عزوة بدر الجزء الرابع

د. ماجد بلال
1443/11/04 - 2022/06/03 08:46AM

خطبة غزوة بدر الجزء الرابع

ماجد بلال، جامع الرحمن بتبوك 4/11/1443ه

ما زلنا في أحداث غزوة بدر العظيمة، نأخذ الدروس والعظات والعبر، ونسترجع تاريخ الأمجاد وبطولاتهم.

ولما أصر أبو جهل على العناد والقتال والكبرياء التقى الجيشان وبدأت شرارة القتال، وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان رجلا شرسا سيء الخلق- خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه –أي قطعها- وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المبارزة:
وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، خرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» ، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز أكبرهم سناً عبيدة بن الحارث عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله؛ فلم يزل صامداً حتى مات بالصفراء بعد خمسة أيام وهم في طريقهم إلى المدينة.
وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم: قال تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19].

الهجوم العام:
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبا، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فقد أمرهم النبي  بالثبات فلم يتهوروا ولم يبرحوا مكانهم، بل ثبتوا وأخذو وضعية الدفاع، يتلقون هجمات المشركين المتوالية، يصدونها بقلوب الأسود، وهم مرابطون ثابتون كالسد والجدار المنيع في مواقعهم بسيوفهم ورماحهم، وهم يقولون قولة بلال: أحدٌ أحد، وجموع المشركين تصطدم بهذا الجدار المنيع وتتحطم وتتكسر، والمسلمون ثابتون يقول أحدٌ أحد.
الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يناشد ربه:
والنبي  في العريش يراقب المعركة و يناشد ربه ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال:
«اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» . وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. فأنزل الله البشرى بقتال الملائكة معهم.

 

نزول الملائكة:
وأغفى رسول الله  إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» (أي الغبار) . وفي رواية «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» . أي الغبار، ثم خرج رسول الله  من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

الهجوم المضاد:
ولما تكسرت قوة المشركين واستنفدوا طاقتهم، وذهبت سطوتهم، وأخذهم التعب والانهاك منهم كل مأخذ، والنبي  القائد العظيم يشرف على المعركة ويرى ذلك، أصدر إلى جيش المسلمين أوامره بالهجمة المضادة فقال: «شدوا» عليهم، وحرضهم على القتال، قائلا: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ، 

وكان المسلمون في قمة نشاطهم وقوتهم فقاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يعيثون بصفوف المشركين، ويقتّلونهم، وزادهم نشاطاً وحدةً أن رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول في حزم وصراحة (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة فكان يومئذ يطير رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتطير يده لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فإذا هو قد قتل فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة «1» » . وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح -والأجلح ناعم الشعر الذي ينسدل شعره من جانبيه- من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم» .
إبليس ينسحب عن ميدان القتال:
ولما رأى إبليس- وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت- فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فرّ ونكص على عقبيه، وتشبّث به الحارث بن هشام- وهو يظنه سراقة- فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جارٌ لنا، (لا تفارقنا)؟ فقال:
(إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب)، ثم فرَّ حتى ألقى نفسه في البحر.
الهزيمة الساحقة:
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون فريقاً ويقتلون فريقاً، حتى تمت الهزيمة للمشركين.
صمود أبي جهل:
أما الطاغية الأكبر أبو جهل، رأسُ الفتنةِ والمتسببُ الأكبرُ في هذه الهزيمة الشنيعة، على الرغم من مشاهدته للهزيمة والانساب للمشركين، مازال مصراً على عناده واستكباره حتى الرمق الأخير، وجعل يصيح في المشركين وهم ينسحبون: لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللَّات والعزّى، لا نرجع حتى نَقرِنَهُم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل منهم رجلا، ولكن خذوهم أخذا، حتى نُعرّفهم بسوء صنيعهم.
ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. وبقي حولَه عصابة من المشركين، شكّلوا حوله سياجا من السيوف والرماح، وجعلوا يرددون: (أبو الحكم لا يخلص إليه)، (أبو الحكم لا يخلص إليه). ولكن المسلمين بددوا هذا السياج وأقتحموه، وحينئذ ظهر الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين.
مصرع أبي جهل:
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أُخبِرتُ أنه يسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثله، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، فانطلقا عليه كالصقرين، فابتدراه بسيفيهما فضربه معاذ على ساقه فقطعها وطارت، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها «2» ثم مر بأبي جهل- وهو عقير- معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، 

، ثم انصرفا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ فقالا: لا، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السيفين، فقال: «كلا كما قتله»، أين شباب المسلمين من هذه البطولات من شباب الصحابة وفتيانهم!


بارك الله لك ولكم في القرآن العظيم .....

 

 

 

 

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً. أمَّا بَعْدُ..

 فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - 

ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ لا عار على رجل قتله قومه؟ ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود- وكان قد وضع رجله على عنقه- لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، ومازال الطاغية على الكبر والعناد حتى آخر لحظة في حياته، ثم احتزّ رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو» ؟ فرددها ثلاثا، ثم قال: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه» ، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: «هذا فرعون هذه الأمة» .
قتلى الفريقين:
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمشركين، وفتح مبين للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، فقط ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» ، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب خبيث من قلبان بد، والقليب البئر القديمة.
فأقام النبي  ثلاث ليال ببدر فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة القليب، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، «يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» ؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون».
صلوا وسلموا ......

المرفقات

1654245921_خطبة غزوة بدر الكبرى الجزء الرابع ماجد بلال.docx

1654245961_خطبة غزوة بدر الكبرى الجزء الرابع ماجد بلال.pdf

المشاهدات 290 | التعليقات 0