عزة المؤمن

هلال الهاجري
1443/04/26 - 2021/12/01 03:32AM

الحمدُ للهِ الذي أَكرمَنا بالإسلامِ، وأَعزَّنا بالإيمانِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، جَعلَ السعادةَ فيمن أطاعَه واتَّبعَ رِضاهُ، وجَعلَ العَزَّةَ والكَرامةَ لمن خَافَهُ واتَّقاهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا وحَبيبَ قُلوبِنا محمدًا رسولُ اللهِ، وخَليلُه من خَلقِه ومُصطفاهُ، فَازَ ورَبِحَ من اتَّبعَ سُنتَه وهُداهُ، وخَابَ وخَسِرَ من خَالفَهُ وعَصاهُ، اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ عَليهِ وعلى آلِه وصَحابتِه، واجعلنا مِن رُوَّادِ حَوضِهِ وأَهلِ شَفاعتِهِ، أما بعدُ:

ها هيَ غزوةُ أُحدٍ تَحُطُّ رِحالَها، وها هو الغبارُ يَكشفُ أَطلالَها، فنرى رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قد شُجَّتْ جبهتُه، وكُسِرتْ رُباعيتُه، وجُرِحتْ شَفَتُه، ودَخلتْ حَلَقاتُ المِغفرِ في وَجنَتِه، ونرى على الأرضِ سبعينَ من خِيرةِ صحابتِه، قَد مُثِّلَ بِهم فَقُطِّعتْ منهم الأنوفُ والآذانُ، وبُقرتْ منهم البطونُ، بينَهم سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِالمطلِّبِ رَضيَ اللهُ عنه، ونرى من الرُّماةِ من تَركَ مكانَه وعَصى، ونرى من الجنودِ من تركَ أرضَ المعركةِ وتولَّى، ومن ثَبتَ من الصَّحابةِ، منهم من استُشهدَ ومنهم من جُرحَ، فكانَ يوماً على المسلمينَ عظيماً، حتى قالَ قائدُ المشركينَ يومئذٍ أبو سفيانَ: ( يَومٌ بيَومِ بَدرٍ، والحَربُ سِجالٌ).

ولكنَّ العَجيبَ أنَّه لمَّا نزلتْ آياتُ سورةِ آلِ عِمرانَ في غزوةِ أُحدٍ، كانَ فيها: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فسبحانَ اللهِ، إنَّها واللهِ رسالةٌ ربَّانيةٌ أنَّ أهلَ الإيمانِ هم الأعلى والأعزُّ حتى مع الهزيمةِ، ومع الضَّعفِ، ومع تسلُّطِ الأعداءِ، فالمؤمنُ عزيزٌ بربِّه، عزيزٌ بدينِه، عزيزٌ بثباتِه على عقيدتِه.

ولذلكَ لمَّا قالَ أبو سفيانَ: أُعْلُ هُبَلْ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوه؟، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟، قالَ: قُولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ، فَقالَ أبو سُفيانَ: لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوه؟، قالَ: قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟، قالَ: قُولوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ.

 ألا ترونَ إلى المستضعفينَ من المسلمينَ في مكةَ، وهم يُعذَّبونَ أشدَّ العذابِ، فهناكَ عمَّارُ بنُ ياسرٍ وأبوهُ وأمُّه، وهناكَ بلالُ بنُ رباحٍ، وهناكَ خبَّابُ بنُ الأرتِّ، ومع ذلكَ كانوا أعزَّةً، ثابتينَ على الحقِّ، حتى عَجزَ عنهم صناديدُ قُريشٍ، وأصابتهم الهَزيمةُ النَّفسيةُ والذُّلٌ بسببِ يأسِهم من صدِّهم عن دينِهم وعَقيدَتِهم، وصدَقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ حينَ قالَ: (عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).

عِزَّةُ المؤمنِ هيَ التي جَعلتْ خُبيبَ بنَ عدِيٍّ يقفُ شامخاً عزيزاً أمامَ كُفَّارِ قُريشٍ، يُصلي ركعتينِ قبلَ مَقتلِه، وَيَقولُ: واللهِ لَولا أَن تَظنُّوا إنَّما طَوَّلتُ جَزَعًا من القَتلِ لاستَكثَرتُ من الصَّلاةِ، ثُمَّ قالَ قبلَ أن يُصلبَ:

ولَستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ شِقٍّ كانَ للهِ مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ على أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلتْ أصحابَ الأخدودِ، لا يُبالونَ بنارِ الملكِ العظيمةِ التي قد ملأتِ الأخاديدَ في الطُّرقاتِ، فيُرمى بعضُهم أمامَ بعضٍ، ويُحرقُ بعضُهم أمامَ بعضٍ، وهم في ثباتٍ على الدِّينِ والإيمانِ، حتى تأتي أمرأةٌ ومعها طفلٌ صغيرٌ، فتقاعسَتْ عن الوُقوعِ فيها خوفاً على صَغيرِها، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِرِي فإنَّكِ علَى الحَقِّ.

 عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلَتْ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ رحمَه اللهُ يقفُ موقفَ الجبالِ الرَّسخاتِ، أمامَ فِتنةِ خلقِ القرآنِ، معَ ما تَعرَّضَ لهُ من السِّجنِ والجَلدِ، حتى أصبحَ إماماً لأهلِ السُّنةِ والجَماعةِ، وهي التي جعلتْ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ يَقولُ: (مَاذا يَفعلُ بي أَعدائي، إنَّ سِجنيَ خَلوةٌ، ونَفييَ سِياحةٌ، وقَتليَ شَهادةٌ).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بالآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، العزيزِ المَلكِ الحقِّ المُبينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ، كَانَ عَزيزاً بربِّهِ، وعَلَّمَ أُمَّتَه العِزةَ، ورَضيَ اللهُ عن أَصحابِه، الذين وصفَهم اللهُ تعالى بقولِه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)، أما بعدُ:

أيُّها الأحبَّةُ .. عندما يكونُ الدِّينُ ظاهراً قويَّاً، تَجدُ الكثيرَ من النَّاسِ يتظاهرونَ بهِ، يلتمسونَ القُوَّةَ والعِزَّةَ، ولكنْ عندما يَضعفُ سُلطانُ الدِّينِ، تنكشفُ الأقنعةُ، ويكثرُ السُّقوطُ، ولا يثبتُ إلا أهلُ الإيمانِ، الذينَ لا يتغيَّرونَ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، لأنَّ اللهَ تعالى ربطَ العزَّةَ بوصفِ الإيمانِ، فقالَ سُبحانَه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فمتى وُجِدَ الإيمانُ، وُجِدَتْ العِزَّةُ، (وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، وحيثُ أنَّ المنافقينَ لا يعلمونَ، فإنَّهم يبحثونَ عن العزَّةِ في أَكنافِ الكافرينَ، كما قالَ تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

فالدِّينُ مَنصورٌ، والإسلامُ ظاهرٌ، وعدُ اللهِ حقَّاً، ولكنْ هل يا تُرى سنكونُ يومئذٍ في طائفةِ العزِّ والنَّصرِ؟، اسمعوا إلى الفاروقِ عمرَ وهو يَقولُ: (نحنُ قَومٌ أَعزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فمَهمَا ابتغينا العزَّةَ في غَيرِهِ أَذلَّنا اللهُ)، وصدقَ رَضيَ اللهُ عنه، فلن تَجتمعَ حَضارةٌ وذِلَّةٌ، وإنما حضارتُنا تنتظرُ اعتزازَنا بدينِنا ولغتِنا وتاريخِنا.

اَستَرشَدَ الغَربُ بالمَاضي فَأرشَدَهُ *** ونَحنُ كَانَ لَنا مَاضٍ نَسينَاهُ

اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَقمْ من مَجدِهم مَا تَهدَّمَ، وَصِلْ من حَبلِهم مَا تَصرَّمَ، واَهدِهم صِراطَكَ الأقوَمَ، اللهم إنَّا نَسألُكَ أن تَردَّنا إلى الحقِّ رَدًا جَميلاً، اللهمَّ لا تؤاخذنا بما فَعلَ السُّفهاءُ مِنَّا، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ أن تُطهَّرَ قُلوبَنا، وأن تُحصَّنَ فُروجَنا، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى، اللهمَّ إنا نَسألُكَ أن تُحاربَ من حَاربَ الفَضيلةَ، اللهمَّ كُفَّ أَيديَهم، واقطعْ دَابرَهم، وأَخرسْ ألسنتَهم، وشُلَّ أَيديَهم يا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ أَصلحْ أَئمتَنا ووُلاةَ أُمورِنا، وآمنا في أَوطانِنا ودُورِنا، واجعلْ ولايتَنا فيمن خَافكَ واتَّقاكَ واتَّبعَ رِضاكَ يا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ نَسألُك الأمنَ والإيمانَ في بلادِنا وبلادِ المسلمينَ، اللهمَّ من أرادَ بِلادَنا بسُوءٍ فأَشغلهُ في نَفسِه، ورُدَّ كَيدَه في نَحرِه، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ عِزَّةَ الإيمانِ، والثَّباتَ على الإسلامِ، يا رَحيمُ يا رَحمنُ.

المرفقات

1638329491_عزة المؤمن.docx

1638329628_عزة المؤمن.pdf

المشاهدات 2284 | التعليقات 1

جزاك الله خير الجزاء 

وجعلها الله في ميزان حسانتك 

شيخنا المبارك 

موفق ومسدد ومعان