطلق، من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق .
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، في المساجد والمنازل والطرقات، يجهر به الرجال وتخفيه النساء، إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى، وهو لا يتقيد بمكان، في الأسواق وعلى الفراش والمجلس وأثناء المشي.. ولا يتقيد بزمان، ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً.. ولا يتقيد بحال، قائماً وقاعداً ومضطجعاً .
النوع الثاني: تكبير مقيد (يعني بعد الصلوات المكتوبات)، ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج، ويستمر إلى غروب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر .. وأما الحاج فإنه يشتغل حال إحرامه بالتلبية، فإذا شرع في التحلل يوم العيد أو ليلة العيد برمي جمرة العقبة شرع في التكبير، ويبدأ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر .
وهذا التكبير المقيد ليس فيه نص صريح عن النبي (عليه الصلاة والسلام) ، وفيه آثار عن الصحابة، واجتهادات للعلماء، والأمر فيه واسع .
وقد ذهب جماهير العلماء إلى استحبابه بعد المكتوبات المؤداة في جماعة، ومن صلى الفريضة منفرداً فيكبِّر كذلك عند مالك وأحمد.. وأما الصلوات النوافل فذهب جمهور العلماء إلى عدم استحبابه بعدها .
ومحل التكبير بعد الصلاة، قبل الأذكار، والأقرب أن يكبر بعد الاستغفار ثلاثاً وقوله (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)كما قرره ابن عثيمين رحمه الله.
عباد الله .. ألا وأن أعظم الأعمال في هذه الأيام المباركة ، وأجلَّها وأزكاها عند الله: حجُ بيت الله الحرام .. ركن الإسلام الخامس، وهو واجب على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، ووجوبه على الفور في أصح أقوال العلماء، ويحرم على القادر تأخيره .
وقد حذرنا النبي (عليه الصلاة والسلام) من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقد ثبت في المسند عن ابن عباس أن رسول الله (عليه الصلاة والسلام) قال : (تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
ابن حبان وصححه الألباني عن أبي سعيد الخدري أن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: (إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه ، ووسعت عليه في معيشته ، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) .
عباد الله..ومما يشرع في هذه الأيام المباركة: ذبح الأضاحي.
والأضحية هي: ما يذبح من بهيمة الأنعام في أيام الأضحى تقرباً إلى الله عز وجل، وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين:فذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة، وذهب الأوزاعي والليث وأبو حنيفة إلى وجوبها على القادر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختاره ابن تيمية، ومن أبرز أدلتهم قوله (عليه الصلاة والسلام): من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني، ولكن رجح الأئمة أنه لا يصح مرفوعاً، بل هو موقوف على أبي هريرة (رضي الله عنه ) .. والأقرب في حكم الأضحية والله أعلم أنها سنة مؤكدة، وهو اختيار شيخنا العلامة ابن باز واللجنة الدائمة، ومع هذا فالخلاف قوي، ولا ينبغي للقادر ترك الأضحية .
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها .. والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء كما كان رسول الله (عليه الصلاة والسلام) وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له. إلا أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذاً لها .. وإذا ضحى الرجل من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات .
والأفضل من الأضاحي جنساً: الإبل ثم البقر إن ضحى بها كاملة، ثم الضأن، ثم المعز، ثم سبع البدنة ثم سبع البقرة .
والأفضل منها صفة: الأسمن الأكثر لحماً الأكمل خلقة .
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك (رضي الله عنه ) أن النبي (عليه الصلاة والسلام) كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين .
أقول ما تسمعون، وأسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو، إنه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله..ومن الأحكام المتعلقةبالأضحية: شروط الأضحية.
ويشترط للأضحية ستة شروط:
أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها .
الثاني: أن تبلغ السن المحدود شرعاً بأن تكون جَذَعة من الضأن، أو ثَنِيَّة من غيره .. فالثَّنِي من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر: ما تم له سنتان. والثني من الغنم ما تم له سنة، والجَذَع: ما تم له نصف سنة .
الثالث: أن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء وهي أربعة: العور البين، المرض البين: وهو الذي تظهر أعراضه على البهيمة، العرج البين: وهو الذي يمنع البهيمة من مسايرة السليمة في المشي، الهزال المزيل للمخ، لقول النبي (عليه الصلاة والسلام) حين سئل ماذا يتقي من الضحايا:قال: «أربعاً: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى». رواه مالك في الموطأ من حديث البراء بن عازب، ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلها أو أشد، فلا تجزىء العمياء، أو المصابة بما يميتها من خنق وسقوط ونحوه، أومقطوعة اليد أو الرجل .
الشرط الرابع: أن تكون ملكاً للمضحي، أو مأذوناً له فيها.
الشرط الخامس: أن لا يتعلق بها حق للغير كالمرهونة .
الشرط السادس: أن تذبح في الوقت المحدود شرعاً وهو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة .
لما روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله وليس من النسك في شيء».
لكن لو حصل له عذر بالتأخير مثل أن تهرب الأضحية أو ينسى الوكيل، فلا بأس أن تذبح بعد خروج الوقت للعذر .
متى يتعين الحيوان أضحية؟
تتعين الأضحية بواحد من أمرين: إما باللفظ بأن يقول: هذه أضحية .. أو بالفعل وهو نوعان: أحدهما أن يذبحها بنية الأضحية، والثاني شراؤها بنية الأضحية إذا كانت بدلاً عن معينة .
وإذا تعينت الأضحية تعلقت بها أحكام الأضحية:
الأول: أنه لا يجوز التصرف بها بما يمنع التضحية بها من بيع وهبة ورهن وغيرها .
الثاني: أنه إذا مات بعد تعيينها لزم الورثة تنفيذها .
الثالث: أنه لا يستغل شيئاً من منافعها فلا يستعملها في حرث ونحوه، ولا يركبها إلا إذا كان لحاجة .
الرابع: أنها إذا تعيبت عيباً يمنع من الإجزاء بفعله أو تفريطه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل، أما إن تعيبت بلا تفريط منه فإنه يذبحها وتجزئه .
الخامس: أنها إذا ضاعت أو سرقت بتفريط منه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل، فإن لم يكن منه تفريط فلا شيء عليه .
السادس: أنها إذا تلفت بأمر لا صنع للآدمي فيه كالمرض فلا ضمان عليه، أما إن تلفت بفعل مالكها فيجب عليه أن يذبح بدلها على صفتها أو أكمل .
ماذا نفعل بالأضحية؟
ويشرع للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي، ويتصدق لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }.
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كلوا وأطعموا وادخروا». رواه البخاري، والإطعام يشمل الهدية للأغنياء والصدقة على الفقراء .
اختار بعض العلماء التثليث، أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث، والأمر في ذلك واسع .
ويحرم أن يبيع شيئاً من الأضحية لا لحماً ولا غيره حتى الجلد، ولا يعطي الجازر شيئاً منها في مقابلة الأجرة أو بعضها لأن ذلك بمعنى البيع.
وإذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وفي لفظ: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره». رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ: « فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً». ومن نوى الأضحية أثناء العشر أمسك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية .
وهذا الحكم خاص بمن يضحي (يعني مالك الأضحية)، أما من يضحَى عنه فلا يتعلق به المنع، وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا من شعورهم في أيام العشر .
وإذا عصى من يريد الأضحية فأخذ شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته فعليه أن يتوب إلى الله تعالى، ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية .
وإذا أخذ شيئاً من ذلك ناسياً أو جاهلاً، أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه مثل أن ينكسرَ ظفره فيؤذيَه فيقصَه، أو ينزلَ الشعر في عينيه فيزيلَه، أو يحتاجَ إلى قصه لمداواة جرح ونحوه.
فاتقوا الله يا عباد الله، وبادروا أعماركم بخير أعمالكم، وإياكم أن تشغلكم الدنيا عن طاعة ربكم ، فإن ذلك هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) .
اللهم صل على محمد ...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .... / اللهم آمنا في أوطاننا
اللهم من أرادنا / اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب /اللهم نسألك فعل الخيرات
ربنا آتنا في الدنيا حسنة ........
بدر راشد الدوسري
فضل عشر ذي الحجة
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكمه تنزيله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
إن الله تبارك وتعالى هو العزيز الحكيم، يصطفي من البقاع والأماكن ما يشاء، ويختار من الأزمان والأوقات ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
إن الله تبارك وتعالى اصطفى من البقاع البلد الحرام، فاختاره ليبنيَ فيه الخليل الأول إبراهيم عليه السلام البيت الحرام، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]. وجعل خير البقاع المساجد، واختار سبحانه المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فجعلها مهاجر رسوله ومقر أنصاره رضي الله عنهم. وفضل بيت الْمقدس فجعله منزل كثير من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومعرج خاتم أنبيائه ، وأخبر أنه بارك من حوله.
وربنا سبحانه اختار من الأزمان أوقاتًا فضلها على غيرها، ففضل من أيام الأسبوع يومكم هذا، واختاره تعالى لنقيم فيه هذه الصلاة، ولنجتمع فيه هذا الاجتماع المبارك على ذكره وحمده وعبادته سبحانه، فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، وقال النبي : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) رواه مسلم (854) عن أبي هريرة.
وفضَّل شهر رمضان على سائر الشهور، واختاره لينزل فيه كتابه الكريم، واختاره ليكون لنا فيه عبادة الصيام، فقال عز من قائل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
والحكمة من هذا التفضيل أن هذه الأوقات متعلقة بأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإسلام أعظم ما فيه، فأما الشهادتان فإنهما وإن كانتا يتلفظ بهما اللسان فإن منبعهما القلب، كما قال النبي : ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه)) رواه البخاري (99) عن أبي هريرة، وقال : ((من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة))، وقال مرة: ((دخل الجنة ولم تمسه النار)) رواه أحمد (21555) وأبو داود (3116) وابن ماجه (3796) عن جابر وعن معاذ.
ولذلك أخبر النبي أن القلب أفضل الأعضاء وأعظمها شأنًا، فقال: ((إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري (55) ومسلم (1599).
فأما يوم الجمعة فيتعلق بركن الصلاة وما أدراكم ما الصلاة. وأما شهر رمضان فيتعلق بركن الصيام. وأما ركن الزكاة فإن حكمة الله اقتضت أن لا يتعلق بزمان واحد أو مكان واحد؛ لأن حاجة الفقراء والمساكين لا تختص بيوم دون يوم ولا بمكان دون آخر، ولذلك جعل الله تعالى الزكاة متعلقة بالمال، فحيث ما حال الحول وبلغ النصاب وجبت فيه الزكاة. وأما ركن الحج فقد جعل الله تعالى أيامه خير الأيام على الإطلاق، فقد صح عن النبي أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) رواه البزار عن جابر بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى بإسناد صحيح ولفظه: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) وهو في صحيح الترغيب (1150).
ولعل السبب في كون هذه الأيام أفضل الأيام على الإطلاق هو أنها جمعت بين أركان الإسلام الخمسة:
فأما الشهادتان فإن أفضل الحج ((العج الثج)) كما قال ، والعج رفع الصوت بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك". والحج كله توحيد لله تعالى وتمجيد وتحميد وذكر له سبحانه وتعالى. والثج كثرة إهراق الدم بالقرابين.
وأما الصلاة فإنها من أعظم أعمال الحج، وقد رغب فيها النبي خاصة في أفضل بيوت الله تعالى وهو المسجد الحرام، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام)) رواه البخاري (1190) ومسلم (1394)، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه)) رواه أحمد (14847) وابن ماجه (1406).
وأما الصدقة فإن من أعظم سبل الصدقات الإنفاق في سبيل الله، والحج من أعظم سبيل الله تعالى، والنفقة فيه والصدقات من أعظم القربات عند الله تعالى، وقد قال الله تعالى في الحج: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وقال عز من قائل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، وأخبر رسول الله أن أجر الحاج يضاعف له على قدر نفقته. رواه البخاري (1787) ومسلم (1311) عن عائشة.
وأما الصيام فقد شرعه الله تعالى لمن لم يجد ثمن الهدي، فقال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196].
فلهذه الفضائل كلها كانت هذه الأيام أفضلَ أيام السنة على الإطلاق، ولذلك كان العمل والعبادة فيها خير وأفضل عند الله تبارك وتعالى، فعن ابن عباس عن النبي أنه قال: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه)) يعني أيام العشر من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري (969)، ورواه الدارمي (1774) بلفظ: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يُقدَر عليه. صحيح الترغيب (1148).
اعلموا ـ عباد الله ـ أن هذا الفضل الذي ذكره رسول الله لهذه الأيام المباركة ليس لمجرد الحكاية والتسلي، بل أخبر به النبي لنشمر عن ساعد الجد، ولنقبل على ربنا سبحانه بقلوبنا، بالتوبة والإنابة والاستغفار، والعزم على الطاعة ونبذ الكسل، والرجوع عن اتباع أهوائنا وشهواتنا، فإن الله تعالى جعل لنا مثل هذه الأيام ليعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان.
عباد الله، يقول الله عز وجل: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:123-125].
ثم إنه يجب أن يعلم أن الأعمال عند الله كثيرة متفاوتة، فالواجب أن يُبدأ بالأهم والأحب إلى الله تبارك وتعالى.
فأما الأحب إلى الله تعالى ففعل الواجبات قبل النوافل، وتقديم الأركان الخمسة على غيرها، روى البخاري (6502) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
وروى مسلم (1028) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم اليوم صائما؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
واعلموا أن أفضل الأعمال أعمال القلوب؛ تطهيرها من أدران الشرك والرياء والعجب، وتوجيهها نحو خالقها بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء، قال : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، وقال: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)).
لذلك كان أعظم الأعمال في هذه الأيام التهليل والتكبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد.
والمحك لمعرفة ثمرة هذا العمل هو حالك مع الخلق، فالإسلام يجمع بين الخضوع للحق سبحانه وبين الإحسان للخلق، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر [العنكبوت:45]. ولذلك ابتُدِئت الصلاة بالتكبير وختمت بالسلام، وقال الله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، وقال : ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أو قاتله أحد فليقل إني صائم))، وقال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من آمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) رواه أحمد (8712) والترمذي (2627) والنسائي (4995)، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل لرسول الله : كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال النبي : ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت)) رواه أحمد (3798).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا...
تعديل التعليق