عبر وفوائد من قصة أصحاب الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة ... تحدثنا في الجمعة الماضية عن سورة الكهف، وذكرنا أن الله تعالى ذكر في هذه السورة العظيمة أربع فتن عظام : الفتنة في الدين، وفتنة المال، وفتنة العلم، وفتنة الجاه والسلطان. وضرب لكل فتنة قصة لبيان سبل النجاة من الفتنة.
فكانت الأولى .. الفتنة في الدين، وضرب الله لها مثلا في قصة من أعظم القصص، فيها عبر وفوائد، وفيها ثمرات لمن أيقن بها .. إنها قصة أصحاب الكهف، فلنستمع إليها ولنقرأها ، وتصور -يا عبد الله- هذه القصة، وتخيل أنك أحد أصحاب الكهف الذين قص الله عز وجل علينا قصتهم!
في بداية هذه القصة، مدح الله نفسه، وأثنى عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) وقد بدأ هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.
ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا .. رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب .. يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) ولما اطلع الله إلى صدق إيمانهم قال ( وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) فالله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، بل ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.
هل جلسوا بين قومهم؟ هل رضوا بهذا الشرك؟ هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ) نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا ( هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام .. فليأت بسلطان بين وبدليل واضح يثبت ما ادعاه ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً )لم يتحملوا الوضع، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس، وذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة. خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف .. خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.
نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك وأهله ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) إنه الكهف المظلم والمكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله كهفاً فسيحاً، جعل فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان يعيشون ويتقلبون فيها، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ).
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ) الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا لأهل الإيمان، ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً* وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) إنها آية من آيات الله الدالة على قدرته جل وعلا.
وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ) فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! ( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله ( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم ، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله . يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.
فخرج أحد منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة .. فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان .. يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ )
تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً .. يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بالقوم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح .. غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال ( قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )
وقد اختلف الناس في عددهم (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم ( فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ).
أيها المؤمنون ... إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ )
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد.
عباد الله ... أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية .. شباب صغار في السن، إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.
إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.
إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات.
أيها الشاب .. هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها .. إلى أين ؟ إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.
أسمعت –أيها الشاب- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).
أسمعت بـحبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.
قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.
أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.
إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع التاريخ عنهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين
المشاهدات 2709 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا