عبادة التفكر والرحلات

هلال الهاجري
1445/06/21 - 2024/01/03 06:55AM

الحَمدُ للهِ الذي سَبَّحَتْ بحَمدِهِ الكَائناتُ، وَخَضَعتْ لعَظمتِهِ وَمُلكِهِ سَائرُ المَخلوقاتِ، العِالمِ بالأَسرارِ والخَفياتِ، لا يَخَفى عَليهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماواتِ، ولا تُعجزُهُ حَاجَاتُ السَّائلينَ على اختلافِ اللُّغاتِ، وَتَنوعِ اللهجاتِ، وتَعددِ الحَاجاتِ، وأَشهدُ أن محمدًا عَبدُهُ ورَسولُهُ أعَظمُ مَنْ تَفكَّرَ وتَأَملَ في خَلقِ الليلِ والنهارِ، وأَمرَ بالتفكُّرِ والاعتبارِ؛ صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ وأَتباعِهِ أُولي الألبابِ والأبصارِ، أَما بَعدُ:

عِبادَةٌ في كِتابِ اللهِ تَعَالَى مَوجودةٌ، ولَكِنْ لِلأَسفِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَفقُودةٌ، عِبَادةٌ يُستَعمَلُ فِيها القَلبُ والعَينانِ، ويَزدَادُ بِها اليَقينُ والإيمانُ، وَصَفَ اللهُ تَعالى أَصحَابَها في الكِتَابِ، بأَنَّهم هُم أَصحَابُ العُقُولِ والأَلبَابِ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، إنَّها عِبادَةُ التَّفَكُّرِ، والنَّظَرِ فِي مَخلُوقَاتِ اللهِ والتَّبَصُّرِ.

وَمِنْ أَفضَلِ الأَمَاكنِ التي يَحصُلُ بِها التَّفَكُّرُ، هُوَ الخُروجُ إلى بَاديَةِ الصَّحرَاءِ، بَعِيدَاً عَن صَخبِ المَدينةِ والأَضواءِ، هُنَاكَ حَيثُ النُّجومُ وصَفَاءُ السَّمَاءِ، فَيَتأمَّلُ في عَجِيبِ المَخلُوقَاتِ، في الأَرضِ والجِبالِ والسَّمَاواتِ، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)، ثُمَّ يَنطِقُ لِسَانُكَ دُونَ تَرَدُّدٍ: (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

مَا أَجمَلَ أَن يَخرُجَ الإنسَانُ إلى الصَّحرَاءِ، بَعدَمَا أَنزلَ اللهُ المَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَرى كَيفَ أَحيَا اللهُ تَعالى الأَرضَ بَعدَ مَوتِها، فَهَا هيَ النَباتَاتُ خَضرَاءُ وَارِفَةٌ، وَهَا هيَ الحَشَراتُ طَائرةٌ وزَاحِفَةٌ، فَتَتَذكَّرُ بِهَذا المَنظَرِ، البَعثَ والمَحشَرَ، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَ).

سَلِ الوَاحةَ الخَضراءَ والمَاءَ جَاريَا *** وهَذي الصَّحارَى والجِبالَ الرَّوَاسيَا
سَلِ الرَّوضَ مُزدانًا، سَلِ الزَّهرَ والنَّدى *** سَلِ اللَّيلَ والإصباحَ والطَّيرَ شَاديَا
وَسَلْ هَذهِ الأَنسَامَ والأَرضَ والسَّما *** وَسَلْ كُلَّ شَيءٍ؛ تَسمَعُ الحَمدَ سَاريَا

أَيُّها الأحبَّةُ .. ما أَحسنَ أَن يَكُونَ للإنسَانِ سَاعَاتٌ، يَخرُجُ فيهَا مِنْ تَرفِ الحَضَارةِ إلى الفَلَوَاتِ، ويَستَريحُ مِنَ التَّلوِّثِ والإزعَاجِ والانشِغَالاتِ، سُئلَتِ عَائشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا عَنِ البَداوةِ؟ -يَعني الخُروجِ إلى البَاديَةِ-، فَقَالتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ يَبْدو إلى هَذهِ التِّلاعِ، أَي: يَخرُجُ إلى المُرتَفَعَاتِ في الصَّحرَاءِ، وكَانَ يُمَازِحُ فيها أَهلَهُ وأَصحَابَهُ، ويُصَارِعُهم، ويُسَابِقُهم، فَيَدفَعُ الإنسَانُ عَن نَفسِهِ وَعَن أَهلِهِ المَللَ والسَّآمَةَ، (ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ).

فَإذا وَصَلَ المُتَنَزِّهونَ إلى المَكَانِ الذي سَيَنزِلُونَ فِيهِ، فلا يَنسوا دُعَاءَ النُّزولِ: قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَن نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قالَ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيءٌ حتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلِهِ ذلكَ)، وَليُذَكِّرْ أَحَدُهما الآخرَ، وَلِيُلَقَنَ الأطفَالَ هَذا الدُّعَاءَ، فَإنَّهُ لا يُدرى عَمَّا يَكونُ في تِلكَ البُقعَةِ مِنَ الهَّوامِّ والشُّرورِ.

فَإذا أَعجَبَكُم نَظَافةَ المَكانِ عِندَ نُزولِكم فِيهِ، فَاجعَلوهُ كَذَلِكَ لِغَيِرِكُم عِندَ مُغَادَرَتِكم لَهُ، فَلَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَمْ مِن نُزهَةٍ كَانَتْ سَبَباً في الشَّتمِ واللَّعنِ عَلى أَصحَابِها، بِسَببِ مَا تَركوهُ مِن قُمَامةٍ وَأَوسَاخٍ وَفَضَلاتٍ، فَأَفسَدوا على المُتَنَزِّهينَ أجمَلَ اللَّحَظَاتِ، فَكَانوا كَالذي تَسَبَّبَ بِجَلبِ اللَّعنَةِ عَلى نَفسِهِ، قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْن)،ِ قَالوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: (الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ)، وَكَذَلِكَ كُلُ مَا يُؤذي النَّاسَ فَهو مِثلُه في جَلبِ لَعنِهِم وشَتمِهِم.

أيُّها الأحِبَّةُ .. مَاذا نَفهَمُ مِن هَذَا الحديثِ: (إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ، فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها)، نَفهَمُ: التَّشجيعُ عَلى زِراعةِ النَّبَاتاتِ والأشجَارِ، حتى مَع قِيَامِ السَّاعةِ وانتِهاءِ الأعمَارِ، فلا يَنبغي قَطعَ الأشجَارِ الخَضراءِ، واتركُوها كَمَا هيَ جَمالاً وغِذاءً، وإذا أشعَلتُم نَاراً لِلتَدفِئةِ أو للطَّبخِ فَلا تَنَاموا حتى تَتَأكدوا مِن إطفائها، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ هذهِ النَّارَ عدوٌّ لكُم؛ فإذا نِمتُم فأطفِئُوها عنْكُم)، حَفِظَكُم اللهُ مِن كُلِّ مَكروهٍ.   

  أَقُولَ هَذا القَولَ، وَأَستغفرُ اللهَ لي ولَكم ولِسَائرِ المسلمينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ فَاستغفروه يَغفرْ لَكم، إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ عَظيمِ الإحسانِ، وَاسعِ الفَضلِ والجُودِ والامتنانِ؛ وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ صَلَّى اللهُ وَسلَمَ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وَصحبِهِ أَجمعينَ .. أَمَّا بَعدُ:

أَيَّها الأحبَّةُ .. إنَّ مِثَلَ هَذهِ الأَوقَاتِ في الرَّحَلاتِ، فُرصةً لِتَطبيقِ كَثيراً مِنَ السُّنَنِ والعِباداتِ، فُرصةً لِتطبيقِ الأذَانِ، وتَحصيلِ مَا فيهِ مِن أَجرٍ وإحسانٍ، قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ لأبي سَعِيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عَنهُ: (إنِّي أراكَ تُحِبُّ الغنمَ والباديةَ، فإذا كنتَ في غَنَمِك، أو باديتِك، فأذَّنتَ بالصَّلاةِ، فارفَع صوتَك، فإنَّهُ لا يسمَعُ مدى صوتِ المؤذِّنِ جنٌّ ولا إنسٌ، ولا شيءٌ، إلَّا شَهدَ لَه يومَ القيامَةِ)، وكَذَلِكَ الصَّلاةُ في النِّعَالِ، كَمَا جَاءَ في الحَديثِ: (خَالِفوا اليَهودَ فإنَّهم لا يُصَلُّونَ في نِعَالِهم ولا في خِفَافِهم)، وتَحصِيلِ أجرُ إسباغِ الوُضوءِ عَلى المَكارِهِ في شِدَّةِ البَردِ.

وفُرصَةٌ لِلتَّعَرفِ عَلى أحكَامِ المَسحِ عَلى الخُفينِ، والتَّيَممِ، وآدَابِ قَضَاءِ الحَاجةِ، ومَعرِفَةُ القِبلَةِ، ومَعرِفَةُ أحكَامِ القَصرِ والجَمعِ، والحِرصُ عَلى إتمَامِ الصَّلاةِ في الصَّحراءِ وعَدمِ الإخلالِ بِهَا، يَقُولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (الصَّلاَةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلاَةً، فَإِذَا صَلاَّهَا فِي فَلاَةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلاَةً).

وأَخيراً أيُّها الأحبَّةُ .. انتَبِهوا لأَنفُسِكُم ولأَهلِكُم ولأَحبَابِكُم مِن الأمَاكنِ القَاتِلةِ، كالآبارِ المَكشوفةِ الغَزيرةِ، ومَسَالِكِ السِّيولِ الخَطيرةِ، وتَذكَرُّوا قَولَ اللهِ تَعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، فَكَم مِن عَائلةٍ ذَهبُوا لِرَحلَةٍ في سُرورٍ وفَرحٍ، ورَجعُوا مِنها بِدُموعٍ وتَرحٍ، فَمَا أَقسَاها مِن لَحظةٍ، عَندَمَا عَادوا وهُناكَ مَكَانٌ في السَّيارةِ لَم يَرجعْ فِيهِ صَاحبُهُ.

اللهمَّ احفظنا بحفظِكَ، واكلأنَا بِرعَايتِكَ، وَحَببْ إلينا الإيمانَ، وزينهُ في قُلوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا مِن الرَّاشدينَ، اللهمَّ آنسْ وَحشتَنا في القُبورِ، وآمنْ فَزَعَنَا يَومَ البَعثِ والنُّشورِ، اللهمَّ إنا نَعوذُ بِكَ من عِلمٍ لا يَنفعُ، ومِنْ قَلبٍ لا يَخشعُ، ومِن نَفسٍ لا تَشبعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسمعُ، اللهمَّ احفظ بلادَنا وبلادَ المُسلمِينَ من كلِّ سُوءٍ ومكرُوه، اللهمَّ وآمنا في الأوطانِ والدورِ، وأَصلحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واعصمنا من الفِتنِ والشُّرورِ، اللهمَّ كُنْ للمستضعفينَ والمظلومينَ والمضطهدينَ، اللهمَّ فَرجْ هَمَّهم، ونَفِّسْ كَربَهم، وارفَعْ دَرجتَهم، واخلِفهُم في أَهلِهم، اللهمَّ أَزِلْ عَنهم العَناءَ، واكشفْ عَنهم الضُّرَّ والبَلاءَ، اللهمَّ أَنزلْ عَليهم من الصَّبرِ أَضعافَ مَا نَزلَ بهم من البَلاءِ، يَا سميعَ الدعاءِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

المرفقات

1704254129_عبادة التفكر والرحلات.docx

1704254139_عبادة التفكر والرحلات.pdf

المشاهدات 1377 | التعليقات 0