عذراً أيتها العباءة
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) .. أما بعد:
كانتْ بدايةُ القِصَّةِ عندما نزلَ قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)، وقولُه تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، فانقلبَ الرِّجالُ إلى النِّساءِ يَتلونَ عَليهنَّ ما أَنزلَ اللهُ من الآياتِ، فيتَلو الرَّجلُ على امرأتِه وابنتِه وأُختِه، وعلى كُلِّ ذِي قَرابتِه، فما منهنَّ امرأةٌ إلا قَامتْ إلى مِرطِها المُرحَّلِ فاعتجرتْ به -أيْ: غَطَّتْ رأسَها ووَجهَها- تَصديقاً وإيماناً بما أَنزلَ اللهُ من كتابِه، فأَصبحنَ وَراءَ رِسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ مُعتَجِراتٍ، كَأنَّ على رُؤرسِهنَّ الغِربانُ.
فهل رأيتُم يوماً غُراباً أبيضَ، أو أخضرَ، أو غُراباً مُخطَّطاً، أو مُزركشاً، أو مُطرَّزاً، أم هو الأسودُ بل الأسودُ الخالصُ الخالي من الزِّينةِ والألوانِ والنُّقوشِ، لِباسُ الحِشمةِ والوَقارِ والاحترامِ، منذُ عهدِ الصَّحابياتِ الجليلاتِ، إلى عصرِ المؤمناتِ الصَّالحاتِ، تحقيقاً لقولِه تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
لو سألناكم أيُّها الأحبابُ، ما هي الحكمةُ من فرضِ الحجابِ؟ .. فلن يختلفَ اثنانٌ في الجوابِ: هو عبادةٌ وحياءٌ، هو طَهارةٌ ونقاءٌ، هو سِترٌ وصفاءٌ، فيه حِفظٌ لكرامةِ المرأةِ وصِيانةٌ للعِرضِ، من طَمعِ الفُسَّاقِ والذي في قلبِه مَرضٌ، وهو أيضاً حِفظٌ للرَّجلِ مِن النَّظرِ الحَرامِ ، وخَطرِ الوقوعِ في الفِتنةِ والآثامِ.
وهذا هو الشُّعورُ الذي ينتابُ الرَّجلَ عندما يرى امرأةً قد كسَتها العباءةُ الشَّرعيةُ السَّوداءُ، وسَتَرتْ رَأسَها ووجهَها بالخِمارِ الخَالي من الزِّينةِ والغِطاءِ، فإن كُانَ مُسلماً فحتماً سَيُصيبُهُ شُعورُ العِزَّةِ والفخرِ والإباءِ، ومن كانَ في قلبِه مرضٌ فسيرمي ببصرِه إلى الأرضِ أو يرفعُ طرفَه إلى السَّماءِ، ولسانُ حالِه يقولُ:
حُورٌ حرائرُ ما هَمَمْنَ بِريبةٍ ** كَظِبَاءِ مَكَّةَ صَيدَهنَّ حَرامُ
ولكن ألا تعجبونَ من الهجمةِ الشَّرسةِ على عباءِة المرأةِ في كلِّ زمانٍ وحينٍ، ألا تُلاحظونَ الاستهزاءَ والسُّخريةَ وهَمزَ اللِّسانِ ولمزَ العَينِ .. ولكن سِرعانُ ما يزولُ العَجبُ إذا عَلمنا أنَّ العباءَةَ هي حاجزُ العفافِ الأولُ، وبسقوطِها تسقطُ المرأةُ صانعةُ الجيلِ الأمثلِ، وتنهدمُ الأممُ ويزولُ مجدُها وتُخذلُ، تَقولُ المُستشرقةُ الفرنسيةُ (فرانسواز سَاجان): أَيتُّها المرأةُ الشَّرقيةُ، إنَّ الذينَ يُنادونَ باسمِكِ، ويَدعونَ إلى خَلعِ حجابِكِ ومُساواتِكِ بالرَّجلِ، إنَّهم يَضحكونَ عليكِ، فقد ضَحكوا علينا مِنْ قَبلُ، وصَدقَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ).
فعُذراً أيتُها العباءةُ .. فلا عجبَ أن تُحاربي في أوروبا، ولا غرابةَ أن يُستهزأَ بك في أمريكا، ولكنَّ المُحزنَ المؤلمَ هو التَّشويهُ الذي أصابَك في بِلادِ الإسلامِ، والجَفاءُ الذي قابلكِ به الأهلُ والأرحامُ.
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً *** عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
عُذراً أيتها العباءةُ .. فلا زالَ يشنُّ عليكِ المنافقونَ في كلِّ زمنٍ حرباً، ويتجمعونَ مع الكافرينَ عليكِ حِزباً حِزباً، ويصبُّونَ عليكِ الاتهاماتِ والشَّبهاتِ صبَّاً، حتى أصبحتِ قِطعةً توضعُ على الجسدِ غصباً، فلا تسترُ ظهراً ولا بَطناً ولا جَنباً.
لِمثلِ هَذا يَذوبُ القَلبُ مِنْ كَمدٍ *** إن كَانَ في القَلبِ إسلامٌ وإيمانُ
عُذراً أيتُها العباءةُ .. فبعدَ أن كُنتي عبادةً عظيمةً لربِّ العبيدِ، أصبحتِ عادةً تحتاجُ للتَّجديدِ، فها هي الموديلاتُ والألوانُ والتَّصميماتُ والماركاتُ، وها هي عروضُ الأزياءِ في الجديدِ من موضةِ العباياتِ، وبعدما كُنتِ تسترينَ الزِّينةَ وتكتمينَ الأسرارَ، ها أنتِ أصبحتِ مصدرَ فتنةٍ وتلفتينَ الأبصارَ، وبعدما كُنتِ واسعةً سابغةً ساترةً على الرَّأسِ، نَزلتِ على الكتفِ وقيلَ أريحُ في اللِّباسِ، ثُمَّ أصبحتِ ضيِّقةً مُخصَّرةً تكشفُ أدقَّ الأوصافِ، مُزركشةً مُطرزةً تحتاجُ إلى عباءةٍ فوقَها للسِّترِ والعفافِ.
عُذراً أيتُها العباءةُ .. فقد فرَّطنا في حقِّكِ الثَّمينِ، فأنتِ تنزيلُ ربِّ العالمينَ، ووصيةُ سيِّدِ المُرسلينَ، فكم صمدتِ في وجوهِ الأعداءِ عصورٌ، فرجعوا بينَ مخذولٍ ومهزومٍ ومقهورٍ، وكم حفظتِ لنا الحياءَ والأعراضَ دهورٌ، كُنتِ رمزَ العفةِ والرُّقيِّ والنَّجاحِ عنوانَ الصَّالحاتِ، واليومُ تُبرزُ لنا النِّساءُ السَّافراتُ المتبرجاتُ، على أنَّهنَّ النَّاجحاتُ والمُؤثراتُ، ويُكرَّمنَّ في بلادِ الغَربِ ليَكُنَّ لبناتِنا قُدواتٍ.
أيُّها الأحبَّةُ ..
انظروا نظرةً صادقةً إلى حالِ المرأةِ في تلكَ البلادِ المُتحرِّرةِ؛ فإن كانوا يفتخرونَ برئيسةِ دولةٍ، وثلاثِ وَزيراتٍ، وسَبعِ عُضواتٍ في البرلمانِ، وتِسعِ مُديراتٍ لشركاتٍ كُبرى، وألفٍ من سَيداتِ أعمالٍ، ومائةِ ألفِ موظفةٍ مُحترمةٍ كما يَزعمونَ، ثُمَّ أخبروني: أينَ بقيةُ النِّساءِ في مجتمعاتِهم؟، ألا ترونَ إلى الأجسادِ التي تُعرضُ لترويجِ السِّلعِ والبِضاعاتِ، ألا ترونَ إلى الجمالِ الذي يُمتهنُ لترويجِ الأفلامِ والمُجلاتِ، ألا ترونَ إلى الأعراضِ التي تُنتهكُ في الليالي الحمراءِ، ألا تسمعونَ إلى ميزانياتِ تجارةِ الجِنسِ والبِغاءِ، ألا تسمعونَ إلى بُكاءِ اللُّقطاءِ، ألا تسمعونَ إلى صَرخةِ العُقلاءِ.
فأيُّ حضارةٍ هذه التي حرَّرتْ جسدَ المرأةِ وجمالَها، ولم تُحرِّرْ عقلَها ولا روحَها، بل أرجعوها إلى جاهليةِ التَّبرجِ؛ (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) ، ولم تتعاملْ معها كمخلوقٍ كرَّمَه اللهُ تعالى بالحِشمةِ والسِّترِ والعفافِ، بل نزعوا لباسَها عنها باسمِ الموضةِ الأزياءِ والأناقةِ؛ كفعلِ إبليسِ الخبيثِ؛ (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)، فكيفَ لعاقلٍ أن يُقارنَ بينَ ما أرادَه اللهُ للمرأةِ، وبينَ ما يريده هؤلاءِ لها، (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ).
اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ العِفةَ والعَفافَ، والخَوفَ مِنكَ يا ربَّ العالمينَ، نَسألُكَ رَحمتَك، وأن تَقيَنا عَذابَكَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ حِجابَ المرأةِ شَرفاً لها وعِزةً ورِفعةً، الحمدُ للهِ الذي أَوجبَ لنا العَفافَ والحَياءَ والطُّهرَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نَبينا محمدٍ الذي حَملَ رِسالةَ المرأةِ، ودَافعَ عنها أَكملَ دِفاعٍ، أَما بَعدُ:
إنَّها أيُّها الأحبَّةُ ليستْ حرباً على قِطعةِ قُماشٍ ولا على لونٍ من الألوانِ، وإنما حربٌ على العقيدةِ والعفافِ والحياءِ والإيمانِ، إنَّه الشُّعورُ الذي يشعرُ به أهلُ الانحلالِ، عندما يرونَ سِتراً يعلوهُ والبهاءُ والجلالُ، فيقولونَ كما قالَ أسلافُهم الأولونَ: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)، وأنى لهم ذلك وقد تحطَّمتْ على صخرةِ العباءةِ والخِمارِ، جميعُ موجاتِ الإلحادِ والمجونِ والفجورِ والاستعمارِ، فلا يَزالُ هناكَ الكثيرُ من الصَّالحاتِ على العهدِ والميثاقِ، ولا يَزالُ هُناكَ من الصَّالحينَ من هو على الأملِ والاشتياقِ، وفي الحديثِ: (لا يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ في هذا الدَّينِ غَرْسًا، يَسْتَعْمِلُهم فيهِ بطاعتِه إلى يومِ القيامةِ).
في عامِ 1930 للميلادِ، وبمناسبةِ مُرورِ مَائةِ عَامٍ على احتلالِ الجزائرِ، قامت فرنسا بانتقاءِ عَشرِ فَتياتٍ مُسلماتٍ جَزائرياتٍ، وأدخلتهنَّ الحكومةُ الفَرنسيةُ في المدارسِ الفَرنسيةِ، وأَلبستهنَّ الثِّيابَ الفَرنسيةَ، ولَقَّنتهنَّ الثَّقافةَ الفَرنسيةَ، وعَلمتهنَّ اللغةَ الفَرنسيةَ فأصبحنَّ كالفَرنسياتِ تَماماً، وبَعدَ أَحدَ عَشرَ عَاماً من الجُهودِ، هيأتْ لهنَّ حَفلةَ تَخرجٍ رَائعةً، دُعيَ إليها الوزراءُ والمفكرونَ والصَّحفيونَ، ولما ابتدأتْ الحَفلةُ، فوجئ الجميعُ بالفتياتِ الجزائرياتِ يَدخلنَّ بلباسِهنَّ الإسلاميِّ الجَزائريِّ، فثَارتْ ثَائرةُ الصُّحفِ الفَرنسيةِ، وتَساءلتْ: ماذا فَعلتْ فَرنسا في الجزائرِ إذن بَعدَ مُرورِ أكثرِ من مائةِ عامٍ؟، فأَجابَ لاكوست وزيرُ المستعمراتِ الفَرنسي آنذاكَ: (وماذا أَصنعُ إذا كانَ القُرآنُ أَقوى من فَرنسا؟).
اللهم احفظ نساءَنا من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم اجعلهنَّ تقيِّاتٍ نَقياتٍ خَفياتٍ، وحبِّـب لهنَّ السِّترَ والحِجابَ، واغرس فيهنّ الحيــاءَ والعفـافَ، اللـهمَّ واحرسهنَّ من دعواتِ المُـفسدينَ، اللهم استرهنَّ بسترِك الجميلِ، وأجعلهنَّ لأمرِك طائعينَ، ومن شَيطانِ الإنسِ والجِنِّ محفوظينَ، وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم الله في كتابه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
المرفقات
أيتها-العباءة
أيتها-العباءة
أيتها-العباءة-2
أيتها-العباءة-2