عام جديد عظة ومجد وتذكير
صالح العويد
1437/01/03 - 2015/10/16 05:01AM
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل اللَّيل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكورًا، وأشهد أنَّ سيِّدنا وقدوتَنا محمَّدًا عبدُه ورسوله، المبعوث للعالَمين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار،وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ شذ في النار نعوذ بالله من النار يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان. تتجدّد الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا، فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم. إنّنا في هذهِ الأيّام ودعنا عامًا ماضيًا شهيدًا، واستقبلنا عامًا هجريا جديدًا، الذي يُذكِّرنا مطلَعُه بأمورٍ ثلاثة؛ يذكِّرنا بأنه عام الله، وأنه عامُ الإسلام، وأنه عام الأمَّة، فهو عام الله؛ لأنَّ الله هو الذي خلقه، واختاره لعبادِه، وجعل شهوره أشهرًا هلاليَّة قمريَّة، هي عند الله، مقرَّرة في كتابه العزيز؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36].
ربط الله دخول أشهر العام الهجريِّ بظهور الهلال؛ فقال - جلَّ جلاله -: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 189]؛ لكلِّ الناس، لا فَرْق في ذلك بين عربي وعَجمي، ولا بين شرقي وغربي؛ لأنَّ الهلال يَراه كلُّ الناس، فيَعرفون به دخول الشَّهرفعلامة دخول الشَّهر في الإسلام واضحة؛ رؤيةُ الهلال، الَّتي جعلَها الله تبيانًا لعدِّ الشهور والسنين؛ يقول ربُّ العزة - جلَّ وعلا -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [يونس: 5]، ثم ماذا؟ ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [يونس: 5]، إنه العام الحقُّ، والتقويم الحق، والمنهج الحق، والطريقة السليمة لحساب الشهور والسنين؛ ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5].ولا يكون ذلك في الأشهر الإفرنجيَّة؛ فدخول الشَّهر عندهم لا علامة تظهر للنَّاس حلوله، فهو نظامٌ شمسي، والشَّمس كما تشرق في أوَّله، تُشرق في آخره، فالعام الهجريُّ هو عام الله، وهو كذلك عام الإسلام؛ فإنَّ العرب قبل الإسلام، كانوا يؤرِّخون بالأحداث، فولادة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت عام الفيل؛ لأنَّ الحدث في ذلك العام قدومُ أبرهة الحبشي، بجيشٍ يتقدَّمه فيل؛ لِيَهدم الكعبة، فأرسل الله عليه الطَّيرَ الأبابيل , وسَمَّوا العام الذي فتَحَ الله فيه على المسلمين مكَّة بعام الفَتْح، واستمرَّت هذه الطريقة إلى عهد الفاروق عُمر - رضي الله عنه - ففي السَّنة الثالثة من خلافتِه، كتب إليه أبو موسى الأشعريُّ، وكان واليًا على البَصرة، أرسل إليه بقوله: "يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ"، فجمع الفاروقُ الصَّحابة، واستشارهم في الأمر، فقال بعضُهم: نُؤرِّخ بمولد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال آخرون: نؤرِّخ ببعثته، وقال غيرهم: نؤرخ بهجرته، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحقِّ والباطل، والهجرة أسَّست دولة الإسلام"، فاتَّفقوا على التَّأريخ بها، ثم قالوا: من أيِّ الشُّهور نبدأ عامنَا، قال بعضهم: نبدأ عامنا من رمَضان؛ فهو شهر البعثة وشهر القرآن، وقال بعضهم: نبدأ عامنا من شهر ربيعٍ الأول؛ شهر المولد، وشهر الهجرة، وقال غيرهم: نبدأ عامنا من شهر المحرَّم، فنجعل شهر ذي الحجَّة آخر شهور العام؛ فبالحجِّ ختمَ الله الإسلام، وبذي الحجَّة يختتم العام. وهو الشهر الذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام.
فاتَّفق الصحابة على الرأي الأخير، فصار المحرَّم أوَّلَ شهور العام الهجري، فالعام الهجريُّ هو عام الله، وهو عام الإسلام، وهو كذلك عام الأمَّة. فتاريخ أمتنا تاريخ لم تحصِّله أمة، ولم تنله نحلة، ولم يحققه شعب من الشعوب، احتُشي بالبذل والتضحيات، وسما بالبطولات الصحيحات، وارتوى بالمعالي والمكرمات، تاريخنا المجد والسيادة والبطولة، وتاريخنا النبل والشرف والرجولة.
ما ظنكم بتاريخ رفع أهلَه من مهاوي الضلال إلى نور الإسلام، وطهرهم من براثن الأوثان إلى عز الإيمان؟! أحسن المسلمون الأوائل أعمالهم مع الله تعالى، فأورثهم سماء العز والمجد؛ لذا فإن تاريخًا أسس حضارته رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهو التاريخ المشرق المنير بحق، وإن تاريخًا يحوي مآثر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لهو التاريخ الذي تتطلع إليه الأمم والشعوب. لله در الفاروق الملهم يوم أن ربط تاريخ الأمة بهذا الحدث العظيم ليظل منبهاً لها يوقظها كلما استرسلت في سباتها، الهجرة شجرة عظيمة باسقة سقاها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتضحياتهم فآتت أكلها بعد حين فهذا صهيب تفاوضه قريش على ماله فيفتدي نفسه ويشتري الهجرة بكل ماله فيربح البيع،وهذا أبوسلمة تفاوضه قريش على زوجه و تمزع يد ولده أمامه فيشتري الهجرة ويضحي بالزوجة والولد،وهذا الصديق رضي الله عنه يضحي بماله ونفسه وأهله مهاجراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلد الله له ذلك الموقف في آيات تتلى إلى يوم القيامة
فهل يحق لنا بعد ذلك تجاهل التاريخ وما فيه من جليل الأخبار وجميل الآثار؟! وهل يحق لنا إغفال تاريخ كُتب أكثره بمداد الأشلاء والأوصال والتضحيات؟! سلوا ديار الشام ورياضها, والعراق وسوادها, والأندلس وأريافها، سلوا مصر ووديانها, والجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها: هل روى رياض المجد إلا دماؤها؟! ما عرفت الدنيا أنبل منها ولا أكرم، ولا أرق ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم.ما إن قاربت هذه الأمة المائة عام حتى بلغ ملكها ثلث الكرة الأرضية .
عباد الله إن تذكر ذلك التاريخ المجيد يمحو شيئًا من معرّة الذل والهوان الذي تتذوّقه الأمة في هذه الأعصار، وإن العقلاء لينفطروا كمدًا على أمجاد مضت أصبحت تطوى فلا ذكرى ولا معتبر، كأن الأمة بواقعها المرير ليس لها مساس من قريب ولا بعيد بذلك التاريخ! ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[ لنلحق بركاب الهجرة لنهاجرمن ذل الذنوب والمعاصي لعز الطاعة ومن ضيق الدنيا لسعة الآخرة وجنة عرضها السموات والأرض،فلنهاجر إلى الله ـ تعالى ـ بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا
اقرؤوا التاريخ، وعلموه أبناءكم ونساءكم بصدق. ويا معلمي التاريخ، قوموا بواجبكم تجاه تاريخ أمتكم، واغرسوه بحرارة في قلوب الناشئة، واعرضوا منه الصور المشرقة، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف: 111]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على كلِّ حال، ونسأله العافيةَ والمعافاةَ الدائمةَ في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرّد بالعظمة والجلال، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله شريف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما دامت الأيام والليال.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى.واعلموا أنه ليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله، إن علينا أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب. إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله واعلموا أنكم في شهر الله المحرم من فضائلِه كثرةُ صيامِ أيّامه، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم وفيه يوم عاشوراء قال ابن عبّاس رضي الله عنهما عنه : ما علمتُ أنَّ رسولَ الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان، وعند الترمذي بسنَد صحيح أنَّ النبي قال: ((صيام يومِ عاشوراء أحتسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وفي صحيح مسلم أنّ النبي قال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ))، فلم يأت العامُ المقبل حتى توفّي النبي هذا واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدمجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين،اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ،وأذل الشرك واخذل المشركين، وانتصر لعبادك المظلومين ،واجعل الدائرة على الظالمين يا رب العالمين اللهم آمنافي أوطانناوأصلح أئمتناوولاة أمورناوأيدبالحق ولي امرناواجعله هاديامهدياواهدي اللهم ولاة المسلمين واجمعهم على كلمة الحق والدين واجعلهم رحمة على رعاياهم يارب العالمين اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين هداة مهتدين متبعين غير مبتدعين اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد (صلى الله عليه وسلم).. ونعوذ بك ما استعاذ منه عبدك ونبيك محمد (صلى الله عليه وسلم). اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجلة.. ما علمنا منه وما لم نعلم.. ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجلة.. ما علمنا منه وما لم نعلم اللهم إنانسألك الجنة وماقرب إليهامن قول وعمل ونعوذبك من الناروماقرب إليهامن قول وعمل ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.اللهم اغفرللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءمنهم والأموات ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار،وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ شذ في النار نعوذ بالله من النار يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان. تتجدّد الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا، فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم. إنّنا في هذهِ الأيّام ودعنا عامًا ماضيًا شهيدًا، واستقبلنا عامًا هجريا جديدًا، الذي يُذكِّرنا مطلَعُه بأمورٍ ثلاثة؛ يذكِّرنا بأنه عام الله، وأنه عامُ الإسلام، وأنه عام الأمَّة، فهو عام الله؛ لأنَّ الله هو الذي خلقه، واختاره لعبادِه، وجعل شهوره أشهرًا هلاليَّة قمريَّة، هي عند الله، مقرَّرة في كتابه العزيز؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36].
ربط الله دخول أشهر العام الهجريِّ بظهور الهلال؛ فقال - جلَّ جلاله -: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 189]؛ لكلِّ الناس، لا فَرْق في ذلك بين عربي وعَجمي، ولا بين شرقي وغربي؛ لأنَّ الهلال يَراه كلُّ الناس، فيَعرفون به دخول الشَّهرفعلامة دخول الشَّهر في الإسلام واضحة؛ رؤيةُ الهلال، الَّتي جعلَها الله تبيانًا لعدِّ الشهور والسنين؛ يقول ربُّ العزة - جلَّ وعلا -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [يونس: 5]، ثم ماذا؟ ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [يونس: 5]، إنه العام الحقُّ، والتقويم الحق، والمنهج الحق، والطريقة السليمة لحساب الشهور والسنين؛ ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5].ولا يكون ذلك في الأشهر الإفرنجيَّة؛ فدخول الشَّهر عندهم لا علامة تظهر للنَّاس حلوله، فهو نظامٌ شمسي، والشَّمس كما تشرق في أوَّله، تُشرق في آخره، فالعام الهجريُّ هو عام الله، وهو كذلك عام الإسلام؛ فإنَّ العرب قبل الإسلام، كانوا يؤرِّخون بالأحداث، فولادة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت عام الفيل؛ لأنَّ الحدث في ذلك العام قدومُ أبرهة الحبشي، بجيشٍ يتقدَّمه فيل؛ لِيَهدم الكعبة، فأرسل الله عليه الطَّيرَ الأبابيل , وسَمَّوا العام الذي فتَحَ الله فيه على المسلمين مكَّة بعام الفَتْح، واستمرَّت هذه الطريقة إلى عهد الفاروق عُمر - رضي الله عنه - ففي السَّنة الثالثة من خلافتِه، كتب إليه أبو موسى الأشعريُّ، وكان واليًا على البَصرة، أرسل إليه بقوله: "يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ"، فجمع الفاروقُ الصَّحابة، واستشارهم في الأمر، فقال بعضُهم: نُؤرِّخ بمولد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال آخرون: نؤرِّخ ببعثته، وقال غيرهم: نؤرخ بهجرته، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحقِّ والباطل، والهجرة أسَّست دولة الإسلام"، فاتَّفقوا على التَّأريخ بها، ثم قالوا: من أيِّ الشُّهور نبدأ عامنَا، قال بعضهم: نبدأ عامنا من رمَضان؛ فهو شهر البعثة وشهر القرآن، وقال بعضهم: نبدأ عامنا من شهر ربيعٍ الأول؛ شهر المولد، وشهر الهجرة، وقال غيرهم: نبدأ عامنا من شهر المحرَّم، فنجعل شهر ذي الحجَّة آخر شهور العام؛ فبالحجِّ ختمَ الله الإسلام، وبذي الحجَّة يختتم العام. وهو الشهر الذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام.
فاتَّفق الصحابة على الرأي الأخير، فصار المحرَّم أوَّلَ شهور العام الهجري، فالعام الهجريُّ هو عام الله، وهو عام الإسلام، وهو كذلك عام الأمَّة. فتاريخ أمتنا تاريخ لم تحصِّله أمة، ولم تنله نحلة، ولم يحققه شعب من الشعوب، احتُشي بالبذل والتضحيات، وسما بالبطولات الصحيحات، وارتوى بالمعالي والمكرمات، تاريخنا المجد والسيادة والبطولة، وتاريخنا النبل والشرف والرجولة.
ما ظنكم بتاريخ رفع أهلَه من مهاوي الضلال إلى نور الإسلام، وطهرهم من براثن الأوثان إلى عز الإيمان؟! أحسن المسلمون الأوائل أعمالهم مع الله تعالى، فأورثهم سماء العز والمجد؛ لذا فإن تاريخًا أسس حضارته رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهو التاريخ المشرق المنير بحق، وإن تاريخًا يحوي مآثر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لهو التاريخ الذي تتطلع إليه الأمم والشعوب. لله در الفاروق الملهم يوم أن ربط تاريخ الأمة بهذا الحدث العظيم ليظل منبهاً لها يوقظها كلما استرسلت في سباتها، الهجرة شجرة عظيمة باسقة سقاها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتضحياتهم فآتت أكلها بعد حين فهذا صهيب تفاوضه قريش على ماله فيفتدي نفسه ويشتري الهجرة بكل ماله فيربح البيع،وهذا أبوسلمة تفاوضه قريش على زوجه و تمزع يد ولده أمامه فيشتري الهجرة ويضحي بالزوجة والولد،وهذا الصديق رضي الله عنه يضحي بماله ونفسه وأهله مهاجراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلد الله له ذلك الموقف في آيات تتلى إلى يوم القيامة
فهل يحق لنا بعد ذلك تجاهل التاريخ وما فيه من جليل الأخبار وجميل الآثار؟! وهل يحق لنا إغفال تاريخ كُتب أكثره بمداد الأشلاء والأوصال والتضحيات؟! سلوا ديار الشام ورياضها, والعراق وسوادها, والأندلس وأريافها، سلوا مصر ووديانها, والجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها: هل روى رياض المجد إلا دماؤها؟! ما عرفت الدنيا أنبل منها ولا أكرم، ولا أرق ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم.ما إن قاربت هذه الأمة المائة عام حتى بلغ ملكها ثلث الكرة الأرضية .
عباد الله إن تذكر ذلك التاريخ المجيد يمحو شيئًا من معرّة الذل والهوان الذي تتذوّقه الأمة في هذه الأعصار، وإن العقلاء لينفطروا كمدًا على أمجاد مضت أصبحت تطوى فلا ذكرى ولا معتبر، كأن الأمة بواقعها المرير ليس لها مساس من قريب ولا بعيد بذلك التاريخ! ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[ لنلحق بركاب الهجرة لنهاجرمن ذل الذنوب والمعاصي لعز الطاعة ومن ضيق الدنيا لسعة الآخرة وجنة عرضها السموات والأرض،فلنهاجر إلى الله ـ تعالى ـ بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا
اقرؤوا التاريخ، وعلموه أبناءكم ونساءكم بصدق. ويا معلمي التاريخ، قوموا بواجبكم تجاه تاريخ أمتكم، واغرسوه بحرارة في قلوب الناشئة، واعرضوا منه الصور المشرقة، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف: 111]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على كلِّ حال، ونسأله العافيةَ والمعافاةَ الدائمةَ في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرّد بالعظمة والجلال، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله شريف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما دامت الأيام والليال.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى.واعلموا أنه ليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله، إن علينا أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب. إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله واعلموا أنكم في شهر الله المحرم من فضائلِه كثرةُ صيامِ أيّامه، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم وفيه يوم عاشوراء قال ابن عبّاس رضي الله عنهما عنه : ما علمتُ أنَّ رسولَ الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان، وعند الترمذي بسنَد صحيح أنَّ النبي قال: ((صيام يومِ عاشوراء أحتسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وفي صحيح مسلم أنّ النبي قال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ))، فلم يأت العامُ المقبل حتى توفّي النبي هذا واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدمجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين،اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ،وأذل الشرك واخذل المشركين، وانتصر لعبادك المظلومين ،واجعل الدائرة على الظالمين يا رب العالمين اللهم آمنافي أوطانناوأصلح أئمتناوولاة أمورناوأيدبالحق ولي امرناواجعله هاديامهدياواهدي اللهم ولاة المسلمين واجمعهم على كلمة الحق والدين واجعلهم رحمة على رعاياهم يارب العالمين اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين هداة مهتدين متبعين غير مبتدعين اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد (صلى الله عليه وسلم).. ونعوذ بك ما استعاذ منه عبدك ونبيك محمد (صلى الله عليه وسلم). اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجلة.. ما علمنا منه وما لم نعلم.. ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجلة.. ما علمنا منه وما لم نعلم اللهم إنانسألك الجنة وماقرب إليهامن قول وعمل ونعوذبك من الناروماقرب إليهامن قول وعمل ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.اللهم اغفرللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءمنهم والأموات ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.