عاقبة الطغاة
علي القرني
1434/10/12 - 2013/08/19 08:34AM
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وارْعَوا حُرُمَاتِ ربّكم، وقِفُوا عند حدودِه، وأَدُّوا حقوقَ خلقِه قبل أن لا يكونَ درهمٌ ولا دينارٌ، وإنما هي الحسناتُ والسيئاتُ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].معاشر المسلمين: هل حديثٌ أصْدَقُ من حديثِ القرآنِ؟ وهل وعْظٌ أَبْلَغُ مِنْ مواعظِ الفرقانِ؟ وهل قَصَصٌ أجودُ وأشدُّ أثراً من قَصَصِ الذِّكرِ الحكيمِ؟. فكمْ يَرى العبدُ في دنياه من مصائبَ، وأمورٍ يُنكرها، ربما تَزَعْزَعَ فيها يَقينُه، وضَعُفَ معها رجاؤُه، وتَشَتَّتَ بعدها فِكْرُه، فإذا أوردَ قلبَه كلامَ ربِّه عادَ للقلبِ صفاؤُه، وللنفسِ زكاؤُها.
وقد دعانا القرآنُ الكريمُ للنظرِ والاعتبارِ في حال الأممِ والحضاراتِ التي عاشتْ حيناً من الدهرِ وسادتْ، لكنهم لم يُسَخِّروا هذه الحضارةَ في عبوديةِ الله، فزالتْ حضارتُهم، وأصبحوا أثراً بعدَ عَيْنٍ.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9].
نقفُ مع نبأٍ من أنباءِ الغَيْبِ، وقِصَّةٍ مِنَ القَصَصِ الحقِّ، مليئةٍ بالدروسِ، مشحونةٍ بالعبرِ، فيها تسلية للمستضعفينَ، ورسالةُ إنذارٍ للطغاةِ والمتجبرين. فقصص القرآن ليست وقائع ماضية، بل سنن وحقائق باقية: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:176]. فمعَ خبرِ أمَّةٍ لم يُرَ مثلها في الطغيانِ والعناد، والبطشِ والفَسادِ، ظلموا أنفسَهم، وعَلَوا في الأرضِ، وما علموا أنَّ الطغيانَ مَهْلكةٌ للديارِ، مَفسدةٌ للأمصار، مَسْخطةٌ للجبار، نهايتُه ومآلُه خَيْبَةٌ ومَذَلَّةٌ: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً) [طه:111]. إنهم قومُ عادٍ الذين تزاهوا بالمالِ، وتباهوا بالقوة، فأورثَهم ذلك طغياناً وكفراً، وعِناداً وبَطَراً: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:7-8].
قال السُّدي: كانوا باليمن بالأحقاف، والأحقاف جبال الرمل، كما قاله ابن كثير.
وحين يتكرَّرُ حديثُ القرآنِ عن قومِ عادٍ فكأنما يُخاطبُنا بأنَّ اللهَ لا يخفى عليه أَمْرُ كلِّ من تَشَبَّه بعادٍ، فظَلَمَ العِباد، وأَفْسَدَ في البلادِ، ففوقه ربٌّ هو للظالمين بالمرصاد. بسَطَ اللهُ -سبحانه- لهذه الأمةِ قوَّةً في أجسادِهم، وضخامةً في أبدانِهم، قال -تعالى-: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) [الأعراف:69]؛ بل لم يَخْلُقِ اللهُ مثلَ قوَّتِهم؛ قال -سبحانه-: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:8]. فكانوا أقوى أهلِ زمانِهم عسكرياً واقتصادياً، وكانت لهم الخلافةُ بعد عصرِ نوحٍ -عليه السلام-: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف:69].
كان قومُ عادٍ أصحابَ رُقِيٍّ وعُمْرَانٍ، وحَضَارةِ في البناء، ومَدَنَيَّةٍ في الحياة، فمساكنُهم آيةٌ في الرَّوْعَةِ والفَنِ، أشار القرآن إلى شيء منها في قوله: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) [الفجر:7]، أي: ذات البناءِ الرفيع.
وزادهم اللهُ بسطةً في النَّعيم، فكانت أراضيهم جنات وعيونا، فزادتْ مواشِيهم، وفاضتْ أموالُـهم، وكَثُرَتْ أبناؤُهم، (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) عاشَ قومُ عادٍ حياةَ الترفِ، والالتهاءِ بالدنيا، فكان الواحدُ يُحْكِمُ بُنْيَانَه ويَرْفَعُهُ ويُباهي به، لا لحاجتِه؛ بل للمفاخرةِ والتطاول، (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) [الشعراء:128]. وتنافسوا أيضاً في الإكثارِ في بناءِ المساكنِ والبروجِ الشاهقة لِيَخْلُدَ في الدنيا ذكرُهم: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [قابَلَتْ هذه الأمة... نِعَمَ اللهِ بالكُفْرَانِ، وآلاءَه بالجحودِ والنُّكرانِ، فعبدوا الأوثانَ، واعتقدوا فيها النفعَ والضّرَ، فلم تُغن عنهم حضارتُهم وتقدُّمهم شيئاً. فصَدَقَ فيهم قولُ الحقِّ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]. وكانت تلك الأمةُ قد فشا فيهم الظلم: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:130]، وفيهم طغاةٌ يُطاعونَ: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [هود:59]، وغرَّتْهُم حضارتُهم وقوتُهم فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ منَّا قُوَّةً) [فصلت:15]. بعث الله لهم نبيه هوداً -عليه السلام-، فدعا وذكَّر، ونصح وأشفق فقال: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) دعاهم إلى عبادةِ الله وحده، ونبذ الأوثان: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [ وذكَّرَهُمْ نِعَمَ اللهِ الدارَّة عليهم: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ وحثهم على الاستغفارِ والتوبة، وأنَّ الرجوعَ إلى اللهَ يزيدُهم خيراً: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) وبين لهم أنه لا يريد من هذه الدعوة نفعاً أو مالاً: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [هود:51]. آمن مع هودٍ مَن آمنَ من قومِه، وأكثرُ قومه اختاروا طريق الهوى والعناد والإعراض، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]. فقابلوا هذه الدعوة الصادقة بمواقف عدة حكاها القرآن في مواضع متفرقة. فاحتقروا نبيَّهم، ورموه بالسَّفاهةِ والكّذِبِ: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [واتهموه في عقله: (إنْ نَقولُ إلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) [هود:54]، وادَّعوا أنه لم يأتهم بالأدلة المقنعة على دعوته: (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ) [هود:53]، وصارحوه بالكفر: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مَكَثَ هودٌ ما شاءَ اللهُ له أنْ يَمْكُثَ في قومِه، ودارت بينَه وبين قومِه جلساتُ حوارٍ ومناظرة، واستخدمَ معهم وسائلَ الإقناع، وطرائقَ التأثير، رغَّبَ ورهَّبَ، ولاَنَ وتَرَفَّقَ، حتى ملَّ قومُه هذا الحوارِ، وتلك النصائح، فــ (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) وأعلنُوها صراحة: إنَّ طريق الآبائية هو الحقُّ وهو الهدى! (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إخوة الإيمان: يقول من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لَيُمْلي للظالم؛ حتى إذا أخذه لم يفلته". أمر اللهُ سماءَه فأمسكتْ، وأرضَه فأجدَبَتْ، فعاشت عاد تتشوفُ غيثَ السماء وتتحيَّن، فبينما الطغاة والمعاندون وأتباعهم في لهوهم سادرون، وفي غيهم لاهون، إذ أَذِنَ اللهُ لجندٍ من جندِه أن يتحرك، أذن للهواءِ الساكنِ أن يضطربَ ويَهيجَ، ويَثورَ ويُزَمْجِرَ، فإذا هو يسوقُ السحابَ سوقاً، فلما رأوه مستقبلا أوديتهم استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، قال الله: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيم. ريحٌ باردةٌ عاتيةٌ، ما تَذَرُ من شيءٍ إلا جعلتهُ كالرَّميمِ، ريحٌ عَقِيم، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سخرها عليهم الجبارُ سبع ليالٍ وثمانيةَ أيام، من قوَّتِها أنها كانت تحملُهم إلى أعلى، فتتصاعد أجسادهم إلى السماء، ثم تُنَكِّسُهم على رؤوسِهم، فَتَنْدقُّ أعناقُهم، وهذا جزاء المستكبرين في الدنيا، تراهم صرعى (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8]. فيا لله! تصوَّر هذا الإنسانَ على هذه الهيئة المنكَّسةِ قد كان بالأمس ينادي: من أشد منا قوة؟!. فأفٍ لهذا الإنسانِ حين يَظنُّ أنه خُلِقَ ليتعالى على خلقِ الله! أفٍّ لهذا الإنسانِ حين يَضِلُّ سعيُه في الحياةِ الدنيا من أجلِ أمجادٍ زائفةٍ زائلةٍ! أفٍّ لحضاراتٍ ودولٍ تسترخص الدماءَ، وتتسلَّطُ على الضعفةِ والأبرياءِ، ولسان حالها: من أشدُّ منا قوة؟!. فيا ويل! ثم يا ويل! من نُزِعَتْ من قلوبِهم الرحمةُ، ففجعوا الأمَّ بوليدِها، وجرَّعوا مراراتٍ من الأسى بيوتا بريئة، رُمِّلَتْ نساؤُها، ويُتِّمَتْ أطفالُـها، وبَكَتْ رجالُـها، ودامتْ أحزانُها. نعم؛ هذه نهايةُ الطغيان، وهذه خاتمةُ الكفرِ والتعالي والنكران، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.......... الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ما أحوجنا في عصرٍ سادَ فيه الصراُع بينَ الحقِّ والباطلِ، والإيمانِ والنفاقِ، والإصلاحِ والإفسادِ أن نوردَ قلوبَنا قَصَصَ الأنبياء، فهم مناراتُ هدىً لمن بعدهم.
فمعرفةُ أخبارِهم وأحوالِهم، وسننِ الله فيمن خالفَهم، تزرع في القلوبِ الإيمان، وتعيد للمؤمن توازنه في رؤيتِه وتفكيرِه، ونظرته للحياة، وتفسيره للأحداث، وبالأخص في وقت كثرت فيه الــمُشِتَّات، والتفسيرات المادية البعيدة عن نور القرآن. عباد الله: وفي خبرِ قومِ عادٍ عبرٌ وعظات، وفوائدُ وإشارات. منها أن الإصلاحَ يبدأُ من التوحيدِ وغرسِه، ونبذِ الشركِ والبدع، والتعلق بالخرافات؛ ولذا استهل هودٌ دعوتَه بـ: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [هود:50]. ومنها: أن التقليدَ الأعمى، والتعصبَ للآباء والإعراض عن هدايات الرسل؛ سبب لطمس القلوب وقسوتها، فلا ترى نور الحق، ولا تقبل دعوة المشفقين الناصحين. وفي خبر هود مع قومه رسالة للدعاة والمصلحين والآباء والمربين أن يسلكوا مسالك الترفق والحلم واللين، فهذا هود نبذَه قومه وعيَّروه، وكذَّبوه، وسخروا منه، ومع ذلك ما انتصر لنفسه فقابل الإساءة بمثلها، بل ناداهم بعبارة (يَا قَوْمِ)، المشعرة باللين والشفقة، ولم يقل: يا كفرة يا عصاة يا فجرة!.
ومن الفوائد: أن إيذاءَ المصلحينَ ونبزَهم بألقاب منفرة هي سياسة المفسدين قديماً، فهودٌ عليه السلام اتُّهم بقلة العقل، والسفاهة، وعدم الفهم. ومن دروس القصة أنه يتعين على ورثة الأنبياء من العلماء وطلاب العلم العزوف عما في أيدي الناس، فهو أدعى وأحرى لقبول دعوتهم، وثقة الناس بهم، وقد خاطب هودٌ عليه السلام قومه، (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍوفي مواعظ هود -عليه السلام- أن الإنابة إلى الله والتمسك بشريعته؛ سبب لحصول الخيرات في الدنيا، فقد رغب هودٌ قومه إن هم استجابوا بمصالح لهم في الدنيا، (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]. فترغيب الناس في الدين لتصلح لهم دنياهم هو نهج المرسلين،
تلك -عباد الله- شيء من فوائد قصة عاد، والفوائد كثيرة، جعلنا الله وإياكم من أهل العظة والاعتبار، وأبعد عنا موجبات غضبه، وجميع سخطه.
وقد دعانا القرآنُ الكريمُ للنظرِ والاعتبارِ في حال الأممِ والحضاراتِ التي عاشتْ حيناً من الدهرِ وسادتْ، لكنهم لم يُسَخِّروا هذه الحضارةَ في عبوديةِ الله، فزالتْ حضارتُهم، وأصبحوا أثراً بعدَ عَيْنٍ.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9].
نقفُ مع نبأٍ من أنباءِ الغَيْبِ، وقِصَّةٍ مِنَ القَصَصِ الحقِّ، مليئةٍ بالدروسِ، مشحونةٍ بالعبرِ، فيها تسلية للمستضعفينَ، ورسالةُ إنذارٍ للطغاةِ والمتجبرين. فقصص القرآن ليست وقائع ماضية، بل سنن وحقائق باقية: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:176]. فمعَ خبرِ أمَّةٍ لم يُرَ مثلها في الطغيانِ والعناد، والبطشِ والفَسادِ، ظلموا أنفسَهم، وعَلَوا في الأرضِ، وما علموا أنَّ الطغيانَ مَهْلكةٌ للديارِ، مَفسدةٌ للأمصار، مَسْخطةٌ للجبار، نهايتُه ومآلُه خَيْبَةٌ ومَذَلَّةٌ: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً) [طه:111]. إنهم قومُ عادٍ الذين تزاهوا بالمالِ، وتباهوا بالقوة، فأورثَهم ذلك طغياناً وكفراً، وعِناداً وبَطَراً: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:7-8].
قال السُّدي: كانوا باليمن بالأحقاف، والأحقاف جبال الرمل، كما قاله ابن كثير.
وحين يتكرَّرُ حديثُ القرآنِ عن قومِ عادٍ فكأنما يُخاطبُنا بأنَّ اللهَ لا يخفى عليه أَمْرُ كلِّ من تَشَبَّه بعادٍ، فظَلَمَ العِباد، وأَفْسَدَ في البلادِ، ففوقه ربٌّ هو للظالمين بالمرصاد. بسَطَ اللهُ -سبحانه- لهذه الأمةِ قوَّةً في أجسادِهم، وضخامةً في أبدانِهم، قال -تعالى-: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) [الأعراف:69]؛ بل لم يَخْلُقِ اللهُ مثلَ قوَّتِهم؛ قال -سبحانه-: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:8]. فكانوا أقوى أهلِ زمانِهم عسكرياً واقتصادياً، وكانت لهم الخلافةُ بعد عصرِ نوحٍ -عليه السلام-: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف:69].
كان قومُ عادٍ أصحابَ رُقِيٍّ وعُمْرَانٍ، وحَضَارةِ في البناء، ومَدَنَيَّةٍ في الحياة، فمساكنُهم آيةٌ في الرَّوْعَةِ والفَنِ، أشار القرآن إلى شيء منها في قوله: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) [الفجر:7]، أي: ذات البناءِ الرفيع.
وزادهم اللهُ بسطةً في النَّعيم، فكانت أراضيهم جنات وعيونا، فزادتْ مواشِيهم، وفاضتْ أموالُـهم، وكَثُرَتْ أبناؤُهم، (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) عاشَ قومُ عادٍ حياةَ الترفِ، والالتهاءِ بالدنيا، فكان الواحدُ يُحْكِمُ بُنْيَانَه ويَرْفَعُهُ ويُباهي به، لا لحاجتِه؛ بل للمفاخرةِ والتطاول، (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) [الشعراء:128]. وتنافسوا أيضاً في الإكثارِ في بناءِ المساكنِ والبروجِ الشاهقة لِيَخْلُدَ في الدنيا ذكرُهم: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [قابَلَتْ هذه الأمة... نِعَمَ اللهِ بالكُفْرَانِ، وآلاءَه بالجحودِ والنُّكرانِ، فعبدوا الأوثانَ، واعتقدوا فيها النفعَ والضّرَ، فلم تُغن عنهم حضارتُهم وتقدُّمهم شيئاً. فصَدَقَ فيهم قولُ الحقِّ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]. وكانت تلك الأمةُ قد فشا فيهم الظلم: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:130]، وفيهم طغاةٌ يُطاعونَ: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [هود:59]، وغرَّتْهُم حضارتُهم وقوتُهم فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ منَّا قُوَّةً) [فصلت:15]. بعث الله لهم نبيه هوداً -عليه السلام-، فدعا وذكَّر، ونصح وأشفق فقال: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) دعاهم إلى عبادةِ الله وحده، ونبذ الأوثان: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [ وذكَّرَهُمْ نِعَمَ اللهِ الدارَّة عليهم: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ وحثهم على الاستغفارِ والتوبة، وأنَّ الرجوعَ إلى اللهَ يزيدُهم خيراً: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) وبين لهم أنه لا يريد من هذه الدعوة نفعاً أو مالاً: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [هود:51]. آمن مع هودٍ مَن آمنَ من قومِه، وأكثرُ قومه اختاروا طريق الهوى والعناد والإعراض، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]. فقابلوا هذه الدعوة الصادقة بمواقف عدة حكاها القرآن في مواضع متفرقة. فاحتقروا نبيَّهم، ورموه بالسَّفاهةِ والكّذِبِ: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [واتهموه في عقله: (إنْ نَقولُ إلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) [هود:54]، وادَّعوا أنه لم يأتهم بالأدلة المقنعة على دعوته: (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ) [هود:53]، وصارحوه بالكفر: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مَكَثَ هودٌ ما شاءَ اللهُ له أنْ يَمْكُثَ في قومِه، ودارت بينَه وبين قومِه جلساتُ حوارٍ ومناظرة، واستخدمَ معهم وسائلَ الإقناع، وطرائقَ التأثير، رغَّبَ ورهَّبَ، ولاَنَ وتَرَفَّقَ، حتى ملَّ قومُه هذا الحوارِ، وتلك النصائح، فــ (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) وأعلنُوها صراحة: إنَّ طريق الآبائية هو الحقُّ وهو الهدى! (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إخوة الإيمان: يقول من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لَيُمْلي للظالم؛ حتى إذا أخذه لم يفلته". أمر اللهُ سماءَه فأمسكتْ، وأرضَه فأجدَبَتْ، فعاشت عاد تتشوفُ غيثَ السماء وتتحيَّن، فبينما الطغاة والمعاندون وأتباعهم في لهوهم سادرون، وفي غيهم لاهون، إذ أَذِنَ اللهُ لجندٍ من جندِه أن يتحرك، أذن للهواءِ الساكنِ أن يضطربَ ويَهيجَ، ويَثورَ ويُزَمْجِرَ، فإذا هو يسوقُ السحابَ سوقاً، فلما رأوه مستقبلا أوديتهم استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، قال الله: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيم. ريحٌ باردةٌ عاتيةٌ، ما تَذَرُ من شيءٍ إلا جعلتهُ كالرَّميمِ، ريحٌ عَقِيم، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سخرها عليهم الجبارُ سبع ليالٍ وثمانيةَ أيام، من قوَّتِها أنها كانت تحملُهم إلى أعلى، فتتصاعد أجسادهم إلى السماء، ثم تُنَكِّسُهم على رؤوسِهم، فَتَنْدقُّ أعناقُهم، وهذا جزاء المستكبرين في الدنيا، تراهم صرعى (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8]. فيا لله! تصوَّر هذا الإنسانَ على هذه الهيئة المنكَّسةِ قد كان بالأمس ينادي: من أشد منا قوة؟!. فأفٍ لهذا الإنسانِ حين يَظنُّ أنه خُلِقَ ليتعالى على خلقِ الله! أفٍّ لهذا الإنسانِ حين يَضِلُّ سعيُه في الحياةِ الدنيا من أجلِ أمجادٍ زائفةٍ زائلةٍ! أفٍّ لحضاراتٍ ودولٍ تسترخص الدماءَ، وتتسلَّطُ على الضعفةِ والأبرياءِ، ولسان حالها: من أشدُّ منا قوة؟!. فيا ويل! ثم يا ويل! من نُزِعَتْ من قلوبِهم الرحمةُ، ففجعوا الأمَّ بوليدِها، وجرَّعوا مراراتٍ من الأسى بيوتا بريئة، رُمِّلَتْ نساؤُها، ويُتِّمَتْ أطفالُـها، وبَكَتْ رجالُـها، ودامتْ أحزانُها. نعم؛ هذه نهايةُ الطغيان، وهذه خاتمةُ الكفرِ والتعالي والنكران، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.......... الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ما أحوجنا في عصرٍ سادَ فيه الصراُع بينَ الحقِّ والباطلِ، والإيمانِ والنفاقِ، والإصلاحِ والإفسادِ أن نوردَ قلوبَنا قَصَصَ الأنبياء، فهم مناراتُ هدىً لمن بعدهم.
فمعرفةُ أخبارِهم وأحوالِهم، وسننِ الله فيمن خالفَهم، تزرع في القلوبِ الإيمان، وتعيد للمؤمن توازنه في رؤيتِه وتفكيرِه، ونظرته للحياة، وتفسيره للأحداث، وبالأخص في وقت كثرت فيه الــمُشِتَّات، والتفسيرات المادية البعيدة عن نور القرآن. عباد الله: وفي خبرِ قومِ عادٍ عبرٌ وعظات، وفوائدُ وإشارات. منها أن الإصلاحَ يبدأُ من التوحيدِ وغرسِه، ونبذِ الشركِ والبدع، والتعلق بالخرافات؛ ولذا استهل هودٌ دعوتَه بـ: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [هود:50]. ومنها: أن التقليدَ الأعمى، والتعصبَ للآباء والإعراض عن هدايات الرسل؛ سبب لطمس القلوب وقسوتها، فلا ترى نور الحق، ولا تقبل دعوة المشفقين الناصحين. وفي خبر هود مع قومه رسالة للدعاة والمصلحين والآباء والمربين أن يسلكوا مسالك الترفق والحلم واللين، فهذا هود نبذَه قومه وعيَّروه، وكذَّبوه، وسخروا منه، ومع ذلك ما انتصر لنفسه فقابل الإساءة بمثلها، بل ناداهم بعبارة (يَا قَوْمِ)، المشعرة باللين والشفقة، ولم يقل: يا كفرة يا عصاة يا فجرة!.
ومن الفوائد: أن إيذاءَ المصلحينَ ونبزَهم بألقاب منفرة هي سياسة المفسدين قديماً، فهودٌ عليه السلام اتُّهم بقلة العقل، والسفاهة، وعدم الفهم. ومن دروس القصة أنه يتعين على ورثة الأنبياء من العلماء وطلاب العلم العزوف عما في أيدي الناس، فهو أدعى وأحرى لقبول دعوتهم، وثقة الناس بهم، وقد خاطب هودٌ عليه السلام قومه، (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍوفي مواعظ هود -عليه السلام- أن الإنابة إلى الله والتمسك بشريعته؛ سبب لحصول الخيرات في الدنيا، فقد رغب هودٌ قومه إن هم استجابوا بمصالح لهم في الدنيا، (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]. فترغيب الناس في الدين لتصلح لهم دنياهم هو نهج المرسلين،
تلك -عباد الله- شيء من فوائد قصة عاد، والفوائد كثيرة، جعلنا الله وإياكم من أهل العظة والاعتبار، وأبعد عنا موجبات غضبه، وجميع سخطه.
المشاهدات 3518 | التعليقات 2
وصدق الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال : لو صفت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا .
وهذه قصة من قصص القرآن مشحونة بالآيات والعبر وكذلك قصة كل ظالم فسنن الله لا تتبدل معهم وكذلك نقول للمستضعفين قول موسى عليه السلام لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
مهما علا الباطل وانتفش وعظم الشر وانتشر فإنه مغلوب ومهما ضعف الحق وانزوى فإنه غالب بإذن الواحد الأحد فالأمر أمره والكون كونه والخلق خلقه سبحانه ولله الأمر من قبل ومن بعد .
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
ما كتبت شيخ أبا عبد الملك حكمة بالغة فأين المدكرون من قصص من سبق ؟ وأين الوقافون عند حدود الله ؟ وأين المعظمون لحرماته؟ وما سوق هذه القصص في القرآن العظيم إلا لأخذ العظة والعبرة وحتى لا يصبنا ما أصابهم كما قال الله - تعالى -:(وما هي من الظالمين ببعيد ) وقوله: (وللكافرين أمثالها ).
جزيت الخير ونلت الفضل
تعديل التعليق