عَجِيْبَةٌ هِيَ أَقْدَارُ اللهِ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1441/01/27 - 2019/09/26 18:25PM

28 محرم 1441 هـ. الحمدُ للهِ اللطيفِ الخبيرِ، الذيْ لا يُحصِي العبادُ ثناءً عليهِ، بلْ هوَ كما أثنَى على نفسهِ، وهوَ العليمُ الخبيرُ. والصلاةُ والسلامُ على الهاديْ البشيرِ، والسراجِ المنيرِ، وعلى آلهِ وصحبهِ الشجعانِ المغاويرِ. أما بعدُ: فاتقوا {اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}.

عجيبةٌ هيَ أقدارُ اللهِ، والأعجبُ أنَّ مِنْ أقدارهِ –سبحانَه- ما يَظهرُ لنا أنها شرٌ، وهي في عِلْمِ العليمِ القديرِ أنها خيرٌ. بلْ ربما نُصليْ الاستخارةَ، ثمَّ يَخطرُ في بالِ بعضِنا أنها لمْ تَنفعْ. قالَ ابنُ عمرَt: إنَّ الرجُلَ لَيَستخيرُ اللهَ، فيَختارُ لهُ، فيَتسَخَّطُ على رَبِهِ، ولا يَلبثُ أنْ يَنظرَ في العاقبةِ، فإذا هوَ خَيرٌ لهُ([1]).

فاللهم أَرضِنا بقضائِكَ، وبأقدارِكَ خيرِها وشرِّها، حتى نعلمَ أنَّ ما أصابَنا لمْ يكنْ لِيُخطِئَنا، وما أخطأَنا لمْ يَكنْ لِيُصِيبَنا.

فدَعُونا نطرَحُ الآنَ سؤالينِ اثنينِ؛ لِنخوضَ في شيءٍ منْ أسرارِ أقدارِ اللهِ لنُعظِّمَ اللهَ، ولِنَعِيشَ لحظاتٍ منْ تأمُّلاتِ العلماءِ باللهِ في عجائبِ الابتلاءِ.

السؤال الأول: ما الحِكمةُ من ابتلاءِ اللهِ لأنبيائهِ، واللهُ قد جَعلَهم أعلَى أصفيائهِ؟!

واسمعِ الجوابَ الجليلَ الجميلَ الطويلَ منِ ابنِ القيِّمِ رحمهُ اللهُ:

(وأخرَجَ صفيَّه آدمَ منَ الجنةِ وقدْ خَلقَها لهُ، واقتضتْ حكمتُه أنْ لا يَدخلَها دخولَ استقرارِ إلا بعدَ التعبِ والنصَبِ، فما أخرجَهُ منها إلا ليُدخِلَه إليها أتمَّ دخولٍ، فللهِ كمْ بينَ الدخولِ الأولِ والدخولِ الثاني من التفاوُتِ)([2]).

 (ولولا مُعارضةُ السحرةِ لموسى بإلقاءِ العِصِيِّ والحبالِ، حتى سَحَروا أعينَ الناسِ واسترهَبوهُم لما ظهرتْ آيةُ عصا موسى، حتى ابتلعتْ عِصِيَّهم وحِبالَهم.

وكذلكَ الآياتُ التي أظهرَها –سبحانَهُ- على يدِ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريمِ [يوسفَ بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ ] والعجائبُ والحِكَمُ والمصالحُ والفوائدُ التي في تلكَ القصةِ تزيدُ على الأَلْفِ فائدةٍ، ولم تَكُنْ لِتحصُلَ هذهِ الأَلْفُ بدونِ مفسدةِ حُزونةِ يعقوبَ ويوسفَ، ثمَّ انقلبتْ تلكَ المفسدةُ..لِأعظمِ المصالحِ في حقِّه، وحقِّ يوسفَ، وحقِّ الإخوةِ، وحقِّ امرأةِ العزيزِ، وحقَّ أهلِ مصرَ، وحقِّ المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ.

وكذلكَ المفسدةُ التي حصلتْ لأيوبَ؛ مِنْ مَسِّ الشيطانِ بهِ بنُصْبٍ وعذابٍ اضمحلتْ، وتلاشتْ في جَنبِ المصلحةِ والمنفعةِ التي حصلتْ لهُ ولغيرهِ عندَ مُفارقةِ البلاءِ، وتَبَدُّلهِ بالنعماءِ.

وكذلكَ الأسبابُ التي أوصلتْ خليلَ الرحمنِ إلى أنْ صارتِ النارُ عليهِ بَردًا وسلامًا ..حتى وقعَ في روضةٍ خضراءَ في وسَطِ النارِ، وصارتْ آيةً وعبرةً للأممِ، قرنًا بعدَ قرنٍ. [ثمَّ صارَ] إمامًا للحُنفاءِ إلى يومِ القيامةِ، وهلْ تلكَ المفاسدُ الجزئيةُ إلا..كمفسدةِ المطرِ إذا قطعَ المسافرَ، وبلَّ الثيابَ، وخرَّبَ بعضَ البيوتِ، بالنسبةِ إلى مصلحتهِ العامةِ.

فَإِذا جِئْتَ إلى النَّبِيِّe ..فَإنهُ لمْ يؤذَ نَبِيٌ مَا أوذيَ [ومعَ ذلكَ] لم يُعْطَ نَبِيٌ مَا أعطيَ، فَرفَعَ اللهُ لَهُ ذكرَه، وَقرنَ اسْمَهُ باسمِهِ، وَجعلَهُ سيدَ الناسِ كلِّهمْ، وَجعلَهُ أقْربَ الْخلقِ إليهِ وَسِيلَةً، وأسمعَهمْ عِنْدَه شَفَاعَةً..

وكمْ بينَ إخراجِهِ e منْ مكةَ ودخولِهِ إليها مُنتصرًا فاتحًا، وقدِ اكتنفَه مِنْ بينِ يديهِ، ومنْ خِلفِه، وعنْ يمينِه، وعنْ شِمالِه، والمهاجرونَ والأنصارُ قدْ أحدقُوا بهِ، والملائكةُ مِنْ فوقِهمْ، والوحيُ مِنَ اللهِ ينزلَ عليهِ، وقدْ أدخلَه حَرَمَه ذلكَ الدخولَ المَهيبَ. فأينَ مفسدةُ ذلكَ الإخراجِ الذي كأنْ لم يكنْ؟!

وَهلْ وصَلَ مَنْ وَصَلَ إلى المقاماتِ المحمودةِ، والنهاياتِ الفاضلةِ إِلَّا على جِسرِ المحنةِ والابتلاءِ:

كَذَا الْمَعَالِي إِذا مَا رُمتَ تُدْرِكُها ... فاعبُرْ إليها على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ ([3])

 

السؤالٌ الثاني: لماذا خلقَ اللهُ الكفارَ، واللهُ تعالى يُحبُّ المؤمنينَ، ولا يُحبُّ الكافرين؟!

 وجوابُهُ أيضًا منَ الإمامِ المُلْهَمِ ابنِ القيمِ حيثُ يقولُ:

 (وجودُ الكفارِ يقتضيْ ظهورَ علمِهِ –سبحانَهُ-، وفضلِهِ وحكمتِهِ ويَستخرجُ عبودياتٍ للهِ عديدةً، كحمدِهِ وشكرِهِ ومحبتِهِ والرضا عنهُ)([4]).

 (وقد يَترتبُ على خَلْقِ مَن يَكفرُ بهِ ويُعادِيِه مِنَ الحِكَمِ الباهرةِ، والآياتِ الظاهرةِ ما لمْ يَكُنْ يَحصُلُ بدونِ ذلكَ، فلولا كُفرُ قومِ نوحٍ لما ظهرتْ آيةُ الطوفانِ، وبقيَتْ يَتحدثُ بها الناسُ على مَرِّ الزمانِ.. ولولا كُفْرُ فرعونَ لما ظَهرتْ تلكَ الآياتُ والعجائبُ..فهَلكَ بها مَنْ هَلَكَ عن بينةٍ، وحَيَّ بها مَنْ حَيَّ عنْ بينةٍ، وظَهَرَ بها فضلُ اللهِ، وعدلُهُ، وحكمتُهُ، وآياتُ رسلِهِ وصدقُهمْ..وأرادَ – تعالَى- أن يَرى عبادُه ما هوَ مِنْ أعظمِ آياتهِ، وهو أن يُربِّيَ هذا المولودَ في حَجْرِ فرعونَ، وفي بيتهِ، وقدْ ذَبَحَ فرعونُ ما شاءَ اللهُ مِنَ الأولادِ في طلبهِ..فمصلحةُ تلكَ الآيةِ، وحِكمتُها غَمَرَتْ مفسدةَ ذبحِ الأبناءِ، وجعلَتْها كأنْ لمْ تَكُنْ)([5]).

فكمْ للهِ سبحانَه في ضِمْنِ هذهِ الآيةِ منْ حِكمةٍ بالغةٍ، ونعمةٍ سابغةٍ، ورحمةٍ وحجةٍ وبينةٍ.. ولكنَّ الإنسانَ كما قالَ اللهُ تعالى: {ظَلُوماً جَهُولاً} ظَلومٌ لنفسِهِ جهولٌ بربِهِ، وعظمتِهِ وجلالِهِ، وحكمتِهِ، وإتقانِ صُنعهِ([6]).

اللّهُمّ أَنْتَ ثِقَتُنا، وَأَنْتَ رَجَاؤنَا. عَزّ جَارُكَ، وَجَلّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ.

اللّهُمّ بِكَ انْتَشَرْنا وَإِلَيْكَ تَوَجّهْنا، وَبِكَ اعْتَصَمْنا، وَعَلَيْكَ تَوَكّلْنا.

اللّهُمّ اكْفِنا مَا أَهَمّنا، وَمَا لَا نهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّا. وَوَجِّهْنا لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْنا.

اللهم احفظْ أمنَنا واستقرارَنا. اللهم احفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا، واقتصادَنا وعتادَنا.

اللهم وفَّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيتِهِما للبرِّ والتقوى.

اللهم ثبِّت جنودَنا، وأيِّدْهُم بتأييدِكَ.

اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ. وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنهَى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.

([1])الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا (ص: 83)

([2])شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم(ص: 223)

([3]) باختصار وتصرف من مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم (1/ 301)

([4])بتصرف من شفاء العليل (ص: 223)

([5])باختصار وتصرف من مفتاح دار السعادة (1/ 301)

([6])مفتاح دار السعادة (1/ 301)

المرفقات

هي-أقدار-الله

هي-أقدار-الله

هي-أقدار-الله-2

هي-أقدار-الله-2

المشاهدات 1955 | التعليقات 0