عروض رمضانية 1

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/08/29 - 2017/05/25 10:15AM

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الأخوة في الله

لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى حسب ما روي عنهم أنهم كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر كي يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى كي يتقبله منهم، فلماذا يا ترى كانوا يدعون الله تعالى هذه المدة الطويلة؟ ولماذا كل هذا الحرص على بلوغ شهر رمضان؟ أليس رمضان ركن من أركان الإسلام شأنه شأن الصلاة والزكاة والحج؟

لعل هناك سرا علمه أولئك السلف وجهلناه، فحرصوا عليه ونحن بقينا على جهلنا وغفلتنا، أقول لعل السر في دعاءهم تلك المدة الطويلة هو ما سمعوا وعلموا عن عروض عظيمة تُقدّم في رمضان، عروض ربانية يقدمها الله تعالى لعباده في رمضان، فدعونا نتعرف على تلك العرو؛ض لعلنا نصبح مثلهم فندع الله تعالى بصدق أن يبلغنا رمضان، ثم ندعوه ستة أشهر أن يتقبله منا.

فأول فائدة من معرفة العروض الرمضانية لعلها تشحذ الهمم في نفوسنا فنشتاق لرمضان ونفرح لقدومه، وكذلك لنزداد طاعة إلى نهاية شهر رمضان، لأنه يوجد شريحةٌ من الناس ينشطون في العبادة في أول رمضان ثم فجأة يفترون عن الطاعة في أوسطه وآخره، فإننا نرى المساجد تزدحم في أول الشهر ثم يتناقص عدد المصلين بعد العشر الأول، فلو كان هؤلاء يعلمون ماذا يقدم لهم رمضان من عروض وأجور ما أصابهم هذا الفتور.

فماذا يُقدّم لنا في رمضان من عروض؟
تتنافس العروض فيما بينها في رمضان، ويفرح الناس بهذه العروض، فهناك عروض ربانية وعروض تجارية وعروض فسقية يتولى كبرها بعض بل أكثر وسائل الإعلام، فدعونا نتحدث عن بعض العروض الربانية.

العرض الأول: أنك إذا صليت مع الإمام التراويح حتى ينصرف يكتب لك ثواب قيام ليلة كاملة، حيث روى أبو ذر –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) رواه الترمذي، فبعض الناس يصلي فريضة العشاء ثم يصلي تسليمة أو تسليمتين ثم يستعجل الخروج ليس لأمر مهم وإنما لأنه يريد متابعة مسلسل أو أي شيء تافه، مفوتا عليه أجرا عظيما.

بينما رغب النبي –صلى الله عليه وسلم- في قيام ليالي رمضان فقال: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه، فالقضية تحتاج إلى احتساب الثواب والمشقة، ولو تأملنا سبب ورود حديث أبي ذر السابق لعلمنا حرص الصحابة رضي الله عنهم على قيام الليل، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قام الليل في المسجد لعدة ليالي من ليالي رمضان (أي صلى التراويح)، فصلى خلفه جمع كبير من الصحابة، فخشي –صلى الله عليه وسلم- أن تفرض عليهم هذه الصلاة فتوقف فقالوا هلا نفلتنا لبقية الليل؟
فقال –صلى الله عليه وسلم- مقولته تلك (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، فالذي يصلي مع الإمام لمدة نصف ساعة أو نحو ذلك، يكتب لك ثواب قيام الليل كله، سواء صلى الإمام أربع تسليمات أو خمس أو عشر تسليمات فالكل جائز لأن صلاة الليل مثنى مثنى، فحري بنا أن نفرح بقدوم رمضان ونجاهد أنفسنا لنصلي التراويح ولا نفوتها، فصلاة التراويح أصبحت سمة لرمضان يعرف به، فمن لم يصل التراويح لا يحس بطعم رمضان.

ثم تأمل أن من صلى العشاء والفجر في جماعة كتب له قيام ليلة، فإذا صليت التراويح كاملة مع الإمام كتب لك قيام ليلة أخرى.

العرض الثاني من عروض رمضان التي جعلت السلف يفرحون بقدوم رمضان ويدعون الله تعالى ستة أشهر كي يبلغهم إياه، أن الصيام سوف يثقل ميزانهم يوم القيامة، فهو لا عدل له، وهو العمل الوحيد الذي جاء النص فيه بأن المسلم يفرح به يوم القيامة، فما سر ذلك الفرح يا ترى؟

لعل فرحهم به لما يرون فيه من الثواب العظيم الذي لا عدل له كما قال عنه –صلى الله عليه وسلم-، فدعونا نسرد بعض الأحاديث الواردة في ذلك:

فعن أبي أمامة –رضي الله عنه- أنه سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل؟ قال: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) أي كأنه يقول أنه لا يعدله عمل ولا يكافئه ثواب، فهو مما يثقل ميزان العبد يوم القيامة.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، قال الله عز و جل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) رواه مسلم.

أما معنى قوله (إلا الصوم فإنه لي) مع أن كل الأعمال لله تعالى قال العلماء إلا الصوم فإنه خالص لله لأنه:
(1) لا يطلع عليه أحد غير الله.
وقيل
(2) لأن العبد تخلق بوصف من أوصاف الله جل جلاله أنه لا يأكل ولا يشرب فهو صمد.
(3) لأنه لم يُعبد به غير الله، فلم تعظم الكفار في عصر قط آلهتهم بالصوم، وإنما كانوا يعظمون تلك الآلهة بالسجود وتقديم القرابين والنذور والصدقة لها والطواف حولها.
(4) لأن الصوم عبادة خالية من السعي وإنما هي قائمة على الترك المحض.

العرض الثالث من عروض رمضان التي جعلت السلف يفرحون بقدوم رمضان ويدعون الله تعالى ستة أشهر كي يبلغهم إياه أن الصيام سيشفع لصاحبه، فقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان) رواه الإمام أحمد والحاكم.

فكثير من الناس يحرصون على توطيد العلاقة مع أكبر عدد ممكن من الأصدقاء والوجهاء، لينتفعوا بوجاهتهم ومناصبهم في تسهيل أمرهم إذا ألجأتهم الحاجة إلى دائرة حكومية أو غيرها، ألا ينبغي أنْ يكون الحرص على التعرف على الشفعاء الذين سيكون لهم وجاهة في الآخرة، ليشفعوا في أصعب وأخطر المواقف التي ستمر على البشرية جمعاء؟
فإن الشفعاء يوم القيامة كُثُر ومنهم الصيام فإنه سيشفع لصاحبه، ألا يستحق ذلك منا أن نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان؟
بلا والله، ولا أن تسأله مرة واحدة، وإنما مرات عديدة، بل ولستة أشهر كما كان السلف يفعلون.

نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان وأن يجعلنا ممن يصومه إيمانا واحتسابا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله دائم الفضل والإحسان، أنعم علينا بشهر الصيام، وجعله أحد أركان الإسلام، وأجزل فيه لعباده العطاء والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أنه حل علينا ضيف كريم وركن عظيم من أركان الإسلام، إنه شهر رمضان، شهر المغفرة والرضوان والعتق من النيران، شهر كله أجور وفضائل مما جعل السلف يدعون الله تعالى كثيرا أن يبلغهم رمضان، وإذا انتهى رمضان دعوا الله نصف عام كي يتقبله منهم لما في هذا الشهر الكريم من أجور عظيمة وعروض لا توجد في غيره، وقد ذكرت لكم ثلاثة عروض وفضائل، وأما العرض الرابع: من عروض رمضان التي جعلت السلف يفرحون بقدوم رمضان ويدعون الله تعالى ستة أشهر كي يبلغهم إياه أن صيامه يرفع العبد أعلى درجات الجنان، وشاهد ذلك ما رواه طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ –رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ الآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنْ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: (مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ)؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً) قَالُوا بَلَى قَالَ: (وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ)؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- (فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) رواه ابن ماجه.

ومعلوم أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فكل رمضان تصومه يرفعك الله به درجة أبعد ما بين السماء والأرض، ألا يستحق ذلك منك أن تسأل ربك أن يبلغك رمضان؟ بلا والله، ولا أن تسأله مرة واحدة وإنما مرات عديدة، بل ولستة أشهر كما كان السلف يفعلون.

نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان وأن يعيننا على صيامه وقيامه وأن يكون شاهدا لنا لا علينا،
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
المشاهدات 1030 | التعليقات 1

رائعة .. رحم الله الشيخ محمد النعيم, وجمعنا به في جنته.