عالَمٌ لا ندركه. (نص+ بي دي إف).

عاصم بن محمد الغامدي
1438/11/05 - 2017/07/28 07:32AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله عالِمِ الغيبِ والشهادةِ، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وصلى الله وسلم على خير خلقه وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإنه مَن اتقى الله وَقَاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده، ومن أقرضه جَزَاه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

عباد الله:

يحيط بالناس منذ خلقهم عالَمان، يختلف إدراكهم لها، وإيمانهم بها، عالَمٌ يرونه، ويُحِسُّونَ به، وعالَمٌ محجوبٌ عنهم.

في عالَم الشَّهادة أرضٌ وبحار، وكواكبُ وأقطار، شمسٌ وقمرٌ ونجومٌ، لغاتٌ وألوانٌ مختلفةٌ، وأمورٌ كثيرة.

وفي عالَم الغيب خالقٌ معبود، وملائكةٌ مقربون، وأنبياءُ مرسلون، ووحيٌ يتلى، وحياةٌ برزخية، وبعثٌ وجزاء، وجنةٌ ونارٌ.

ومقياس الإيمان، الفارق بين المؤمن والكافر، الذي تتمايز به القلوب، وتتفاوت بسببه الأعمال، هو الإيمان بما أخبر عنه ربنا تبارك وتعالى، ونبيه صلى الله عليه وسلم من الغيبيات.

الإيمان بالغيب أولُ صفة ذكرت للمؤمنين في أولِ سورة بعد الفاتحة، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، فالمؤمن يسلِّم بكلِّ ما ورد في القرآن والسنة، وإن لم يستوعبه عقله، والكافر ينكر عالَم الغيب، {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}.

عباد الله:

في وقتنا المعاصر انقسم الناس في الإيمان بالغيب إلى ثلاثة أقسام، فبعضهم أنكر الغيب جملة وتفصيلاً، وزعم أنه لا يؤمن إلا بما تشعر به حواسه، وبعضهم آمن بجزء من الغيب وأنكر جزءًا، والقسم الثالث المسلمون الذين يؤمنون بالغيب كله، وإن تفاوتت مراتبهم فيه.

أما من أنكر الغيب فهم الملحدون، الذين تُكذِّبُ زعمَهُمُ الباطلَ أفعالُهم، وتناقض كلُّ الفطر السليمة قناعاتِهم، أفلا يؤمنون بأدمغتهم، وأحلامهم، ومشاعرهم وهم لم يحسوها؟

أليس من المسلَّم به عندهم أن بصرَ الإنسانِ وسمعَه ولمسَه وشمَّه محدودَ القدرة؟ فلا يستطيع المرءُ أن يرى كلَّ ما حولَه في آن واحد، ولو ركز على جهة، فلبصره مسافة لا يستطيع تجاوزَها، فما الذي يجعل عقل الإنسان مختلفًا عن بقية حواسِّه في محدودية القدرة؟

إنَّ عالَمَ الغيب لا يمكن قياسه بالعقل، ولا محاكمته إليه، بل طريق العلم به الوحي الإلهي، فما أمكن تصوره فهو من نعم الله، وما لم يمكن فالمؤمنون يسلمون به دون بحثٍ في تفاصيله.

أما القسم الثاني الذين آمنوا بجزء من الغيب وأنكروا جزءًا، فهم أكثر أهل الأرض، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، قومٌ موقنون بوجود الله تعالى، وببعض كتبه ورسله، لكنهم مكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، منكرون للبعث والجزاء، فهل ينفعهم إيمانهم الجزئي شيئًا؟

أما القسم الثالث: فهم الناجون، الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله، فالإيمان بالغيب له ثلاثة أركان، تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، ومن هدم أحد هذه الأركان فقد فتح على نفسه بابًا من أبواب الضلال.

عباد الله:

من أقوى أسباب رسوخ الإيمان، قراءةُ كتاب الله تعالى، والإكثارُ من ذكره ودعائه والالتجاءِ إليه، واتباعُ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والإقبالُ عليه، وتأملُ آياتِ اللهِ المشاهدَةُ، في الأرض والنفس والسماء، حتى لا يجد الشيطان طريقًا إلى القلب إلا الوسوسة، والوسوسةُ حيلة العاجز، جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ». [رواه مسلم].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ» [أخرجه البخاري ومسلم]، وفي رواية: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ». [رواه أبو داود وحسنه الألباني].

وينقصُ الإيمان بالغيب بتتبع الماديات، وكثرة الغفلة، وعدم التحرز من المعاصي.

والمؤمن بالغيب مطمئن مهما وقع له من خير أو شر، فإن ظلم فإيمانه بالله واليوم الآخر يربط على قلبه، وإن منع حقه ففي اليوم الآخر توفى كلُّ نفس ما كسبت، وكلما زاد إيمان المرء بالغيب، صغرت عنده الدنيا، فما قيمة الدنيا عند من يؤمن أن موضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس؟

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإن من آثار الإيمان بالغيب، الإكثارَ من الطاعات، والبعدَ عن المحرمات.

تخيلوا مسلمًا دائمَ النوم عن صلاة الفجر، كثيرَ التفريط في السنن الرواتب، هل يكون ممن كَمُلَ إيمانُهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ». [رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني].

هل يستوي في الميزان من لا ينام قبل أن يوتر ولو بركعة، مع من لا يعرف الوتر أكثر ليالي العام؟ ومن يبادر إلى غض بصره وسمعه عن الحرام، مع من يطلقهما دون رقيب؟ قال الله جل جلاله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.

عباد الله:

لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنَه أصحابُه رضي الله عنهم، وشعروا بغياب القدوة التي كانت أمامهم، قال بعضهم: "فأنكرنا قلوبنا"، ونحن بحاجة ماسة إلى قدواتٍ للمجتمع، تأخذ بأيديهم إلى الخير، وتعمق في نفوسهم الإيمان بالغيب.

وأول لبنات المجتمع الأسرة، فاحرصوا على حسن بنائها، وكونوا قدوة خير لها، وأحسِنوا جوارَ نعم الله؛ فإنها قلَّ ما نفَرَت عن أهل بيتٍ فكادَت أن ترجِع إليهم.

ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على سيد الأولين والآخرين، وصاحب الشفاعة في يوم الدين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

المرفقات

لا-ندركه

لا-ندركه

المشاهدات 935 | التعليقات 0