عرفه ويوم النحر
أنشر تؤجر
إنَّ الحمدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ ، ونستعينُهُ ، ونستغفِرُهُ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا ، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ ، وَخَلِيلُهُ – صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا .
أمَّا بَعْد : عِبَادَ اللهِ : إننا لَاْ نَزَالُ نَتَقَلَّبُ فِي َهِذَهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ الَّتِي عَظَّمَ اللهُ شَأْنَهَاْ ، وَرَفَعَ مَكَاْنَتَهَا ، أَلَا وَهِيَ أَيَّامُ عَشْرِ ذِيْ الْحِجَّةِ ، تِلْكَ الْأَيَّامُ الفَاْضِلَةُ الَّتِيْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْعَمَلَ الصَّاْلِحَ فِيْهَاْ أَحَبُّ إِلَىْ اللهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيْ غَيْرِهَا ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ » يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّه ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ :« وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ » رَوَاهُ أَحْـمَدُ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ .
ولقد جعل الله لذكره فضلاً عظيماً في هذه العشر ، وهذا من رحمته سبحانه بعبادة ، لأن الذكر عبادة سهلة ، ولا يحرم منها إلا محروم.
ولذلك فإن الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام ووقته يبدأ في هذه العشر ، مقصوده الأعظمُ : ذكرُ اللهِ تعالى وتوحيده أي : إفرادُه بالعبادة }: لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ { .
فالذكرُ هوَ من مقاصد الحج ، كما رُوِيَ عنِ النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: " إنّمَا جُعِلَ رميُ الجمار ، والسعيُ بينَ الصفا والمروة لإقامةِ ذكرِ الله ". رواه أبوداود والترمذي .
والحاجُ يتنقلُ بينَ البيتِ الحرام ، وثرى منى ، وصعيدِ عرفات ، والمشعرِ الحرام ، والذكرُ معَه في كلّ مشعر من المشاعر المقدسة ، قال الله تعالى :} فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ {.
وكمَا ترتجُّ المشاعرُ المقدسةُ بالتلبية ، فسائرُ أمصارِ الإسلامِ ترتجُّ بالتكبير ، اغتنامًا لقولِه صلى الله عليه وسلم ": مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ." رواه الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيح.
فمنْ أرادَ أنْ ينالَ محبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ فليلهجْ بذكرِه ، فالذكرُ بابُ المحبةِ ، وطُريقها الأقوم ، كَمَا يقولُه الإمامُ ابنُ القيمُ رحمَه اللهُ تعالى .
أيها المؤمنون : إذا كانتِ القلوبُ تشتاق ُلوقفةٍ على صعيدِ عرفات ، والعبراتُ تخنقُ النفوسَ لفوتِ تلك الوقفة ، فالعزاءُ أنَّ يومَ المباهاةِ ليسَ لأهلِ الموقفِ دونَ أهلِ الأمصارِ ، فرحمةُ اللهِ واسعة ، ومننُ الرحمنِ في ذلك اليومِ تشملُ الجميع ، ويومُ عرفةَ وهو ركن الحج الأعظم ، أَكْمَلَ اللهُ فِيْهِ الْدِّيْنَ ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نعْمَته ؛ ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا من اليهود ، قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أي آية ، قال :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا }
قال عمر رضي الله عنه :( قد عرفنا ذلك اليوم و المكان الذي نزلت فيه ، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة ).
ويَوْمُ عَرَفَةَ يومٌ تُغْفَرُ فيه الزَّلَاْتُ ، وَتُكَفَّرُ الْسَّيِّئَاتُ ، وَيَعْتِقُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَاْءَ مِنْ عِبَاْدِهِ مِنَ الْنَّارِ ، فيعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار ، كما قال ابن رجب رحمه الله تعالى ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟". رَوَاهُ مُسْلِمُ .
فيا أخي المبارك : إنْ حالتِ الأعذارُ بينَك وبينَ الوقوفِ بعرفةَ فقمْ للهِ بحقِّه منَ الصيامِ والدعاء ، كيفَ وقدْ قالَ صلى اللهُ عليه وسلم :" صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" . رواه مسلم .
فيا له من عمل صالح يسير ، يؤديه المسلم في وقت قصير ، يحوز بعده مغفرة السنة الماضية والسنة المقبلة من ذنوبه وسيئاته ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ؛ فاحرصْ يا أخي المبارك على ألّا يفوتكَ هذا الفضل ، وحث أهل بيتك من زوجة وأبناء على صيامه .
وَمن فجر يوم عرفة يَشَرَّعَ الْتَّكْبِيْرُ الْمُقَيَّدُ اْلَّذِيْ يَكُوْنُ بَعْدَ الْصَّلَوَاْتِ الْمَكْتُوْبَةِ ، فبعد ما يقول المسلم : استغفر الله استغفر الله استغفر الله ، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، يَرْفَعُ صْوَتَهُ بالتكبير ، وَمن صِفَتُهُ أَنْ يَقُوْلَ :" اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَاْ إِلَهَ إَلَّا اللهُ ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ ، وَ للهِ الْحَمْدُ ".
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ ، وَلِـجَمِيعِ الْمُسْلِمِـيـنَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ ، إنه هو الغفور الرحيم .
الخُطْبةُ الثَّانيةُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ ، وَخَلِيلَهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .
عِبَاْدَ اللهِ : بَقِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّاْمِ الْمُبَاْرَكَةِ يَوْمُ الْنَّحْرِ ؛ الَّذِيْ هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تَعَاْلَىْ ، وَسَمَّاْهُ : يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، قَاْلَ تَعَاْلىَ :( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )
وَهو يوم عِيْدً الأضحى َيَفْرَحُ الْمُسْلِمُوْنَ بِهِ فِيْ شَتَّىْ بِقَاْعِ الْأَرْضِ ؛ ويَتَقَرَّبون فيه إِلَىْ رَبِّهِمْ بِذَبْحِ ضَحَاْيَاْهُمْ اِتِّبَاْعًا لِسُنَّةِ الْخَلِيْلَيْنِ مُحَمْدٍ وَإِبْرَاْهِيْمَ - عَلَيْهِمَا الْصَّلَاْةُ وَالْسَّلَامُ - فَالْأَضَاْحِيْ ـ عِبَاْدَ اللهِ ـ شَعِيْرَةٌ عَظِيْمَةٌ ، وَسُنَّةٌ قَوِيْمَةٌ ؛ قَدْ وَرَدَ الْفَضْلُ الْعَظِيْمُ لِمَنْ أَدَّاهَاْ .
ومما ينبغي أن يحرص عليه المسلم صلاة الْعِيدِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إِلَيهَا ، وَدَاوَمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيهَا ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا فِي عِيدٍ مِنَ الأَعْيَادِ ، حَتَّى أَنَّهُ أَمَرَّ بِخُرُوجِ : النِّسَاءِ ، وَالْعَوَاتِقِ ، وَذَوَاتُ الْخُدُورِ ، وَالْـحُيَّضِ ، وَأَمَرَ الْـحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ الصَّلاَةَ ، وَيَشْهَدْنَ الْخَـيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيهَا ؛ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – ولْنَتَزَوَّدْ مِن خَيرِ الأعمال في أَعظَمِ الأَيَّامِ ، فَاِسْتَكْثِرُوا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِـحَاتِ ، وَسَلُوا اللهَ الْقَبُولَ وَالتَّمَامِ .
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعِيْنَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ.
اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين .
اللَّهُمَّ آمنا في دورنا وأصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى .
اللهمّ سلّمِ الحجّاجَ وأتمَّ عليهم حجَّهم، وردَّهم سالمين، وتقبّلْ منّا ومنهم برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يَصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1718281948_عرفة ويوم النحر مختصرة.docx