عدم الأهلية

هلال الهاجري
1446/01/18 - 2024/07/24 13:15PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:

هُنَاكَ أَموالٌ تُوزِعُها الحُكومَةُ لِلمُواطِنينَ، وهُنَاكَ مُسَاعداتٌ مِن الدَّولةِ للمُحتَاجينَ، وَقَد جَعَلوا لِلأهليَّةِ شُروطاً ومُواصَفاتٍ، فَمَا شُعورُكَ إن لَم تَنطَبقْ عَليكَ المُتَطلَباتُ؟، هَل تَحمدُ اللهَ عَلى كُلِّ حَالٍ، وتَسألُ العِوضَ مِن ذِي الجَلالِ، أو أَنَّكَ تَسعى لِتَحصيلِ هَذا المَالِ، ولو كَانَ بالتَّزويرِ أو الاحتيالِ؟، العَجيبُ، أننا نرى اليومَ وُلوغاً في تَحصيلِ الأموالِ، وانتِزاعُهُ بأيِّ طَريقةٍ حَرامٍ كَانتْ أو حَلالٍ، وقد حَذَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ مِن ذَلكَ أَشَدَّ التَّحذيرِ فَقَالَ: (إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ).

أيَّها الأحبَّةُ، هَذهِ الأَموالُ وُضِعَتْ لِفئةٍ مُحدَّدةٍ مِن المُواطنينَ، ووَضعَ شُروطَها لِجَانٌ مِن المُختَّصينَ، وذَلكَ لِضَمانِ تَوزيعِ الثَّروةِ بِينَ جَميعِ الفِئاتِ، وتَخفيفِ العِبءِ عَلى أَهلِ الفَقرِ والحَاجَاتِ، فَبَعضُها مِن مَالِ بيتِ المُسلِمينَ، وبَعضُها من زَكَواتِ المُحسنِينَ، فَكيفَ يَحلُّ لِمنْ لَيسَ مِن أَهلِ الاستِحقَاقِ، أَن يُشَاركَ الفُقرَاءَ في أَموالِ الزَّكَاةِ، ويُزَاحِمَ المُحتَاجينَ في عَطَايا الوُلاةِ، وَقَد حَذَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ مِن أَموالِ الصَّدَقاتِ فَقالَ: (والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بيَدِهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، ثَلَاثًا).

البَعَضُ يَعتَقِدُ أَنهُ لا حَرَجَ عَليهِ فِي الأَخذِ مِن مَالِ الدَّولةِ دُونَ مُبالاةٍ، ولَكنَّ الحَقيقةَ أَنَّهُ مَالٌ مُشتَركٌ بينَ جَميعِ المُواطِنينَ بِالمُساواةِ، فَإن كَانَ الفَردُ يَأتي يَومَ القِيَامةِ يُطَالبِ بِحقِّهِ بالتَّمامِ، فَالجميعُ خُصماؤكَ في ذَلكَ اليَومَ في مَالِهم العَامِ، وإذا نَصَحَهُ النَّاصِحُونَ، قَالَ: كَذِلكَ النَّاسُ يَفعَلونَ، فَايَنَ مِنَ اللهِ يَذهَبونَ؟، وَقد قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ  مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفًقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)، فَجَهِّزْ لِكُلِّ رِيَالٍ كَسَبتَهُ اليَومَ، جَواباً يُنجِيكَ فِي ذَلكَ اليومَ.     

 أَيُّها الأَحبَّةُ .. هَلْ تُلاحِظُونَ أَنَّ هُنَاكَ تَكَالبٌ غريبٌ عَلى جَمعِ المَالِ، سَواءً كَانَ مِن طَريقٍ مَشبوهٍ أو حَرامٍ أو حَلالٍ، حتى أَنَّ البَعضَ يُقَدِّمُ مَستَنَدَاتٍ غَيرِ صَحيحَةٍ، لأَجلِ أَن يَحصُلَ عَلى الأَمَوالِ بِنَفسٍ شَحيحةٍ، فَهَلْ مَا نَعيشُهُ اليَومَ مِن أَزَمَاتٍ مَاليَّةٍ وغَلاءٍ، مُبَرِّرٌ لِهَذا الفِعلِ مِن كَذبٍ وتَزويرٍ وافتِراءٍ، اسمَعُوا إلى حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه وهو يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فأعْطَانِي، ثُمَّ قالَ لِي: يا حَكِيمُ، إنَّ هذا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، وَمَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، وَكانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، قالَ حَكِيمٌ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا -يَعني: لا أُنقُصُ أَحدًا مِن مَالِه شَيئًا-، فَكانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ العَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ علَى حَكِيمٍ؛ أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ مِن هذا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

فَإذا كَانَ مَنْ أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، وَكانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، فَكيفَ مَن أَخذَه بِطَريقِ الغِشِّ والتَّلبيسِ، والكَذبِ والتَّدليسِ، فَأيُّ حَرامٍ يَأَكلونَ، وأيُّ بَركَةٍ يَرجونَ؟، فَالتَّوبَةُ اليَومَ قَبلَ أَن لاَ ينفَعَ المَالُ والبَنونَ.

أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حَمداً طَيباً كثيراً مُباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم إلى يومِ الدينِ، وبعد:

يَقولُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عَنهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمُ: خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، وَهَكَذا التَّوجيهَاتُ النَّبويَّةُ الصَّحيحةُ، لِلتَّغلُّبِ عَلى النَّفسِ الشَّحيحةِ، فَلا تُتبِعْ نَفسَكَ كُلَّ مَالٍ، ولا تُكثِرُ الطَّلبَ والسُّؤالَ، ومَا جَاءكَ مِنه وأَنتَ مُستَحِقٌّ لِنَوالِهِ، مُستَوفٍ لِشُروطِهِ وأَحوالِهِ، فَخُذهُ حَلالاً طَيِّباً، وَكُلْ مِنهُ وتَصَدَّقَ، قَالَ الصَّحَابةُ رَضِيَ اللهُ عَنهم لِلنَّبيِّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أوْصِنَا، فَقالَ: (إنَّ أوَّلَ ما يُنْتِنُ مِنَ الإنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أنْ لا يَأْكُلَ إلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ).

فيَنبَغي عَلى الإنسانِ أَن يَعلَمَ مَصَادِرَ مَالِهِ، ويَتَأَكَدَ أَنَّها حَلالٌ لَهُ ولِعِيَالهِ، وَقَد جَاءَ في الحَديثِ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ)، حَتى كَانَتْ إحدَى الصَّالِحَاتِ إذَا أَرادَ أَن يَخرجَ زَوجُها قَالَ لَهُ: اِتِقِ اللهَ فِينَا وَلا تُطعِمنَا إلا مِنْ حَلالٍ، وَإياكَ أَنْ تُدخِلَ عَلينَا الحَرامَ، فَإنَنَا نَصبِرُ عَلى نَارِ الجُوعِ، وَلا نَصبِرُ عَلى نَارِ جَهنَمَ.

أَيُّها الأَحِبَّةُ .. جَاءَ في الحَديثِ: (يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ)، فَهلْ هُو هَذا الزَّمانُ الذي نَعيشُهُ؟، لِمَا نَرى مِن طُرقِ التَّحايُّلِ فِي الكَسبِ حَتى مِن الأغنياءِ، فَاينَ القَناعةُ والأَمَانةُ والحَياءُ؟.

رَأيْتُ القنَاعَة َ رَأْسَ الغِنَى *** فَصِرتُ بأَذْيَالِهَا مُمْتَسِكْ

فَلا ذَا يَراني عَلى بَابِهِ *** وَلا ذَا يَرَاني بِهِ مُنْهمِكْ

فَصِرتُ غَنِيَّاً بِلا دِرْهَمٍ *** أَمرُّ عَلى النَّاسِ شِبهَ المَلِكْ

فاللهم لا تجعل الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا إلى النَّارِ مَصِيرَنَا، وقَنِّعنا بما آتيتناَ، وبارك لنا فيما رَزَقْتَنَا، اللهمَّ آمنا في دورِنا وأصلح ولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَك فيمن خَافَك واتَّقاك، اللهمَّ ولِّ على المسلمينَ خِيارَهم، واكفِهم شَرَّ أشرارِهم، اللهمَّ لا تجعل لأهلِ الشَّرِ والفَسادِ عليهم وِلايةً، يا ذا الجلالِ والإكرام، اللهمَّ أصلِح أوضاعَنا وأوضاعَ المسلمينَ، حقِّق الأمنَ والاستقرارَ في رُبوعِ بلادِ المسلمينَ، اللهم اجعل بلادَنا وبلادَ المُسلمينَ محفوظةً بحفظِك، إنَّك حفيظٌ عليمٌ، عبادَ اللهِ: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المرفقات

1721816135_عدم الأهلية.docx

1721816143_عدم الأهلية.pdf

المشاهدات 1181 | التعليقات 0