عبر من قصة موسى عليه السلام مع ابنتي صاحب مدين

شعيب العلمي
1439/06/19 - 2018/03/07 11:55AM

بعد المقدمة : ....

عباد الله : جاء من أقصى الديار المصرية رجل يسعى إلى موسى عليه السلام، فقال:  إنّ الملأ من قوم فرعون يتشاورون ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج من غير زاد ولا استعداد من مصر.. عجلا، لم يتخذ خليلا ولا في الطريق دليلا  .. مستعجلا.

(خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا) : من انتقام قوم فرعون؛ إذ قتل قبطيا منهم من غير قصد ـ وكان ذلك قبل نبوته ـ

(خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) :  أسند الطبري عن ابن عباس، قال: (خرج موسى متوجها نحو مدين) ، وهي مدينة على أطراف الشام جنوبا ـ رحم الله الشام وأهلها ورفع عنهم الحرب وأوزارها ـ  (خرج موسى متوجها نحو مدين ، وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنّه بربّه، فإنّه قال:( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ): فما كان من الله تعالى إلا أن كان عند ظنّ عبده به ..

فيا عباد الله : أحسنوا الظنّ بربّكم فإنّه مفتاح تحصيل مراداتكم من خير الدنيا والآخرة؛ فها هو موسى قصد مدين ولا يعرف طريقها لكنّه وصلها كما أراد بأسهل سبيل وأقربه، بحسن ظنّه بربّه.

(وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ): رأى موسى شيئا أثار عجبه؛ (وَجَدَ عَلَيْهِ ـ على ماء مدين ـ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) : يسقون مواشيَهم، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِم امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ): تبتعدان عن مخالطة الرجال وتحبسان غنمهما عن الماء.

جاء السؤال من موسى في كلمة واحدة: (ما خَطْبُكُمَا)؛ من غير مقدمات ولا ممهدات، من غير ضحكات ولا ابتسامات: ليعلّمك مقدار الكلام الذي ينبغي مع النّساء الأجنبيات، إذا دعت الحاجة لمخاطبتهنّ.

جاء السؤال من موسى:(ما خطبكما) في كلمة ملؤها الشهامة والغيرة على بنتين غاية أمرهما أنهما اعتزلتا الناس لا تستسقيان، فكيف لو رأى رجلا يحتقرهما؟ كيف لو رأى شابا يعاكسهما؟ كيف لو رأى فتىً يعبث بعرضعهما؟

جاء السؤال من موسى: (ما خطبكما) لم ينتظر حتى يُدعى، ولم ينتظر حتى يُسأل؛ ليعلمّك المبادرة إلى خدمة الناس ومساعدتهم, من غير أن يُذلّ المحتاج نفسه بالطلب منك، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ": فجاء الجواب من البنتين:

(قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) حتى ينتهي الرعاة من سقي مواشيهم، فإذا انتهوا ولم يزاحمونا سقينا، وكأنهما تقولان بلغة الحسرة: والله ما لنا للخروج لهذا العمل من حاجة لولا: أنّ (أَبَانَا شَيْخٌ كَبِيرٌوفي هذا درس عظيمٌ لكلّ امرأة وفتاة تؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا أن حقّها أن تلزم بيتها مصداقا لقول خالقها: (وقرن في بيوتكنّ)..

(وقرن في بيوتكنّ) :هي آية من سورة الأحزاب، ألا فعلمواواعلمن ..

وأنها لا تخرج إلا إذا اضطرت أو احتاجت للخروج: (وأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).

وإنها إن خرجت لضرورة أو حاجة تجنبت الاختلاط مع الرجال (لا نسقي حتى يصدر الرعاءلا تُزاحم الرجال في المستشفيات أو الطرقات، ولا في الأسواق والمحلات، ولا في المدارس والجامعات، دينها عندها أغلى وأعز من دنيا لا تساوي جناح بعوضات .

 فحقّ لموسى عليه السلام بعد أن عرف عفة الفتاتيتن أن جاشت حميته وثارت نخوته  فلم يتردد في بذل المعروف لهما: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) .

عباد الله : إن ناسا لا يفوتون فرصة يجدون فيها امرأة ضعيفة في حاجة فيقفون إلى جنبها حتى يقضوا حاجتها لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى، فما أروع موقفهم .

وإن ناسا لا يفوتون فرصة يجدون فيها امرأة ضعيفة في حاجة فيقفون إلى جنبها حتى يقضوا شهوتهم، ويشبعوا نزوتهم،   وربما انتهى اللقاء بتبادل أرقام الهواتف أو صفحات التواصل، فما أخزى مقصدهم.

(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) : لا يزال موسى لاجئا لربّه معتصما به، مفتقرا إليه، مبينا حاله له وهو أعلم به، وسؤال بالحال أبلغ من سؤال المقال، حتى ظهرت ملامح الفرج : (فجاءته إحداهما تمشي) : وهذه بشرى لكل مكروب؛ فإنّه كلّما زاد افتقاره لربه، كان الفرج أقرب وفي الحديث : (إن الفرج مع الكرب) ..

(فجاءته إحداهما تمشي) : عقب دعائه مباشرةً لتعلم أن من أعظم أسباب تحصيل الزوجة؛ والزوجة الصالحة هو اللجوء إلى الله بالدعاء، والحرص على صنائع المعروف، ولزوم العفة والحياء، لذا قال بعض أهل العلم و الفقه من أراد أن يتزوج فليكثر منه فإن الله تبارك وتعالى قد قال بعقبه: (فجاءته احداهما تمشي على استحياء ) ..

ولما رجعت المرأتان سراعا  بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا، على غير العادة فسألهما عن  خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام .

عباد الله: تأملوا .. تأملوا كيف أن الأب استغرب رجوع البنتين في غير الموعد المألوف، وهذا فيه لفتة تربوية نحتاجها في هذا الزمن الذي ابتلينا فيه بخروج النساء؛ فكثير من الآباء تخرج ابنته ولا يسأل، وتتأخر ولا يستفصل، حتى إن من البنات من تستغل غفلة الوالد فتخرج بحجة الدراسة أوغيرها، لكنّها تخرج مع عشيق أو تمشي مع صديق، قد رأينا ورأيتم وسمعنا وسمعتم عن مثل ذلك من الأخبار ما يندى له الجبين، ألا فيا أيها الأولياء خذوا حذركم، واحرصوا على تربية أبناءكم وبناتكم، فإن فتن هذا الزمن أعظم من فتن الزمان الذي فيه تربيتم.

الخطبةالثانية :

الحمد لله ، والصلاةوالسلام على رسول الله ..

عباد الله : بعث صاحب مدين ابنته لموسى : (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء): مشية الحرائر، بعيدة عن البذاء، قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع  خَرَّاجة ولاجة) والسلفع من النساء : السليطة الجريئة، وما أكثرهن في هذا الزمن، (مائلات مميلات ـ متبخترات في مشيتهن ـ لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)..

ليس غريبا أن تمشي على استحياء، ذلك أن المرأة مفطورة على هذا الخلق الوضّاء، لكن الغريب أننا افتقدناه في نساء زماننا، مع أنّه رمز الأنوثة ورونقها، وهي رسالة نوجّهها لكل من أراد أن يتقدّم إلى امرأة ليتزوّجها، أنّ عنوان صلاحها وأنوثتها الحياء، ولن تعدم خيرا من امرأة تستحي .

جاءت إلى موسى قائلة في عبارة وجيزة أوضحت كلّ المراد: ( إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سيقت لنا) لم تزد على ذلك كلمة؛ لتعلمنا: أن ليس  للمرأة أن تخاطب الرّجال إلا لحاجة، وبقدر الحاجة كمّا وكيفا؛ قال تعالى : (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا)، وهذا الخطاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهنّ في زمن الصحابة الأطهار رضي الله عنهم أجمعين، فما بالك بزماننا ..

تأملوا كيف أنه لما كان الحديث مع البنتين لم نسمع من موسى في السياق القرآني غير قوله: (ما خطبكما) ليست كلمة غيرها، فلمّا جاء موسى أبا البنتين،وتكلم مع الرجل؛ استرسل في الكلام معه و(قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ)، فلئن تعجّبت من حياء البنت مرة، فتعجب من حياء موسى مرات، وكرات، ولتأخذ من ذلك أيها الرجل ووأيها الشاب أنّ تخلّي النساء عن الحياء في هذا الزمن لا يسوّغ لك ألا تكون به متحليا، لقد كان خير الرجال المصطفى صلى الله عليه وسلم : أشد حياء من العذراء في خدرها.

 (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) فقال الأب: وما عِلْمك بذلك؟ قالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئت معه تقدمتُ أمامهُ، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأتهدّى إليه .. لم يمنعها الحياء أن تحدث أباها في شأن الرجل، بل كان ذلك من صميم حياءها أن وجدت فرصةً تتخلص بها من الرّجوع لسقي الغنم، ومزاحمة الرجال، فيا ليت نساءنا تستغل فرصةَ أزواجهنّ العاملين فتمكثن في بيوتهنّ لرعاية أبناءهنّ الذين هم في أمس الحاجة إليهنّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها).

ثم تأملوا عباد الله : ذلك الحوار البديع الذي دار بين الوالد وابنته لتجد بينهما انسجاما، نفتقد مثله في أسرنا، وكيف تُعطى المرأة كرامتها، وتقبل مشورتها ..

تمعّن في ذلك الحوار ؛ لتجد توافقاوتواصلا نحتاج نحوه في عائلاتنا، بين الوالدوابنه أوابنته،  فقدانه كان السبب في فراغ عاطفي بحثت عنه البنت خارج جدران البيت، حتى قلّ بنت أن لا تجد لها خليلا يغازلها، ويملء بالحنان المسموم قلبها، وللأسف، فانتبهوا أيها الآباء وصاحبوا أبناءكم وبناتكم.

 ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وما أريد أن أشق عليك؛ عبارة ـ يا ليت أولياء الأمور ـ تكون شعارهم في تزويج بناتهم، فكم من الشباب يشتكون ويشتكون من غلاء المهور خصوصا، ومن غلاء تكاليف الزواج عموما فكان سببا من أهم أسباب عزوف الشباب عن الزواج إذ صار صعبا معسورا، في الوقت الذي بات الحرام سهلا ميسورا.  

  (قَالَ) موسى عليه السلام -مجيبا له فيما طلبه منه-: (ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) أي: حافظٌ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه.   

عباد  الله : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نسأل الله أن نكون منهم..

دعاء الختام

المشاهدات 5574 | التعليقات 0