عِبَرٌ مِن قِصَّةِ نُوحٍ عليهِ السلامُ
أحمد بن عبدالله الحزيمي
عِبَرٌ مِن قِصَّةِ نُوحٍ عليهِ السلامُ
الحمدُ للهِ شَرَحَ صُدورَ المؤمِنينَ للإِيمانِ بفَضلِهِ ورَحمتِهِ، وأَضَلَّ مَن شَاءَ مِن عِبادِهِ بعَدلِهِ وحِكمَتِهِ، وأَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، جَعَلَ للمتَّقينَ عُقْبَى الدَّارِ، ولأَهلِ الكُفرِ والضَّلالِ الخِزيَ والبَوارَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُ اللهِ ورسُولُهُ المصطفَى المختَارُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ والمهَاجِرينَ والأَنصَارِ، والتَّابِعينَ لَهم بإِحسَانٍ مَا تَعَاقَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ، وسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا إلى يَومِ القَرَارِ.. أمَّا بَعدُ:
فأُوصِيكُم ونَفسِي بتقوَى اللهِ وطَاعَتِهِ، والخَوفِ مِن عِقابِهِ والرَّجاءِ لِثوابِهِ ورَحمَتِهِ.
أيهَا الإِخوةُ... أَبُونَا الأوَّلُ وأَبو العَالَمِ, هو آدَمُ عَليه السلامُ, وأبُونَا الثَّانِي وأَبُو العَالَمِ أَيضاً, نُوحٌ عليهِ السَّلامُ, فكُلُّ مَن علَى ظَهرِ الأَرضِ إنَّمَا هُو مِن ذُريَّتِهِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}.
ونُوحٌ -يَا عبادَ اللهِ- هُوَ أَوَّلُ رَسولٍ بَعثَهُ اللهُ إلى أَهلِ الأَرضِ، ومِن أُولِي الْعَزمِ مِنَ الرَّسُلِ.
عَاشَ نُوحٌ عليهِ السلامُ عُمُراً طَويلاً، فقدْ كَانَ أَطولَ الأَنبياءِ عُمُراً وأَكثَرَهُمْ جُهْداً، فَقدْ تَحمَّلَ مِنَ الأَذَى شَيئاً عَظِيماً؛ فدَعَا قَومَهُ لَيلاً ونَهَاراً, سِرًّا وجِهَاراً، بالتَّرغِيبِ تَارةً والتَّرهيبِ أُخرَى.
وأَقامَ فِيهِمْ علَى هذِهِ الحَالِ, تِسعَمِائةٍ وخَمسينَ عَاماً مِن عُمُرِهِ الدَّعَوِيِّ، مَارَسَ فِيهَا كُلَّ الوَسائِلِ المُمكِنَةِ لإقنَاعِهِمْ ودَعوَتِهِم إِلى اللهِ بالحِكمةِ والموعِظَةِ الحَسَنةِ، ولكنَّه مَعَ هذَا لَمْ يَلْقَ مِن قَومِهِ إلاَّ الإِعرَاضَ والتَّكذِيبَ والتَّعذِيبَ، فقدْ كَانتْ قُلُوبُ قَومِهِ أَشَدَّ مِنَ الحِجارَةِ، وعُقُولُهُمْ أَصْلَبَ مِنَ الحَديدِ.
فقدِ اتَّهَمُوهُ بالسَّفَهِ والضَّلالِ كعَادَةِ الجَهلَةِ والرَّافِضِينَ للحَقِّ مِن عِليَةِ القَومِ في كلِّ أُمَّةٍ، كمَا قالَ اللهُ تعَالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، بل اتَّهمُوهُ بالجُنونِ كمَا قالَ اللهُ عَن ذَلكَ: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} بَل وَصلَ الحَالَ إِلى تَهدِيدِهِ بالقَتْلِ رَجماً بالحِجَارةِ { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}.
وقَد رَوَى أَهلُ التَّفسيرِ أَنَّ نُوحاً كانَ يَأتِي قَومَهُ فَيدعُوهُمْ إلى اللهِ، فَيجتَمِعونَ عليهِ ويَضرِبونَهَ ويَخنِقُونَهُ حتَّى يُغشَى عَليهِ، ثمَّ يَلُفُّونَهُ في حَصيرٍ ويَرمُونَ بهِ في الطَّريقِ ويَقولُونَ سَيموتُ بعدَ هذَا اليَومِ، فيُعيدُ اللهُ سُبحانَه وتعَالى إليهِ قُوَّتَهُ، فَيرجِعُ إليهِم ويَدعُوهُم إِلى اللهِ فيَفعَلُونَ مِثلَ ذَلكَ، وهُو يَصبِرُ ولا يَدعُو عَلى قَومِهِ لَعلَّ اللهَ تعَالى يُخرِجُ مِن أَصلابِهِم مَن يَعبُدُ اللهَ ولا يُشرِكُ بهِ شَيئاً.
والعَجِيبُ أيها الإخوة أنَّه كانَ كُلَّمَا انقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعدَهُم بِعدَمِ الإِيمانِ بهِ ومُحَاربَتِهِ، ومُخالَفَتِهِ، وكانَ الوَالدُ إذَا بَلغَ وَلدُهُ وعَقَلَ وَصَّاهُ سِرًّا أنْ لاَ يُؤمِنَ بنُوحٍ أَبدًا وهكَذا تَوارَثُوا هذَا الإِعرَاضَ والتَّكذِيبَ، ولهَذا قالَ لِرَبِّهِ سُبحانَه وهو يَدعو عَليهِم: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}.
ولكِنَّه معَ هذَا كُلِّهِ لَمْ يُبالِ بإِعراضِهِم ولا بتَهدِيدِهِمْ بلْ وَاصَلَ دَعوَتَه حتَّى إذَا ضَاقَ ذَرعاً بِهِم وباسْتكبَارِهِمْ, لَجَأَ إِلى رَبِّهِ بهذِه الشَّكوَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}.
تَكشِفُ لَنَا هَذِه الآيَاتُ -أيُّها الموحِّدُونَ- الْجُهدَ المُضْنِيَ والمُرهِقَ الذي بَذَلَهُ نُوحٌ عَليه السلامُ مَعَ قَومِهِ، وعَن مَدَى صَبرِهِ الجَميلِ وإِصرَارَهِ الكَبِيرِ لهِدَايَةِ قَومِهِ.
وقَد ذَكَرَ بعضُ المفسِّرينَ أنَّ عَدَدَ الذينَ آمنُوا مَعَهُ ثَمانُونَ رَجلاً وامرأةً فَقَطْ!
يا اللهُ!! دَعوةٌ ورِسالةٌ عُمُرُهَا أَلفَ سَنةٍ ومعَ ذَلكَ لَمْ يُؤمِنْ إلا ثَمَانُونُ!! هذِه رِسالَةٌ وَاضحةٌ لليَائِسِينَ والمحبَطِينَ ألاَّ يُصَابُوا بالْمَللِ والضَّجَرِ مِن دَعوَةِ أَزوَاجِهِم وأَولاَدِهِم ومُجتَمَعَاتِهِم وأنَّ مَن يُرِيدُ أَنْ يَدعُوَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ لا بدَّ أنْ يَتحَلَّى بالصَّبرِ الشَّديدِ في شَأنِهِ كُلِّهِ.
نَسأَلُ اللهَ تَعَالى أنْ يَرزُقَنَا وإيَّاكُمُ الصَّبرَ علَى دِينِهِ، وأنْ يَجعلَنَا مِن أَتباعِ سَيِّدِ المرسَلِينَ...
أقولُ ما سمعتم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، نَصرَ عَبدَهُ، وأَعزَّ جُندَهُ، وهَزَمَ الأَحزَابَ وَحْدَهُ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لاَ شَريكَ لَه، وأَشهَدُ أنَّ سَيدَنَا ونَبيَّنَا محمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحَابِهِ وأتبَاعِهِ أجمعِينَ.
أيها المسلمونَ:
لَمَّا بَلغَ الْجُهدُ مِن نُوحٍ مَبلغاً عَظيماً، أَخبَرَهُ رَبُّهُ {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ} وأَمَرَهُ سُبحانَه بصُنعِ السَّفينَةِ! سبحانَ اللهِ.. سَفِينَةٌ في الصَّحرَاءِ؟ حيثُ لاَ أَنهارَ وَلا بِحَارَ؟ لكنَّه أَمرُ اللهِ ولاَ مَفَرَّ مِنَ الإِذعَانِ لأَمرِهِ, فتَوقَّفَ عَن دَعوةِ قَومِهِ, وبَدَأ في بِنَاءِ السَّفينَةِ بمسَاعَدةِ المؤمِنينَ الذينَ مَعَهُ, فالأَمرُ لَمْ يَكُنْ سَهْلاً، فهُمْ يَحتَاجُونَ لسفِينَةٍ كَبيرةٍ جِدًّا، سَفينةٍ لإِنقاذِ البَشريَّةِ ومُختَلفِ أَنواعِ الحَيوانَاتِ، فكَانَ الأَمرُ مُتعِبًا وشَاقًّا، ويَحتَاجُ لِصبرٍ شَديدٍ؛ لِتَكْتَمِلَ السَّفينةُ، ومَعَ هَذَا التَّعَبِ والْجُهْدِ والمشقَّةِ, وَاجَهَ النَّبيُّ الكَرِيمُ تَعَباً نَفسيًّا آخَرَ! إنَّه قَومُهُ! نعم قَومُهُ الذينَ كانَوا يمرُّونَ به ويَسخَرونَ مِنهُ ويَضحَكُونَ عَليهِ ويَقولونَ: (يَا نَوحُ: قَد كُنتَ بالأَمسِ تَدَّعِي أنَّك نَبِيٌّ واليومَ صِرتَ نَجَّارًا!)، ويقولونَ: (مَجنونٌ! يَصنَعُ سَفينةً في الصَّحراءِ! أَينَ تَسِيرُ؟ أَينَ الماءُ؟ أَينَ البَحْرُ؟) وكانَ رَدُّ نُوحٍ علَى سُخرِيَتِهِمْ أَبلَغَ الرَّدِ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} يَقُولُهَا نُوحٌ ثِقةً باللهِ وبِوعدِهِ ونَصرِهِ.
ولَمَّا انتَهَى نُوحٌ مِن صُنعِ السَّفينةِ، أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَحمِلَ مَعَهُ أَهلَهُ إِلاَّ امرَأَتَهُ ووَلَدَهُ؛ لأنَّهُم كَفَرُوا باللهِ، وأنْ يَحمِلَ مَعَهُ المؤمنينَ فَقَط، وأَمَرَهُ أنْ يَأخُذَ مِن كُلِّ نَوعٍ مِنَ الحَيوانَاتِ زَوجَينِ اثْنَين -ذَكَراً وأُنثَى-، حتَّى يُحافِظَ على هذِه الأَجنَاسِ ولاَ تَنْقَرِضُ، ثمَّ جَعلَ اللهُ تعَالى لِنوحٍ عَلامةً على العذابِ وهُو أنْ يَفُورَ التَّنُّورُ ويَنْبعَ الماءُ فَوقَ سَطحِ الأَرضِ، فذَلكَ هُوَ الوقتُ المنَاسِبُ لرُكوبِ السَّفينةِ لِتنجُوَ أَنتَ ومَن مَعَكَ مِنَ الطُّوفَانِ المدمِّرِ.
فلمَّا ظَهَرتِ العَلامَةُ وفَارَ التَّنُّورُ رَكِبُوا السفينةَ، وأَنزلَ اللهُ الماءَ مِن كُلِّ الجِهاتِ, فُتِحَتِ السَّماءُ فانْهمَرتْ مِنها الأَمطارُ بشدَّةٍ، وتَفجَّرتِ اليَنابِيعُ، وفَاضَتِ الأَنهارُ والبِحارُ، والْتَقَى مَاءُ السَّماءِ بماءِ الأَرضِ, وارْتَفعَ الماءُ فَوقَ رُؤوسِ الجِبالِ واخْتلَطَتِ البِحارُ والأَنهَارُ, حتَّى قِيلَ إنَّ الماءَ ارْتَفعَ عَن سَطحِ الأَرضِ خَمسةَ عَشَرَ ذِراعًا، ولَم يَنْجُ إلاَّ أصحابَ السفينةِ، وغَرقَتِ الأرضُ بالماءِ والطُّوفَانِ.
ولَمَّا أَرادَ اللهُ أنْ تَستَقِرَّ السفينةُ علَى اليَابِسَةِ أَمَرَ الأرضَ أَن تَبْلَعَ الماءَ، والسماءَ أنْ تَتوقَّفَ عَنِ المَطَرِ، وبَدأتِ الرِّياحُ تَهدَأُ، والغُيومُ تَنقَشِعُ، والشَّمسُ تُشرِقُ، وبَدأَتِ الحَياةُ مِن جَديدٍ، ورَسَتِ السَّفينةُ علَى سَطحِ جَبلِ الجُودِيِّ -وهو جبلُ الطُّورِ، وقيل: جَبلٌ بالجَزيرةِ-، ثُمَّ أَوحَى اللهُ عزَّ وجلَّ لسيدِنَا نُوحٍ أَنِ اهْبِطْ مِنَ السَّفينةِ بسَلامٍ وأَمانٍ وبَركاتٍ مِنَ اللهِ عَز وجلَّ، ومَنْ مَعكَ مِنَ المؤمنينَ، ومِنَ الأَزواجِ الَّتي حَمَلتَها مَعَكَ.
فنَزلَ المؤمنونَ مِنَ السفينةِ، وانطَلقَتِ الحَيواناتُ والطُّيورُ تَستأنِفُ حَيَاتَهَا مِنْ جَديدٍ.
أيهَا الإِخوةُ... تِلكُمْ هِي قِصةُ نُوحٍ عليهِ السلامُ وهِيَ آيةٌ مِن آيَاتِ اللهِ في كُلِّ فَصلٍ مِنْ فُصُولِهَا وفي مُعْجزَاتِهَا البَاهِرَةِ.
صلُّوا وسلِّمُوا.......
المرفقات
من-قصة-نوح-عليه-السلام
من-قصة-نوح-عليه-السلام