عبادة الاستماع لكلام الله

أيها المؤمنون.. يحرص الكثير على تلاوة القرآن، وعلى تدبره وتأمل معانيه والاهتداء بهديه، وهذا عمل عظيم، وفضله كبير وأجره جزيل، وغاية نبيلة في التعامل مع القرآن، ولكن عبادة سهلة وميسرة مع القرآن يزهد فيها البعض، تحوي أجورا عظيمة، وآثارها على القلب والبدن جليلة، ألا وهي عبادة الاستماع إلى القرآن، والتلذذ بالإنصات إليه، سواء في حلق القرآن أو عبر شاشات التلفاز أو الراديو أو أجهزة الجوال.

في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ "اقْرَأْ عَلَيَّ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنزلَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: "حَسْبُكَ الْآنَ" فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.

الاستماع إلى كلام الله والانصات إليه والتلذذ به عبادة جليلة، فهذا نبينا ﷺ يطلب من عبد الله بن مسعود أحد أصحابه قراءة القرآن؛ لينصت إليها رسول الله ﷺ ويتلذذ بالاستماع إليها وتدبر آياتها، ويقول عليه الصلاة والسلام " إني أحب أن أسمعه من غيري"، ولنا في رسول الهدى أسوة حسنة.

وكما أن أنبياء الله يحبون الاستماع إلى كلام الله، فالملائكة الكرام تحب أيضا سماع القرآن! فهذا أُسيد بن حضير رضي الله عنه بيْنَما هو يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إذْ جالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ فانصرف. يقول أسيد رضي الله عنه لرسول الله ﷺ لما أصبح، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فيها أمْثالُ المَصابِيحِ، فَخَرَجَتْ حتَّى لا أراها، قالَ: وتَدْرِي ما ذاكَ؟، قالَ: لا، قالَ: تِلكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولو قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها، لا تَتَوارَى منهمْ" رواه البخاري

أيها المؤمنون.. الاستماع لكلام الله من وسائل حياة القلب وغذاء الروح، وقد أخبر القرآن عن حال أولئك المستمعين لآيات الله، حيث جاء في وصفهم (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، فاستماعهم للقرآن الكريم بعناية واهتمام وتدبر غذى قلوبهم وأحياها، فزاد إيمانهم وعظم.

فهذا حال المؤمن المستمع لكلام الله، المنصت عند تلاوتها؛ يتأمل في معاني الآيات ويتدبرها، ويتلذذ بالسماع، فيخشع القلب ويقشعر الجلد عند آيات الخوف والوعيد والنار والعذاب، وعند آيات الوعد والجنان والرحمة والرجاء يسترخي البدن ويلين الجلد ويرتاح القلب ويطمئن (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ).

فأهل الإيمان عند سماع القرآن تطرق أسماعهم لكلام الله فتتأثر أبدانهم وقلوبهم، فتدمع أعينهم من آيات الله (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)، وقد يتعدى الأمر من دمع العين إلى البكاء! (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)، نسأل الله الكريم من فضله.

فهذا حال أهل الإيمان بالله عند سماع آيات الرحمن، يولونها عناية واهتماما، واستماعا وإنصاتا، تدبرا وتأملا، تأثرا وبكاء، كحال صفوة الخلق من أنبياء الله مع آيات الله، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) وإلى الله المشتكى من قسوة قلوبنا!

وقد أرشدنا ربنا سبحانه على الطريقة المثلى عند سماع القرآن، وهي تعظيم كلام الله وآياته بعدم التشاغل بغيرها، والانصات للقارئ وعدم الكلام والحديث أثناء تلاوة القرآن واستماعه؛ رجاء أن تنال رحمة الله تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وعلى من يريد الـتأثر بكلام الله والانتفاع به أن يكون قلبه حاضرا شاهدا، وسمعه مصغيا لآيات الله مستمعا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

أيها الكرام.. ينبغي لسامِع القرآن أنْ يستحضِرَ في قلبه عظمةَ المتكلِّم بالآيات القرآنية، وهو الله تبارك وتعالى، وأن هذه الآيات والكلمات التي نستمع إليها هي من كلام الله جل جلاله، تكلم بها بصوت وحرف مسموع، فنحن نتلو ونستمع إلى كلام ربِّ العزَّة، ومن لُطْفَ اللهِ تعالى علينا، أن خاطبنا بهذا الكلام العظيم، وتكفَّل بتيسير إفهامهم لنا. ولولا ذلك لعجزت الأفهام عن إدراك كلام الله الذي تجلَّى في شكل كلماتٍ وحروفٍ. ولولا تثبيت اللهِ لموسى عليه السلام لَمَا أطاقَ سماعَ كلامِه، كما لم يُطق الجبلُ حين تجلِّي ذي العرش فصار دكًّا.

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: أثر استماع القرآن ليس مقتصرًا على المؤمنين به فحسب؛ بل من عظمت القرآن وقوة تأثيره أن تأثر به أهل الكفر، جاء جبير بن مطعم وكان من كفار قريش ليفاوض النبي ﷺ في أسارى بدر، فلما وصل إلى المسلمين وإذا بهم في صلاة المغرب، والنبي ﷺ إمامهم يقرأ سورة الطور، فتأثر جبير بن مطعم بالقرآن وهو على كفره، وكان سببا في إسلامه، يقول جبير: سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ ﴾، قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ ! " أخرجه البخاري

أيها الكرام.. وقد جعل الله تعالى استماع القرآن سبباً لهداية الجن ودخولهم في الإسلام، (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، وجاء في حالهم وتأثرهم، بل وتأدبهم عند سماعهم للقرآن، (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ).

ولما قرأ رسول الله ﷺ سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ قال: (مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا. لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَرَّةٍ، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَتِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ. فَلَكَ الْحَمْدُ) رواه الحاكم.

عبدَ الله: فاستماع القرآن عبادة جليلة، وأمر إلهي، وسنة نبوية، فلنتلذذ بالاستماع لكلام الله، والأنس بآياته، ولا يكن مزمار الشيطان أحب إلى قلوبنا من كلام الرحيم الرحمن، فحب القرآن وحب ألحان ... الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان، ولنكثر من الاستماع لتلاوات القرآن، فما أسهل الوصول لوسائل الاستماع، وما أطيبها وأجملها على القلب، خاصة القلب الأسيف الحزين، والمهموم والمكلوم، والمذنب العاصي، فالقرآن للقلب ربيع وأنس وسعادة، وهو نور للصدور، وجلاء للأحزان، وذهاب للهموم والغموم.

المشاهدات 608 | التعليقات 0