عاصوف الفساد ولصوص رمضان
عبدالرحمن اللهيبي
خطبة جمعت بتصرف نسأل الله أن ينفع بها
الحمد لله الذي سهل لعباده طرقَ العبادة ويسر، وشرع مواسم الخير ليُنيب فيها العبدُ إلى ربه ويتطهر , وأشهد ألا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهد أن سيدنا مُحَمداً عبدهُ ورسولهُ، نبيٌ غُفرَ لهُ ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير صحب ومعشر ما صام عبد لله وأفطر..
أما بعد.. فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واحمدوه واشكروه على أن بلغكم شهر رمضان .. رمضانُ الرحمة والذكر، رمضان الطاعة والطهر ، فيه العتق والغفران وليلةُ القدر ، وفي ختامه بهجةُ العيدِ وفرحةُ الفطر ..
أيها المسلمون: أنتم في شهر ترفع فيه الدرجات, وتعظم فيه الحسنات, انتم في شهر يُعطى فيه السائلُ, ويُغفرُ ذنب التائبِ, شهرٌ تتصلُ فيه القلوبُ ببارئِها، وتمتلئُ المساجد بروَّادِها هذا مُصلٍّ وهذا ذاكرٌ ، وآخرُ يتلوا كتابَ ربِّه في المساء والباكر ، كُلُّهم يرجونَ الأجرَ والثواب والتخلُّصَ من الذنوبِ والأوزار .. ترى هؤلاءِ فتستبشر بكثرة المقبلين على الله .. وتهنأ بكثرة الناس في المساجد وتحمدُ الله
لكنكَ تحزنُ وأنتَ ترى بالمقابلِ لصوصا مجرمين يسرقون من المسلمين روحانية رمضان؟! وتتألم حين ترى قطاع الطرق إلى الله يسطون على أجور الصائمين فيسلبونها , ويغتصبون حرمات الشهر المبارك فينتهكونها , ويعتدون على ساعات إيمانية رائعة فيفسدونها.. أولم يكفهم أنهم يسطون على أجور المسلمين طوال العام ويقطعون طريق العٌبّاد إلى الجليل المنان حتى اجترؤوا بخبث على انتهاك حرمة رمضان! لعلكم يا مسلمون عرفتم هؤلاء المجرمين السُرّاق واللصوص الفساق؟! إنَّهم من اعتدَى على الأُمةِ بقنواتِهم الفضائيةِ الآثمة، وبغوا عليهم باسم الترفيهِ عن الصائمين ببرامجَ ومسلسلاتٍ ماجنة يتنافسون بينَهم لإشاعة السوء والفاحشة فأفسدوا على كثير من المسلمين صيامهم كيف وقد قال عليه الصلاة والسلام: من لم يدع قولَ الزور والعمل به فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدَع طعامهَ وشرابَه.
يا عبد الله إنك لا تقبل أن يسطوَ رجلٌ عليك فيأخذ منك مالَك , وينتهك حرماتِك .. وأنت قادر على منعه وردعه , فكيف ترضى أن يسطو هؤلاء المجرمين على حسناتِك؟ ويفسدوا عليك رمضانَك؟
عبر تلك البرامج الآثمة والمسلسلات التافهة التي تحملُ في مشاهدها فسادا وفسقاً , وفجورا ورقصاً, وانحلالا وسكرا , والأعظمُ من كل ذلك ما فيها من استباحة المحرمات, وانتقاص شريعة رب البريات, وتشويهاً للتاريخِ وتدنيسه.. واتهاما لجيل سابق من الآباء والأمهات بالانحلال والفساد, وهم لا يريدون من ذلك إلا تطبيع الانحراف وتسويغه وترويجه وتوريثه من جيل لآخر ومن الأصل إلى المنشأ , وحاشا آباؤنا أن يكونوا شُرّابا للخمور , ورواداً في مجالس اللهو والزور , وحاشا أمهاتنا أن يكنَّ بِغاء يلقون بأطفالٍ من الزنا عند أبواب المساجد , لقد كانت الواحدة من أمهاتنا تنتقب حتى عند محارمها من شدة حيائها , نعم لا يسلم مجتمع من وجود محرمات وشذوذ غير أن تغليبها في المجتمع وتضخيمها وصبغها به بهدف ترويجها وتطبيعها وتوريثها لا يكون إلا من المنافقين ومحبي إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وقد توعدهم القوي العزيز بقوله: " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "
ولو قلنا بأن مجتمع الجيل السابق من الآباء والأمهات كان على ما صور من غلبة الفساد والانحراف عليه فإنه لم يجز لنا اتباعهم وإرث فسادهم وإلا كنا كمن قال الله فيهم " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "
فيا لله ما أشد جرمهم وما أعظم وزرهم ألم يكفِ هذه القنوات ورجالِها ما أفسدوه في المسلمين خلال العام؟! حتى يعتدوا على رمضان!!..كيف جعلوا من شهر التقى والعفاف موسمَا لإشاحة الفساد والانحلال كيف حولوه لحياةٍ لاهيةٍ وسمرٍ عابثٍ أين هم من النداء الرمضاني {يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاءُ من النار في كل ليلة}
وكيف ترضون يا صائمون لشياطين الإنس والجن أن يتسببوا لكم في خسارةِ رمضان وكيف تستبدلون الإثم والأوزار بالمغفرةِ والرحمةِ والعتقِ من النار؟! وكيف تقبلون أن تكونوا عُبّادا لله في النهار بالتلاوة والذكرِ والاستغفارِ ، ثم تعكفون في الليل أمام هذه الشاشات فتمسحون ما حصلتموه من حسنات في النهار ,
فهل هذا هو مراد الله من فريضة الصيام .. ألم يقل الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
قد يتهمني البعض هنا بالمبالغة والتهويل والغلو والتشديد ولكن تعالوا بنا يا مسلمون إلى حديثٍ صدقٍ فيه مع أنفسنا
أما حرم الله علينا معاشر الرجال النظر إلى المرأة الأجنبية وهي متبرجة بلا حجابٍ وربما ليس عليها إلا الرقيق من الثياب؟؟ فقال تعالى " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ " مع أن الواقع في الأمر أعظم من هذا فالذي يُعرضُ على الناسِ في رمضان هو مسلسلاتُ العشقِ والغرام ، يعرضُ على الناسِ الغزل والعلاقات المحرمة ، يعرضُ على الناس صور التهوين من الزنا وحجابِ المرأةِ ، يُعرضُ على الناسِ الخمرُ والمسكرات.. يعرض على الناس كلبات غنائيةٌ ماجنة ورقصات عاهرة يستحي الإنسانُ من وصفِهَا وهي لا تتوقَّفَ حتى في رمضان يا تُرى هل تبلَّدت أحاسيسُنا؟! وهل غاضت الغيرة من قلوبنا وهل ماتت الكثيرُ من الفضائل في نفوسِنا حتى صرنا لا نُنكرُ وجودَ رجلٍ وامرأة يمارسونَ دور الحب والغرام ثم نصفُهم بالنجومية والابداع
برامجُ تجعلُنا نألف مَناظرَ اِحتساءِ الخمرِ والتدخين والعلاقات المحرمة والغزل بين الجنسين، وتقبَّلنا كل هذا ونجلس بأولادنا وبناتنا وأسرنا على أنه تمثيل، وكل مسلم لديه أدنى بصيرة من علم ودين يعلم أن ذلك حرام مضادٌ لأمرِ الله مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهل يليق بنا أن نشاهد كل هذا الزور حتى في شهر رمضان؟! شهرُ تحصيل الحسناتِ والتعرض للرحماتِ والبركاتِ
ما هذه التناقضات بين ما تعلَّمْناه من دينٍ وعرفْنَاه من خلقٍ وفضيلة وبين هذه الممارسات التي نعيشُها.. هل الإمساك يكون فقط عن الطعامِ والشرابِ ثم لا نمسكُ عن النظرِ والاستماع للمحرمات
فاتقوا الله أيها الصائمون واتقوا الله يا من ابتلوا بمشاهدة هذه المحرمات إننا نخاطبُ الإيمانَ الذي في قلوبكم ونخاطبُ الصيامَ الذي تصومون أن تتقوا الله جل وتعالى وأن يستحي الواحدُ منا من ربِّه فلا يعصيه بنعمه التي أنعمها عليه!
ألا فلنتق الله أَيُّهَا المسلمون، ولنعرفْ لرمضانَ حقَّهَ وحرمتَه ولنحذر المعاصي والذنوبَ، ولنتبْ إلى الله توبةً صادقةً فإن لم نفعل ذلك في شهر الرحمات فمتى نفعل. أقول قولي هذا ..
أَمَّا بَعدُ ، فَـ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ”
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَمَضَانُ عِندَ المُسلِمِ العَاقِلِ الحَصِيفِ ، مَيدَانٌ لِلتَّسَابُقِ في الخَيرَاتِ لا في الآثام والمضرات، وَمِضمَارٌ لِلتَّنَافُسِ في الطَّاعَاتِ لا في المعاصي والسيئات، وَسُوقٌ رَابِحَةٌ لاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ وليس في الخطيئات ..
رمضان فُرصَةٌ عظيمة لِلتَّوبَةِ وَالإِنَابَةِ وَتَغيِيرِ الذَّاتِ ، وَمَجَالٌ رحب واسع لِلتَّدَرُّبِ على الأَخلاقِ الحَسَنَةِ وَالعَادَاتِ الجَمِيلَةِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الأَخلاقِ السَّيِّئَةِ وَالعَادَاتِ القَبِيحَةِ ..
رمضان فُرصَةٌ عظيمة لِلفَوزِ بِعَظِيمِ الأَجرِ وَنَيلِ جَزِيلِ الثَّوَابِ ، صَلَوَاتٌ مَفرُوضَةٌ وَنَوَافِلُ مَسنُونَةٌ ، وَقِيَامٌ وَتَبَتُّلٌ وَكَثرَةُ سُجُودٍ ، وَصِيَامٌ وَقِرَاءَةُ قُرآنٍ وَتَدَبُّرٌ ، وَذِكرٌ وَدُعَاءٌ ، وَزَكَوَاتٌ وَصَدَقَاتٌ وَهِبَاتٌ ، وَتَفرِيجُ كُرُبَاتٍ وَقَضَاءُ حَاجَاتٍ ، وَتَفطِيرُ صَائِمِينَ وَإِطعَامُ فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ ، وَإِصلاحٌ لِلبُيُوتِ لِمَن فِيهَا ، وَأَمرٌ لَهُم بِالمَعرُوفِ وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَمَضَانُ سَائِرٌ وَلَن يَتَوَقَّفَ ، وهاهو قد مضى منه الثلث ، وَمَا هِيَ إِلاَّ أَيَّامٌ معدودة قليلة وَيُعلَنُ هِلالُ العِيدِ ، وحينها يجد المجتهد سرورا وَبَهجَةٍ ، وَيَمتَلِئُ قَلبُهُ سَعَادَةً وَرَاحَةً ، ويجد مَن فرط وَأَهمَلَ حَسرَةً تَأكُلُ جَوَانِحَهُ ، وَحُرقَةٍ تَلتَهِمُ فُؤَادَهُ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَتَذَكَّرْ هَادِمَ اللَّذَاتِ ، وَلْنَحذَرْ مِن أَخذِهِ عَلَى غِرَّةٍ ، وَوَاللهِ لَيَأتِيَنَّ يَومٌ عَلَى أَحدِنَا وَهُوَ في قَبرِهِ بَعِيدًا عَن أَهلِهِ ، مَرهُونًا بِعَمَلِهِ ، أَلا فَرَحِمَ اللهُ عَاقِلاً انتَبَهَ لِنَفسِهِ وأهله وولده، وَجَعَلَ شُكرَ نِعمَةِ اللهِ عَلَيهِ بِبُلُوغِ رَمَضَانَ جِدًّا في الطَّاعَةِ وَاجتِهَادًا ، وَحِرصًا عَلَى تَحصِيلِ الخَيرِ وإسراعا ورعاية لبيته وأهله بالتربية على الفضائل واجتناب الرذائل ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ “
عبد الله بن علي الطريف
تعديل التعليق